طوفان الأقصى.. المباغتة والتوقيت وهشاشة الاحتلال

عراقيون يحرقون الأعلام الإسرائيلية خلال مسيرة أقيمت وسط بغداد (الفرنسية)

الطوفان في اللغة هو ما كان كثيرا أو عظيما من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره. وهذا بالفعل ما حدث عندما طغت العملية العسكرية التاريخية التي قامت بها كتائب عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس صباح السبت على كل الأجندات الأخرى؛ على الحرب الروسية الأوكرانية ومنافسات الانتخابات الأميركية وعلى بقية ترندات الأخبار الإقليمية والعالمية.

يزداد الأمر عظمة عندما يرتبط هذا الطوفان بمعان مقدسة وروحية سامية حيث تم ربط الطوفان بالأقصى في معركة "طوفان الأقصى"؛ فالأقصى قبلة المسلمين الأولى ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتعرض لأبشع أنواع الاعتداء والانتهاك من الحكومة الصهيونية ومن المستوطنين بشكل لا يحتمل. حيث انطلق المقاتلون كسيل يغشى الأرض وهم يدركون أن هذه معركة للأقصى تستحق أن تكون تاريخية وغير مسبوقة وتُدفع العدو ثمنا باهظا ليعلم أن الاعتداء على المسجد الأقصى لا يمر بلا حساب.

في الساعة الأولى للمعركة كان هناك عنوان قيادي واضح لا لبس فيه بكل ما يعنيه من ثقل وإجماع وطني؛ وهو القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، حيث خرج ببيان رزين ومحكم أوضح فيه خلفية وأهداف المعركة والمطلوب من الجهات المختلفة وكان الأهم فيها هو ربط أهداف العملية بالاعتداءات المستمرة على المسجد الأقصى خلال الأسابيع الأخيرة والتي قامت الحكومة الصهيونية الفاشية بتغطيتها ورعايتها وخاصة من قبل الوزيرين سموتريتش وإيتمار بن غفير، حيث اقتحم أكثر من 42 ألف مستوطن المسجدَ الأقصى منذ بداية عام 2023 وخاصة في الأسابيع الأخيرة خلال الأعياد اليهودية.

على كل حال الطوفان يحصل كما في الذاكرة الإنسانية بسبب الفساد والطغيان وقد أفسد الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنوه باستباحة المسجد الأقصى وبالاعتداء بدم بارد على أقدس المقدسات يوميا ومع سبق الإصرار وببجاحة غير مسبوقة.

ما قبل الطوفان

لقد تم توجيه نداءات وتحذيرات للحكومة الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية بكثافة ليلا ونهارا وتم إبلاغ الوسطاء كافة سرا وجهارا بدعوة الاحتلال لتجنب المساس بالمسجد الأقصى ووقف انتهاكاته واعتداءاته على المصلين والنساء والأطفال في القدس، لكن الاحتلال تجاهل ذلك ومكر مكرا كبّارا، ولم تزد النداءات المستوطنين إلا تماديا وإصرارا في الاعتداءات سواء في القدس أو في الضفة الغربية، وترافق مع ذلك توجه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى مزيد من الاجراءات الانتقامية من الأسرى في السجون لتنغيص حياة 5 آلاف أسير فلسطيني مما زاد من تسخين الأمور.

على المستوى الإقليمي والدولي باتت وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيلي وأدواتها الدبلوماسية في قلب مسعى حثيث تتنقل فيه عبر عواصم الدول الإسلامية لتطبيع علاقاتها ككيان مشروع ومتفوق في المنطقة وكانت هناك إرهاصات بأن عددا من الدول الإسلامية باتت قاب قوسين أو أدنى من التطبيع الرسمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي رغم أنه يُقاد بحكومة هي الأكثر فاشية في تاريخه ورغم كونه في ذروة اعتداءاته على المقدسات الإسلامية في القدس والخليل وعلى أبناء الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده في فلسطين. وفي هذه اللحظة السياسية جاء قرار هذا الهجوم غير المسبوق.

