قبول الآخر ومتلازمة ستوكهولم

متلازمة ستوكهولم هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف مع عدوه أو من أساء إليه (غيتي إيميجز)

في عام 2005 تعرض بعض "المثقفين" بمصر لهجوم عنيف، لدعوتهم "للاحتفال" بمرور 200 عام على الحملة الفرنسية على مصر وتجاهلهم النهب والإعدامات وانتهاكات حقوق المصريين، وتغنوا "بالتنوير" الفرنسي، ومنذ عامين احتضنت مطربة لبنانية مشهورة الرئيس الفرنسي "ماكرون" وتشبثت به كطفلة "تحتمي" بأبيها، وقدم له بعض اللبنانيين وثيقة مطالبين بعودة احتلال فرنسا لوطنهم وهو أمر مرفوض، حتى مع "المكايدة" السياسية.

نرى يوميا الكثير من "رضوا" -مثل هؤلاء- لأنفسهم العيش بمتلازمة ستوكهولم بنسب متفاوتة. في 1973 بعد السطو على بنك في ستوكهولم واحتجاز رهائن فوجئ العالم بدفاع الرهائن عن الخاطفين باستماتة بعد إنقاذ الشرطة لهم، وجمعهم تبرعات للخاطفين وتعاطفهم بقوة معهم. صرخت إحدى الرهائن في وجه رئيس الوزراء أثناء سعيه لإنقاذهم وأكدت أنهم لم يسيئوا إليهم، وكأن الاحتجاز القسري في حد ذاته ليس إساءة.

من هنا جاءت تسمية متلازمة ستوكهولم (Stockholm syndrome) وهي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال أو يُظهر بعض علامات الولاء له أو التعاطف والانسجام، وقد تصل لدرجة الدفاع عنه والتضامن معه.

هذه المشاعر تكون مشاعر غير منطقية ولا عقلانية في ضوء الخطر الذي يحدث لها بالفعل، إذ تفهم الضحية بشكل خاطئ عدم الإساءة أنه إحسان ورحمة.

تكرر دفاع بعض من تعرضوا للاحتجاز القسري وأحيانا للاغتصاب عمن "انتهكوا" آدميتهم.

يرى البعض أن هذه حالات استثنائية لا يُقاس عليها، إلا أن الواقع يثبت وجودها بكثرة في عالمنا المحيط بنا.

واحد من أهم الأمثلة التي أراها تطبيقا على هذه المتلازمة هي ما يسمونه بـ "قبول الآخر". أولئك الناس الذين يختزلون هذا الآخر في الغرب الأميركي والأوروبي ويفيضون حبا وعذوبة وأحيانا خشوعا عندما يتكلمون عنه، ويتجهمون وينتفضون وقد يزدرون الآخر الأفريقي والآسيوي والآخر بالبلد ذاته، وأحيانا بالعائلة نفسها.

تراهم يصرخون في وجوهنا: عندما تسافرون للخارج لا تفعلوا ما يناقض عاداتهم، وعندما يزورنا الأجانب يصرخون: كفى تخلفا، ولا تفرضوا عليهم احترام عاداتكم الغريبة، يجب أن نتماشى معهم إذا كنا فعلا نقبل الآخر.

في الحالتين نحن فقط من يجب علينا أن نحترم الآخر، ونقبل ونتماشى مع سلوكه وعاداته وطريقته. وحدنا من يجب أن نخضع. فلماذا يزرع البعض الدونية داخل عقله وقلبه وينشرها باستماتة بين بني وطنه وكأنه ليس وحده من يتعرى من جذوره؟

من حقنا التساؤل، ومن حقنا أن نعرف أيضا الموقف حين يكون هذا الآخر ليس غربيا، هل نتقبله أم نسخر منه؟ هل نرى مزاياه؟ أم إنه كتلة عيوب؟ وماذا عن مجازر الغرب التاريخية والمعاصرة ضدنا؟ وماذا عن الآخر بنفس الدين واللغة والوطن؟ ونعني الوطن العربي كله وليس الوطن بمفهومه الضيق.

