"عريس الحمدانية" المنكوب. لماذا "العراقيّ" يفقد حياتَه دون جريرة؟

أسر ضحايا عُرس الحمدانية أثناء تشييعهم الى مثواهم الأخير (الأناضول)

 

"إننا هنا أحياءٌ أمامكم. لكننا أمواتٌ من الداخل".. هكذا، يصفُ عريس "الحمدانية" ريفان أيشوع، مأساتَه وعروسه حنين، بعد الفاجعةِ التي عاشاها، عندما التهمت النيرانُ "في ثوانٍ معدودة" صالةَ الأفراح المُقام بها حفلُ زفافهما.. قُتل خلالها 107 من الحاضرين، وأُصيب نحو 150 آخرين بحروقٍ متباينة الشدّة (حَسَب البيانات الرسمية).

العريسُ المنكوب روى لشبكة "سكاي نيوز" البريطانية، ما جرى في الليلة المشؤومة عندما انقلبَ حفلُ زفافه إلى كارثةٍ ومأتم كبير. ومما قاله ريفان: إنه بينما كان يرقصُ مع عروسه، أظلمت القاعةُ فجأة، وانهالت عليهم النيرانُ من سقف الصالة الذي تلاشى في لمح البصر، لتعلوَ صرخات واستغاثاتُ الحضور. "ريفان" الذي فقد 15 شخصًا من أقاربه في الحريق، سحبَ "عروسه" التي فقدت والدتَها وتسعة آخرين.. جذبها عَنوةً هاربًا معها من باب المطبخ، محاولًا تحريرَها من ويلات الدهس بسببِ فستان الزفاف، وتدافع الهاربون من جحيم المحرقة التي أمسكت بتلابيبِ الجميع. الحريقُ وقعَ في قاعة أفراح ببلدة "قرقوش" ذات الأغلبية المسيحية، التابعة لمِنطقة الحمدانية بالموصل العراقية، وهي ضمن بلدات مسيحية أخرى، عانت من اضطهاد تنظيم داعش للمسيحيين عند سيطرته على مناطق عراقيّة (نهاية 2013- 2017).

20 ألف حريق. وقتلى حرائق مستشفيات كورونا

وقد جرت صباح يوم الخميس الماضي، مراسمُ القُدَّاس للصلاة على أرواح الضحايا بـ "كنيسة البلدة"، وهي للسريان الكاثوليك. تقريرُ اللجنة الحكومية لتقصي أسباب الحريق، أكدَ أنّ الحريق غير مُدبّر، وأنّ عدد الحاضرين للزفاف 900 شخص، بينما تتسعُ القاعة لـ 500 فردٍ فقط، وأرجعَ أسباب الحريق إلى الألعاب النارية، ومخالفات البناء، واستخدام موادّ بناء سريعة الاشتعال، وألقى بالمسؤولية على مالك القاعة. الفاجعة، تُسلط الضوءَ بشدّة، على الفساد والإهمال المستشري في العراق، وشيوع المحسوبية، والرِّشا، تغييبًا لـ "القانون"، الذي لا تنقصه الضوابط والعقوبات.. لكنها غلبة الفوضى، والقبليّة، والمذهبية، والطائفية التي تُتيح الحمايةَ للمخالفين مقابل مصالحَ ضيقةٍ ومساومات مقيتة. معلوم أنّ أعمال البناء (سواء عامة أو خاصة)، ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق (2003- 2011م)، غارقةٌ في المخالفات.. تخاصم الضوابط المقررة، وتفتقد لـ "شروط الأمن والسلامة"، سواء من ناحية البناء أو مواده، أو التوصيلات الكهربائية، أو توفر مستلزمات إطفاء الحرائق. مثل هذا الحريق الكارثي، بقاعة أفراح الحمدانية.. ليس جديدًا على العراق، وأظنه، لن يكون الأخير، فقد شهدت البلاد، خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، نحو 20 ألفَ حريق (طبقًا لمصادر عراقية). على سبيل المثال، اشتعل "حريق" بمستشفى ابن الخطيب في العاصمة بغداد (إبريل/ نيسان عام 2021)، وآخر بمستشفى الحسين بمدينة الناصرية (يوليو/ تموز2021)، راح ضحيتهما 174 قتيلًا، وأصيب 220 آخرون، وجميعهم مرضى كورونا.