المفاجأة والمباغتة

لم تستيقظ دولة الاحتلال الإسرائيلي فحسب بل استيقظ العالم كله على وقع مفاجأة عسكرية غير مسبوقة مع قيام مئات من مقاتلي كتائب القسام بهجوم بري قوي وبالمظلات عبر قرابة 14 مجموعة مهاجمة على مستوطنات ومواقع عسكرية للاحتلال الإسرائيلي في محيط 40 كيلومترا في غلاف غزة. وقد تم الهجوم بغطاء صاروخي شمل إطلاق 5 آلاف صاروخ لم تستطع القبة الحديدية إسقاط أي منها خلال 20 دقيقة استطاع فيها المقاتلون السيطرة بالكامل على عدة مستوطنات بدأت بالسيطرة على موقع قيادة غزة التابع للجيش الإسرائيلي.

ولقد شكّل هذا الخبر صدمة مهولة للاحتلال وحكومته وأجهزته الأمنية والاستخبارية التي يبدو أنها لم تفق من الصدمة حتى الآن، كما كان الهجوم بمثابة حلم بالنسبة لكل فلسطيني منّى النفس بزوال الاحتلال والعودة إلى أرضه التي احتلت عام 1948 أو عام 1967.

لقد تحقق هذا الحلم بالنسبة للفلسطينيين من خلال خطة محكمة يبدو أن قيادة كتائب القسام عملت على إعدادها والاستعداد لها على مدار سنوات بسرية بالغة حيث حققت مباغتة عالية اختارت توقيتها ومكانها وأدواتها يحق لها أن تدرس في كافة الأكاديميات العسكرية.

اختيار التوقيت

لقد عملت حركة حماس على تصعيد العمليات العسكرية ضد الاحتلال في الضفة الغربية خلال الأشهر الأخيرة لمواجهة مشاريع التهويد والاستيطان ووقف تغول المستوطنين وبذلت في ذلك وسعها مما جعل جيش الاحتلال الإسرائيلي ينقل عددا كبيرا من قواته من الحدود مع غزة إلى الضفة الغربية لحماية المستوطنات ومواجهة أي تصعيد محتمل، وهذا مهد الطريق أمام تسهيل الطريق أمام المقاتلين الذين انطلقوا نحو أهدافهم المدروسة مسبقا.

لقد فرض الاحتلال الإسرائيلي إغلاقا شاملا على الأراضي الفلسطينية منذ 29 سبتمبر/أيلول وحتى ليل السبت السادس من أكتوبر/تشرين الأول بسبب مناسبة عيد العرش آخر الأعياد في فترة الأعياد اليهودية، وكانت هناك معلومات لدى المقاومة -كما أفاد الشيخ صالح العاروري نائب قائد حماس- بأن قوات الاحتلال كانت تستعد لتوجيه ضربة استباقية للمقاومة في غزة لدورها في إسناد المقاومة في الضفة الغربية، ومع هذين المعطيين باغتت المقاومة الاحتلال في فترة استرخائه واطمئنانه وتحلله من كل أنواع الجهوزية العسكرية مع آخر ليلة في الأعياد واستبقت ضربته بضربة لم تكن في الحسبان ولا في الخيال.

ويأتي توقيت المقاومة في الذكرى الـ50 لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي وجهت فيها مصر وسوريا ضربات منسقة ضد الاحتلال الإسرائيلي في سيناء والجولان، وقد تشابهت في العموم مع هذه الحرب في إخفاق الاستخبارات الأميركية في توقعها والارتباك والصدمة ومن ثم الضوء الأخضر الأميركي ويبقى أن تحدث أزمة كبيرة في الولايات المتحدة تصبح فيها إسرائيل أكثر انعزالا لتكتمل مشاهد التشابه مع أكتوبر/تشرين الأول 1973.