نرى الكارثة في انبطاح عدد غير قليل أمام الآخر الذي يزدريه ولديه تاريخ بشع في استغلاله ونهب ثرواته، ويزينون هزيمتهم لأنفسهم "بادعاء" التسامح أو التماس العذر والحقيقة أنهم يجسدون المثل البشع، اليد التي لا تستطيع قطعها، قم بتقبيلها.

لن يمحو الخوف من المواجهة نتائج الاعتداء، وسيرسخ في العقل استحقاق الضحية له ويزيد الانسحاق أمام المعتدي والتطاول على من يقدره، ربما لتعويض النفس عن الانبطاح أمام الآخر الظالم، ونهديهم قول "كيسنجر" بعد طرد السادات للخبراء الروس: "كنا سندفع له الكثير ليطردهم، ولكنه لم يطلب ولا أحد يدفع ثمن شيء بعد الحصول عليه مجانا".

مثال آخر على وقاحة الآخر الذي ينبهر به البعض تصريح للمتحدث باسم الخارجية الأميركية يقول فيه "نشعر بقلق إزاء كيفية تأثير تلك التعديلات على ممارسة حقوق الإنسان والحريات الأساسية في إندونيسيا". كان فيه يعبر عن قلق بلاده لتجريم البرلمان الإندونيسي العلاقات الجنسية خارج الزواج ومراقبتهم تأثير ذلك على الحريات في إندونيسيا، بل إن ذلك قد يضر بالاستثمار في البلد.

قال غاندي: "سأفتح نوافذي بشرط ألا تقتلعني من جذوري"، ووصل نجيب محفوظ للعالمية باعتزازه "بمحليته"

ولمثل هؤلاء نقول: من أنتم؟ ويمكن أن نرد عليهم بكلام "روب مور" الكاتب البريطاني الشهير واعتراضه على الاحتجاجات ضد قطر لمنعها الكحول في ملاعب كأس العالم ولرفضها للمثليين، وأشار إلى غرور الغرب واعتقاده بامتلاكه الطريقة الوحيدة للعيش وبحقه في الذهاب للآخر والإملاء على مختلف الثقافات والشعوب كيف يعيشون حياتهم وفرض آراء الغرب عليهم كالذهاب لمنزل أحدهم وإعادة ترتيب أثاثه وتربية أطفاله وانتقاد عاداته وثقافته.

لا نجد ردا أفضل من القول البديع للإمام علي كرم الله وجهه: "إذا وضعت أحدا فوق قدره فتوقع أن يضعك دون قدرك".

قبول الآخر سلاح ذو حدين، فالقبول "الذكي" يجنبنا صراعات تعطلنا ونستفيد بمزايا الآخر، والقبول "الخاضع" وربما المنبهر ينتهك أعمارنا بكل ما تعنيه الكلمة، فالانبهار "يطفئ" البصيرة ويسهل الانقياد بلا وعي والأحكام المسبقة بالسلب والإيجاب "خطيئة" عقلية، فلنتحرر منها في قبول الآخر في السياسة والزواج والأسرة والعمل.

لن نبحث عن مرآة نرى فيها أنفسنا ولن نتخلى عن أنفسنا لنكون ذيلا لغيرنا، فقبول الآخر لا يعني التخلي عما يميزنا والسير وراءه ولا الخضوع له وتقليده "والتمسح" به سعيا وراء مكانة أكبر، فالنسخة المصورة مهما بلغ تقليدها من براعة ستظل نسخة وليست أصلا، "وسيلهث" المُقلد دائما وراء من يقلده وسيقوم بوأد مكانته الحقيقية التي تفوق التقليد، وسيزرع بعقله ووجدانه "الضآلة" والاحتياج الدائم مهما علا مكانه في المجتمع "بسبب" تقليده.

قال غاندي: "سأفتح نوافذي بشرط ألا تقتلعني من جذوري"، ووصل نجيب محفوظ للعالمية باعتزازه "بمحليته"، وحاول كثيرون الوصول للعالمية بنشر كل ما يناهض مجتمعه والمتاجرة بعورات ونقائص مجتمعه العربي، ولا يوجد مجتمع يخلو منها "وفشلوا".

