عن التطهّر من رجس إسرائيل والحرب القادمة

جندي من جيش الدفاع الإسرائيلي يوجه سائق دبابة بالقرب من حدود شمال غزة (وكالات)

بعد انتهاء الظاهرة الصهيونية، ممثلة في «دولة» إسرائيل، سيراجع المنظّرون والمفكّرون مفاهيم أثارها كيان عسكري كان يحتل فلسطين. من هذه المصطلحات: «المجتمع»، «الديمقراطية»، «المدني والعسكري». إلى أي درجة نصدّق الادعاء بوجود «مدنيين»؟ أليس المهندس والصيدلي والعامل قوة احتياط؟ تنتهي خدمتهم العسكرية، ويظل السلاح رفيقًا؛ انتظارًا لاستدعائهم إلى حرب جديدة. هم مدنيون بقدر ما كان العاملون في جيوش الاحتلال- قبل غروب الكولونيالية التقليدية- يجلبون أسرهم إلى دول يجنّدون فيها، وينعزلون عن مجتمعاتها. وهل «كانت» إسرائيل ديمقراطية؟ ربما تكون الإجابة: «نعم»، إذا اختص الأمر بالأشكيناز. أما اليهود الشرقيون من أفريقيا والعالم العربي وفلسطين فهم أدنى، ويقل فلسطينيو 1948 درجة عن هذا «الأدنى»

ستجذب انتباه المؤرخين أيضًا ظاهرة اليقظة المتأخرة لبعض الضمائر، بالحد الأدنى من شروط الآدمية، فيختارون مغادرة الكيان الصهيوني، ويبرّئون الذمة بدراسات مهمة، كما يفعل إيفي شلايم وإيلان بابيه، وغيرهما من المؤرخين الجدد المقيمين حاليًا خارج فلسطين المحتلة. وقد يكتبون شهادات تحتمل التطهّر من ماضيهم، وفي الوقت نفسه يتباهون بقدرة كيان لا يأبه لما ينشر في هذه الشهادات. يوثّقون عمليات إجراميّة بأدلة تكفي لتقديم الجناة إلى المحكمة الجنائية الدولية، لو توفّرت في العالم العربي الإرادة. وهل يملك المتواطئون والشامتون إرادة؟ أعد وزير الخارجية المصري محمد إبراهيم كامل، في آذار/مارس 1978، بيانًا يدين «إبادة منظمة للفلسطينيين»، في اجتياح جيش الاحتلال لجنوبي لبنان.

هل أعطوهم العلقة؟

سجّل الوزير، في كتابه «السلام الضائع في كامب ديفيد»، أنه ظل يتصل بالرئيس أنور السادات، وقبيل الظهر استيقظ السادات، وسأله عن سبب اتصاله المتكرر في الصباح؟ فأبلغه الوزير بالعدوان الإسرائيلي، «فقال السادات ضاحكًا: هل أعطوهم العَلْقة ولا لِسّه؟… أدبوهم ولا لسه؟ وفهمت أنه يقصد إن كان قد تم للإسرائيليين تلقين الفلسطينيين درسًا بسبب العملية التي قام بها الفدائيون داخل إسرائيل منذ أيام. وكان الدم يندفع إلى شرايين رأسي وأنا أجيبه: لقد حدث العكس ولقّن الفلسطينيون الإسرائيليين درسًا». لا يوحي الوزير بوجود معرفة سابقة لرئيسه بالهجوم. السادات لم يغضب، ولم يفاجأ بتحرك جيش الاحتلال، وإنما فوجئ بجسارة الفلسطينيين في التصدي للعدوان.

سلوك لائق بكوميديان. ردّ فعل يليق باستمراء الإهانة، ففي 7 حزيران/يونيو 1981 دمرت إسرائيل المفاعل النووي العراقي، بعد دقائق من مغادرة الفنيين الفرنسيين للموقع. وقبل الجريمة بثلاثة أيام التقى السادات ومناحيم بيغن في شرم الشيخ. علم السادات بإغارة قوات العدو على المفاعل؛ فكانت غضبته كوميدية؛ إذ أمر بإيقاف التعاون مع خبراء زراعة إسرائيليين بدؤوا عملهم في أيار/مايو 1981، عقب زيارة شارون بطل الثغرة في حرب 1973 لمصر التي علمت العالم الزراعة. ومن واقعة تدمير المفاعل، أصل إلى كتاب «جواسيس جدعون» لجوردون توماس البريطاني الإسرائيلي. صدر الكتاب في نيويورك 1999، وترجمه في العام نفسه كل من أحمد عمر شاهين، ومجدي شرشر.