وعلى كل حال فإن رمزية تمثيل المقاومة الفلسطينية لامتداد انتصارات الشارع العربي المتعطش للانتصارات منذ 50 عاما هي الصورة الأكثر أهمية هنا والتي تزداد حيوية كلما أحدثت مزيدا من الأثر في التضامن العملي من الشارع العربي الملتهب، وقد جاءت بعض الإشارات الأولية لهذا التضامن في استهداف شرطي مصري لإسرائيليين في الإسكندرية وإطلاق بعض المقذوفات من لبنان وينتظر المزيد من الحراك والتفاعل.

هشاشة الموقف الاسرائيلي

  • لقد كان التصور لدى العقل السياسي والأمني الإسرائيلي أن حركة حماس مرتدعة ولن تجرؤ على القيام بعملية هجومية محدودة فضلا عن عملية بهذا الحجم، وذلك بالنظر إلى الصعوبات التي يواجهها قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من 15 عاما وبالنظر إلى موقف الحركة المتحفظ على الانخراط في بعض جولات القتال المحدودة التي اندلعت خلال العام الحالي.
  • ثانيا لم يكن لدى أجهزة العدو الاستخبارية أدنى فكرة أو حتى شبهة عن إمكانية وقوع مثل هذه العملية رغم وجود مئات المقاتلين الذين كانوا يستعدون لخوضها وآلاف الصواريخ التي تم تربيضها، ولقد تم ترتيب كل شيء بعناية فائقة أظهرت تفوق العقل الأمني الفلسطيني.
  • ثالثا على المستوى العملياتي لم يستطع العدو التعامل مع هذه المعركة حتى بعد ساعات من بدايتها، فلقد كان المقاتلون يسيطرون على المواقع العسكرية تلو الأخرى ويتجولون فيها ويعودون بالأسرى بدون أن يستطيع الاحتلال الإسرائيلي أن يقدم الدعم والإسناد لقواته التي تتعرض للمباغتة. ولم يقم سلاح الجو الإسرائيلي المشهور بتفوقه بأي حركة لمواجهة المقاتلين في الساعات الأولى. كما استطاعت المقاومة أن تستبدل بعدد من المهاجمين مهاجمين جددا وتمد المهاجمين الذين تقدموا في الصباح بإمدادات في السلاح والعتاد. ولا تزال العمليات حتى كتابة سطور هذا المقال مستمرة داخل سديروت وفي بعض التجمعات الاستيطانية في الداخل المحتل.
  • رابعا: من زاوية أخرى لم تشارك في عمليات طوفان الأقصى سوى أعداد قليلة تقدر بأقل من 10% من قدرات كتائب القسام واستطاعت أسر أكثر من 100 أسير عسكري من جنود وجنرالات الاحتلال الذين تم سحبهم من مواقعهم ودباباتهم، الذين تم نقلهم إلى قطاع غزة على الدراجات النارية والذين تم أسرهم ضمن خطة محكمة سيتم بموجبها تفادي ردة فعل إسرائيلية مجنونة نسبيا وسيتم العمل على تبييض السجون وتسريع حرية 5 آلاف أسير.

ختاما؛ قد لجأ العدو لموقف أميركي مساند لعلاج ارتباكه وللملمة صفوفه ولكن مهما حصل فإن الإسرائيليين سيظلون يعيشون هاجس الطوفان، وقد يلجأ نتنياهو إلى ردود قاسية ولكن العدو وضع كل سيناريوهاته على حسابات لم يدخل فيها هذا الطوفان. وسيحتاج الكثير من الوقت، وقد لا يجده لوضع خطط تتناسب مع ما حدث. كما أن من هندس هذا الهجوم بنجاح ونفذه بنجاح وتمت الأمور كما هو مخطط لها بنسبة كبيرة جدا لا يتوقع منه أن يغفل عن الاستعداد للتعامل مع ردود العدو الذي تلقى ضربة أذلته وأظهرت أنه ليس إلا نمرا من ورق.

لقد فُتحت صفحة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية كنا نحسب أن معركة القدس فيها معركة فاصلة ولها ما بعدها؛ لكن ما حدث اليوم وأمس هو من فصول التاريخ العسكري الإنساني وسيكون له انعكاسات كبيرة جدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.