هذه أمة خائفة

غروب الشمس خلف الأراضي الفلسطينية، وسط معارك مستمرة (وكالات)

 

هذه أمّة خائفة، تخاف حتى غدت بلا همّة، فمن خاف قعد، ومن قعد ذل، ومن ذل هان على الناس بعد أن هانت عليه نفسه. فلا غرو، إذن، أن تهون فلسطين على سبع وخمسين دولة خافت، أن تصدع بشجاعة لفظًا وبيانًا، على الأقل، بما يمليه عليها الواجب الشرعي والإنساني، وبما تستوجبه العقيدة الواحدة، وبما تقبله النفوس العزيزة، اللهمّ إلا قليلًا ممن وقفوا دائمًا مع غزة وفلسطين.

وجاء جهاد غزة ليعري ويفضح، ثم لينفث في الأمة، بإذن الله، ما يحييها حين تستجيب لله ورسوله.

فمِّمَ نخاف وكيف؟

نخاف من أنفسنا، إذ يخاف من هو في القمة ممن هم في القاع، فيسلط عليهم عيونه، ويوسع لهم في السجون ويستخفهم، ويخاف من هم في القاع ممن هو في القمة فينافقونه ويسكتون وينصاعون، وتدور الدائرة بلا توقف جيلًا بعد جيل، وتعمى القلوب قبل الأبصار، وتهون النفوس، ويخاف الكل من الكل.

نخاف من الناس حولنا، إذ نخاف أن تتخطفنا الأمم، بعد أن هُنَّا على أنفسنا وعلى الناس. نخاف ممن هم وراء البحار، فلا ندخِل لغزة إلا أكفانًا نواري بها سوءاتنا نحن، فشهداء غزة يستر الله أجسادهم الطاهرة بستره، ويواريهم ثراها المجاهد، لنكتشف- نحن القاعدين تخاذلًا- أن كل ما درسناه عن نيل استقلالنا الحديث، واستعادة حرية أمتنا، سرابٌ تحسبه شعوبنا حقيقة، حتى إذا جئناه وجدناه وهمًا، ووجدنا الله عنده فوَفَّانا حسابنا، وما أغلظه من حساب!

نخاف من الصدق مع أنفسنا؛ إذ نخجل من هواننا، فنَتَلَبَّسُ أقنعة زائفة مزورة، لعل من نخاف منهم وراء البحار يقبلون بنا، لنكتشف أن ذلك مراد لن نناله مهما تعبت من أجله أجسامنا.

أفلا نّتَنَكَّر لتراثنا وهويتنا وديننا ولغتنا حين نرسل أبناءنا إلى مدارس من نخاف منهم، فيتخرج أحدهم يتباهى بالرطين البذيء؟ وهيهات أن يقبلوه متساويًا معهم حتى ينزع عن نفسه آخر انتماء لأمته، فيلفظوه! ويظل بعضهم يلهث، حَمَلْتَ عليه أم تَرَكْتَهُ.

نخاف من الحرية، ومن يخاف منها يخلد إلى الأرض، حتى لا يرى بيارقها المضرجة، فيستمرئ الاستعباد. فكم من عبد آثر القيد على الانعتاق، فظل يرسف حتى الممات، في طاعة سيده؛ خوفًا من الجوع! وكم من بلداننا تكبلها هذه الأيام أغلال الديون فتؤثر إملاءات سادة ما وراء البحار، فلا تهب لنجدة من يرفعون بيارق الحرية، بل تخاف أن تصل إليها من غزة وفلسطين رياح الحرية، فيتغير الحال بأحسن منه بعد خوف وهوان.

نخاف من وحدة أمتنا أرضًا ومصيرًا، فنتقوقع وراء الحدود متفرّقين وتذهب ريحنا، فيؤكل الواحد منا أمام الآخر، ولات حين مندم! وما طوائف الأندلس وبلاد الشام منا ببعيد.

نخاف من العلم والعقل فنقمعهما، ونَعْمَهُ بلا فكر ولا مراجعة، ونظل ندور وندور كما يفعل من قيدوه للساقية، يسقي غيره ويموت وهو مقيد. أَوَ لا يتخرج أبناؤنا من جامعاتنا، مهندسين وأطباء وعلماء ومفكرين، فيرحلوا إلى بلاد ما وراء البحار حين تقمع عقولهم، أو حين لا يجدون العدل في فرص العمل؟

نخاف من العدل فكثر فينا الفساد، فساد في حكم العباد والبلاد، فساد في الإدارة، فساد في الموارد وتوزيع الثروات، بل حتى فساد في التدين والمتدينين. أوَ لا تتصدر بعض دولنا القوائم العالمية لأكثر الدول فسادًا؟

نخاف من الكلمة الحرة والرأي الشجاع فنسكت خانعين، أو نرفع أصواتنا بالباطل ومع أهله. أو لا ترون كيف أن بعض شاشاتنا الناطقة بالعربية تهلل لمن يسفكون دم أهل غزة، وتعتبر رسالة الشاشة التي تقف مع غزة ترويجًا خارجًا عن قواعد المهنية، كما يحلو لهم أن تكون؟

بذرة الخير

قد يتّهمني نفر من الناس- أحسبهم من المخلصين- بالتثبيط إذ أقول ما قلت، وسيقولون الخير في الأمة إلى يوم الدين، مصداقًا لحديثه صلى الله عليه وسلم، وهو كذلك، ولكن حتى تصبح بذرة الخير هذه فعلًا يغير واقعًا ويحيي نفوسًا، فلن تبرح مربع الإيمان الناقص حتى عن حدود الأضعف من الإيمان.

آن الأوان أن نُمَكِّنَ لبذرة الخير التي غرسها في الأمة نبينا- محمد صلى الله عليه وسلم، وروَّاها صحبه بدمائهم وعقولهم- حرمًا آمنًا فاعلًا في قلوبنا حتى تستغلظ وتستوي على سوقها لتغيظ أعداءنا.

ولن تصبح هذه البذرة فعلًا يغير حتى تنقشع سحب الخوف من النفوس، وهل يكنس السحاب الداجن المظلم بلا مطر إلا الرياح الهطول؟ وهل تهتز الأرض وتربو إلا من بعد غيث عميم، فيخرج منها الخبء الذي ينتظره خلق الله جميعًا؟ وهل يملأ الخبء خوابيَ الناس إلا من بعد أن تحصده المناجل وتذرو تبنه السواعدُ على بيادر الغلال؟

وأستميح من سبقني بالتشبيه حين أقول: غزة اليوم مثل "ناقة صالح" عقرها قومه فدُمْدِمَ عليهم، فعسى أن ننزع الخوف من نفوسنا كما فعل أهل رباط عسقلان، فلا نهون ولا يدَمْدَم علينا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.