كتب لي الصديق الفلسطيني أحمد عمر شاهين هذا الإهداء: «ها هم اليهود على حقيقتهم». كنت عضو هيئة تحرير مجلة «سطور». وبعد المجلة، بدأت دار سطور مشروعًا للنشر بكتابين لكارين أرمسترونج، وتلاهما كتاب جوردون توماس وعنوانه الفرعي: «التاريخ السري للموساد». قرأته فأخافني. هنا في المكتب، في مدخل البناية، في الأتوبيس، في الشارع، في البيت، في أي مكان، جهاز زرعه الموساد، يحصي الأنفاس. الموساد «عين إسرائيل السرية على العالم». والصهاينة حاضرون، لهم في كل مكان أثر، وفي كل «عملية» بصمة. تشمل عملياتهم عمق أفريقيا، وأوروبا، والأرجنتين، ومنها اصطادوا أدولف إيشمان (يصرّ صديقي المترجم سمير جريس على أن النطق الصحيح إيشمان لا إيخمان).

المكالمة الحاسمة

نجح رافي إيتان في اختطاف إيشمان، تنفيذًا لمبدأ «لا نجاة لأي نازي حي». لا أستبعد يومًا يرفع فيه الفلسطينيون شعار: «لا نجاة لأي قاتل صهيوني حي»، والقتلة لا يكذبون. يتفاخرون بجرائمهم منذ النكبة، ويضحكون للكاميرات ساخرين من فلسطينيين عزل قتلوهم حتى نفاد الذخائر. ربما تتحقق جملة قالها إيشمان قبل إعدامه وما تلاه من حرق جثته، وبعثرة الرماد في البحر، إذ أمر بن جوريون ألا يتركوا أثرًا قد يثير التعاطف معه، ويحوّله «إلى معبود نازي». فكّوا الفرن، ولم يستخدم ثانية. في 31 أيار/مايو 1962، قال إيشمان لإيتان في غرفة الإعدام: «سيأتي اليوم الذي تلحقني به، أيها اليهودي». هذا يوم أراه قريبًا.

يشرح الكتاب دورًا خطيرًا للموساد قبل حرب حزيران/يونيو 1967. تأكد لهم أن الوقت الحرج لوحدات الرادار يقع بين الساعة 7:30 و7:45 صباحًا. خلال خمس عشرة دقيقة تكون وردية الليل منهكة، والتالية لم تستعد بعد، «وتتأخر قليلًا بسبب البطء في قاعات الطعام»، حيث يفطرون بداية من الساعة السابعة والربع، لمدة نصف ساعة. إحاطة بكل تفاصيل سلاح الطيران، إذ «كان هناك إما عميل عربي أو أحد رجال الموساد في كل قاعدة جوية مصرية أو رئاسة للأركان، وعلى الأقل كان هناك ثلاثة منهم في رئاسة الأركان العليا في القاهرة». كما تم تسجيل «المكالمة الحاسمة» بين جمال عبد الناصر والملك حسين في بدايات الحرب.

قبل الحرب، استطاع الموساد خلخلة التكوين النفسي والاجتماعي والعائلي لضباط الجيش. كانت عائلاتهم تتلقى خطابات، مرسلة من القاهرة، تتضمن أمورًا محددة تخص تصرفات رجالها. ولاحظ العملاء كثرة الإجازات المرضية «لرجال الطيران لحل مشاكلهم». والضباط يتلقون اتصالات هاتفية مجهولة تتضمن معلومات محددة يعرفونها. اتصلت امرأة بأحد المدرسين، وأخبرته أن سوء أداء التلميذ فلان بسبب أنه «عشيق والدها الضابط الكبير، مما أدى إلى إطلاق الضابط النار على نفسه». تسببت الحملة القاسية، كما يصفها المؤلف، في «شقاق ملحوظ داخل العسكرية المصرية، وأرضت مئير أميت (مدير الموساد 1963 ـ 1968) بشكل كبير». سلوك استخباري قاعدي ناعم لم يضطرهم، آنذاك، إلى انتهاج وسائل إرهاب الدولة.

لا يبالي الموساد بأدوات التنفيذ: اليهود أو المتعاونين. لا يفكرون في العميل «على أنه بشر، إنه مجرد سلاح، وسيلة لتحقيق غاية مثل الكلاشينكوف تمامًا، هذا هو كل ما في الأمر، وإذا تعين عليك أن ترسله إلى حتفه فلا تفكر في الأمر، فالعميل دائمًا مجرد لا شيء، شخص تافه لا شأن له، إنه ليس إنسانًا بالمرة». وفي الكتاب وقائع لملفات مفتوحة، ففي أيار/مايو 1965، طلب الملك الحسن «من الموساد مساعدته في التخلص من بن بركة». الجنرال محمد أوفقير «المخيف» نقل إلى ديفيد كيمحي «ما يريده الملك: رأس بن بركة»، وكان على أوفقير أن يذهب معه إلى إسرائيل، عبر روما، لشرح الطلب.