الأميركان.. وإيقاظ النعرات القبلية والطائفية

 

رغم زوال الاحتلال الأميركي منذ 12 عامًا، فلم يتغير الحال سوى إلى الأسوأ.. فقد صنع "المُحتَل"، قاعدة واسعة للفساد، وطبقة كبيرة من "المُفسدين، واللصوص، والعُملاء"، ومكّن لهم. مثلما فجّر النعرات القبلية والنزعات الطائفية والمذهبية، وأشعل الصراعات بين الجميع، بما أسفر عن مقتل وتشريد وتهجير مئات الألوف من العراقيين على خلفية الصراعات الطائفية والقبلية. هذه التركيبةُ القبلية والتعددية للمجتمع العراقي، تعايشت سلميًا في ظل نظام الرئيس الراحل صدام حسين، والذين قبله، رغم استبداده، والدكتاتورية التي ميزت حكمه.. إلا أن "الأمريكان" شأن أي مستعمر، سعَوا إلى إثارة الفتن، بإيقاظ هذه النزعات، واستدراج العراقيين إلى الصدام والصراع، والوقوع في شرك الاقتتال والقتلِ على الهُوية، وهو ما كَلّف العراقيين أثمانًا غالية من الأرواح والممتلكات، ولا يزالون.

الحكومات العراقية المُتعاقبة، ورغم الشكل الديمقراطي، بوجود أحزاب وانتخابات برلمانية، فإنها أصلًا تخضع لحسابات المصالح والمغانم، والحصص للطوائف والقبائل، وهو ما جعل العراق دولة فاشلة أو شبه دولة.

المُحزن أنه ليست هناك إرادة لإصلاح أحوال البلاد المتدهورة سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، وأمنيًا، فالغالبية تسعى لجني وحماية المغانم والمكاسب ولو على جثة العراق شعبًا ودولة. الحكومة العراقية، غسلت يدَيها من الكارثة، بإقالة عدد من موظفي البلدية، بينهم عمدة البلدة، وإحالة بعضهم للتحقيق أمام الجهات القضائية. بدوره، قام رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، بزيارة البلدة يوم تشييع الضحايا (الخميس)، لتقديم واجب العزاء.

امتصاصُ الغضب الشعبي المُصاحب للفواجع.. وحياة المواطن الرخيصة

 

هذا المسلك الحكومي العراقي هو المُعتاد في الكوارث التي تحلّ بالمواطن في العديد من بلدان العرب، وليس العراق وحده.. أي التضحية بعددٍ من صغار الموظفين، بإحالتهم إلى التحقيق أو الاستيداع، امتصاصًا للغضب الشعبي المصاحب لمثل هذه الفواجع. هكذا، ينجو الوزراء والمسؤولون الفعليون من المحاسبة، والعقاب. يرجع هذا الأسلوب للحُكام، في التعامل مع "الكوارث"، في العراق وغيرها من البلدان المشابهة (ليبيا وفاجعة درنة مثالًا)، إلى تدني قيمة الإنسان، في نظر هؤلاء الحُكام الذين لا يعنيهم كثيرًا، المواطن، ولا حياته (الرخيصة). المُهم لدى الواحد من هؤلاء الحكام الظالمين لشعوبهم؛ هو الاستمرار على عرشه، ولو ضاع الوطن و"المواطن"، فالأخير مجرد رقْم، يمكن مراضاة ذويه بقليل من المال تعويضًا، وليس هناك ما يمنع من قيام مسؤول هنا أو هناك بمواساة ذوي الضحايا بكلماتٍ باهتة ومشاعر مصطنعة لن تعيدَ القتلى إلى الحياة. لا جدالَ في استحقاق الموظفين المتهمين ومالك صالة الأفراح، ببلدة "قرقوش" المنكوبة، أشدّ العقاب، إن ثبتت إدانتهم. لكن، هل كان هؤلاء الجُناة المتهمون، يجرؤون على الإتيان بهذه الجرائم، التي أسفرت عن هذه الفاجعة الإنسانية الموجعة، لولا أن البيئة العامة والمحيطة من أعلى هرم السلطة وحتى أدناها، تتسعُ لاستيعاب هذه الممارسات الإجرامية، وتتسامح معها؟. الإجابة.. قطعًا، لا، وتلك هي القضية التي تحتاج للعلاج، فلا شيءَ سيتغير، وستبقى أحوال بلداننا العربية التي نتحدث عنها متردية، من سيئ إلى أسوأ، ما دام الفساد والإهمال والقبلية والطائفية والمحسوبية تنخرُ في مجتمعاتنا، وما دام الإنسان رخيصًا بلا قيمة، في مثل هذه النظم المستبدة للحكم. للأسف.. ستتكرر الحرائق والكوارث والفواجع الإنسانية التي يدفع ثمنها المواطن المسكين، في غير بلد عربي، دون ذنب جناه أو جريرة، حتى إشعار آخر.

نسأل الله الرحمة للموتى، والصبر لذويهم، والشفاء العاجل لجرحى الحريق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.