فلنبدأ بالقبول الإيجابي للنفس قبل قبول الغير، وتقدير واحترام النفس والاعتزاز بها وطرد التفكير ولو لثانية في التعامل مع الآخر بدونية نفسية وعقلية، والتأقلم أو التكيف والمرونة لا يعني التخلي عن فرديتنا، وقبول الآخر بنفس اللغة والدين والوطن أولى وأهم من قبول الآخر.

نرفض التبعية العمياء وندعو للحوار من منطلق احترام الذات "بإيجابية" تدفعه لقبول وأخذ "فقط" ما يضيف إليه ولفظ وطرد كل ما يخصم منه.

ولننتبه للآخر في علاقات العمل والزواج والصداقات، فمعظمنا "يستنزف" بعض طاقاته وأعماره في الضيق مما يقوله أو يفعله الآخرون، وكأنه "الكتالوج" الذي يجب أن يسير عليه الجميع، ولا بد من الاختلاف وأحيانا التعارض في الآراء والمصالح، ويجب تقبل ذلك دون التنازل عن حقوقنا أو التخلي عن تفردنا الإنساني أبدا، وادخار العمر للأهم بشرط الاحترام "المتبادل" للاختلاف.

نجد الكثيرين من الجنسين ومن كل الأعمار "يضيقون" حياتهم بمحاولة إجبار من يتعاملون معهم من شركاء حياة وأبناء وزملاء عمل وأصدقاء على "التطابق" معهم، وإن لم يفعلوا أشعلوا نيران الغضب، والأذكى التركيز على كيفية إدارة الاختلافات بأقل خسائر ممكنة.

المؤلم أن من يفعلون ذلك نجدهم يتساهلون مع من تسببوا بإيلامهم ويفتشون عن مبررات لهم، وقد ينضمون لهم ضد من يحبونهم وكأنهم "يتنفسون" متلازمة ستوكهولم، فنجد من يمتدحون من يسيئون لتيارهم السياسي، وموظفين يبررون ظلم المديرين، وفقراء يتعاطفون مع أغنياء يظلمونهم ويتعالون على ضعفاء مثلهم وتصيد الأخطاء لهم، والدفاع عن أخطاء بعض الأطباء بأنهم يرون الكثير ويتعبون، وكأنهم لا يتقاضون أجرا، فحتى المتطوع مطالب بالاهتمام بعمله وإن أخطأ يعتذر.

أما متلازمة "ليما" (Lima syndrome) فلا يعرفها الكثيرون، وهي النقيض لمتلازمة ستوكهولم، فيها يتعاطف العدو أو الخاطف مع المعتدى عليه (الرهائن) بدافع الرحمة والتعاطف والشفقة.

قد جاء المصطلح بعد حادثة اختطاف الرهائن المدعوين في حفل رسمي برعاية السفير الياباني في مقر السفارة في ليما (البيرو) في عام 1996، عندما احتجز 14 عضوا من حركة مسلحة تعرف باسم توباك، مئات الأشخاص كرهائن كانوا يحضرون حفلة في المقر الرسمي لسفير اليابان. ثم ما لبث أن أفرجت حركة المقاومة عن معظمهم الرهائن، بمن فيهم أهم الشخصيات، بعد ساعات قليلة فقط من الخطف، وذلك بدافع التعاطف معهم.

يذكر أنه أثناء فترة الاحتجاز التقطت مروحية محاصرة للسفارة صورا تُظهر عناصر الجماعة المسلحة وهم يلعبون كرة القدم مع الرهائن في الحديقة الخلفية للسفارة، وهو ما اعتبره البعض محاولة منهم للتخفيف عن الرهائن، وبعد فترة بدأ الخاطفون في إطلاق سراح المحتجزين تباعا دون أسباب واضحة، ومع إطلاق سراح الرهائن أطلق مصطلح "متلازمة ليما" على تلك الحالة التي يتعاطف خلالها الجاني مع الضحية.

نتمنى ألا ينتظر من يقبلون بالآخر المتغطرس المنتهك لحقوقهم أن يمن عليهم بفتات من متلازمة "ليما"، فسيطول الانتظار وتضيع الأعمار ولن تعود ولو ثانية منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.