الاغتيال من العمل

تمارس إسرائيل إرهاب الدولة، تعتبر «الاغتيال جزءًا من العمل». اكتشف الموساد، عام 1977، تزويد فرنسا للعراق بقدرات نووية. فكروا في ضرب المفاعل قبل بدء تشغيله، لكن هذا «سينهي المناورات الدقيقة لإقناع مصر بتوقيع اتفاقية سلام». رصدوا وجود العالم المصري يحيى المشد في باريس، للإشراف على شحن وقود ذري إلى بغداد، فأرسل مدير الموساد إسحاق هوفي فريقًا لاغتياله، «دخل غرفته اثنان بمفتاح ماستر، ذبحاه وطعناه في القلب، ونهبا الغرفة لتبدو العملية وكأنها بدافع السرقة. واعترفت فتاة ليل في الغرفة المجاورة أنها سمعت أصواتًا غير عادية في غرفة المشد، بعد ساعات من تقديم إفادتها… قتلت في حادث سير، ولم توجد العربة قط».

أنهى «فريق القتل» العملية، ولحق بطائرة تل أبيب. هل يكفي توثيق جوردون توماس للجريمة لإعادة فتح الملف؟ من يفتحه؟ العراق جريح، تبعات الاحتلال الأميركي والاحتراب الأهلي تثقله بقضايا أخرى. ومصر ترى ذلك ترفًا، فالكتاب ترجم عام 1999، وأضاف المؤلف فصولًا في طبعة ترجمت في بيروت عام 2007. وفي مصر، نشرت دار سطور ترجمة الدكتورة فاطمة نصر لكتاب «الحرب القادمة بين مصر وإسرائيل»، عام 2016 بعد عامين على صدوره في لندن. والمؤلف إيهود إيلام، المقيم في أميركا، كان مجندًا في فرقة الأسلحة المضادة للطائرات، وبعد الدكتوراه ظل مشاركًا أكاديميًا وعمليًا في دراسة «الإستراتيجية القومية والمبدأ العسكري لإسرائيل»، وعمل في وزارة الدفاع.

هل هذا المؤلف يؤلف؟ من غرفة العمليات يطلعنا على سيناريو حرب حاشدة مكثفة تقتحم فيها إسرائيل سيناء، «وسيعمل الجيش المصري على حماية أرضه، الأمر الذي سيجبر قوات الدفاع الإسرائيلية على تدمير الوحدات المصرية أو إجبارها على التقهقر». ويقول: إن إسرائيل، بعد الحرب القادمة، قد تحتل بعض المناطق في سيناء، وإنها لن تصادف أثناء تقدمها في سيناء «تحصينات كتلك التي كانت موجودة في حروب 1956 و1967، ومن ثم لن يعيق شيء طريقها، ستقوم قوات الدفاع الإسرائيلية بتفكيك أية بنى أساسية يكون الجيش المصري قد بدأ في إقامتها هناك… سوف تبذل قوات الدفاع الإسرائيلية أقصى جهدها من أجل سحق القوات المصرية بسيناء»

رغم معاهدة السلام 1979، يوقن إيهود إيلام بأن مصر تظل «التحدي الرئيسي في أية حرب… قد لا تسعى مصر إلى مواجهة مع إسرائيل، لكن إن حدثت… وبما أن لمصر جيشًا قويًا، فعلى قوات الدفاع الإسرائيلية أن تكون مستعدة لهزيمته، لأنها لو لم تكن كذلك، فقد يغري هذا مصر باختبار قوة إسرائيل. سيكون نجاح مصر في نشر قوات لها بسيناء من دون رد مناسب من جانب إسرائيل- ناهيك عن ثباتها في مواقعها ضد الهجمات الإسرائيلية- ضربة هائلة لإسرائيل». رغم المعاهدة، تظل مصر هي العدو، والسلام معها- كما قال عوزي ديان الرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني- يتأسس على جعل سيناء «منزوعة السلاح».

سيناريو الحرب القادمة- كما يعلن المؤلف- تكرار لاجتياحَيْ 1956 و1967، «بضربة استباقية». وقد مرّ الكتاب في صمت، كأن الحرب- التي يحدد المؤلف الصهيوني تفاصيلها- ستقع في هضبة التبت بين الهند والصين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.