نمطان اجتماعيان متضادان ومجتمع يبحث عن الذات

الناس في تركيا وخارجها مغتبطون بما يجلبه لهم النمط الأول من فرص الحياة، لكنهم لا يدركون من أين جاء وأي خطر يقي (وكالة الأنباء الأوروبية)

النمط الأول

تقوم جمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين في تركيا (موصياد) منذ 6 أعوام ببرنامج خاص للتدريب التجاري يستفيد منه مئات الطلاب الأجانب الذين أتوا للدراسة في تركيا، وذلك تحت عنوان "مشروع سفراء التجارة الشباب"، ويقول رئيس جناح رعاية الشباب في "موصياد" المشرف على البرنامج "تتمتع تركيا بقوة إنتاجية كبيرة ويمثل الطلاب الأجانب سفراء تجاريين طبيعيين يضمنون اندماج هذه القوة بشكل أفضل في الأسواق الدولية، ويتلقون تدريبات في مجالات التجارة الخارجية والتصدير وريادة الأعمال والاستعلامات التجارية، وتربطهم روابط قوية مع بلدانهم ومع المناطق التي تقطن فيها أسرهم مما يجعلهم روّادًا للتجارة الخارجية".

لهذه المعلومة أكثر من دلالة؛ الأولى تخص الأفراد (الطلاب وأولياء الأمور) وهي أن الشاب يذهب إلى مكان آمن للدراسة لا يقع فيه في فخاخ فكرية أو اجتماعية ويحصل ليس فقط على الشهادة الجامعية وإنما على الخبرة العملية كذلك من كبريات المؤسسات التجارية ويقتحم ميادين الحياة من أقصر طرقها وأعلى منصاتها، علمًا بأن عشرات الألوف من هؤلاء الطلاب هم من الحاصلين على المنح الدراسية ونفقات الإقامة من الحكومة التركية.

الدلالة الثانية وهي أكثر اتساعًا وتخص المجتمعات وتتعلق بطبيعة اهتمامات الدولة التركية ومواطئ الأقدام التي ترغب في الحصول عليها في دول الجوار أو في أي مكان آخر؛ وهي المحطات التجارية التي تقوم على الخبرات المحلية المدربة تدريبًا عاليًا والقادرة على جعل اقتصادات بلدانها امتدادًا لنجاح الاقتصاد التركي وصولًا إلى إيجاد كتلة اقتصادية إقليمية، ويرافق التكامل الاقتصادي وبشكل طبيعي تكامل اجتماعي وثقافي.

النمط الثاني

تقدم المؤسسة الدينية في إيران منحًا دراسية للشباب العربي للذهاب إلى إيران لدراسة العقائد (وليس الهندسة أو الطب)، ويحظى بعض هؤلاء بتدريبات أمنية وعسكرية ليكونوا خلايا نائمة في بلدانهم، ويحظى فريق آخر من الشباب برحلات ترفيهية صيفية مدفوعة الثمن تنظمها كيانات قريبة من المؤسسة الدينية الإيرانية في الدول العربية، ويواجهون خلالها وسائل الإغراء الاجتماعي والاقتصادي والعقدي، وحينما يعودون إلى بلدانهم يكونون رسلًا للمذهبية بأوجهها العقدية والسلوكية والاقتصادية وخطرا يهدد الأمن القومي للدولة في مجالاته الحيوية الثلاثة: الثقافة والمجتمع والاقتصاد، بدعم من نقاط اتصال تلبس العباءة الدبلوماسية أحيانا.

المغزى

النمط الثاني يمثل خطرًا على المجتمعات البشرية بوجه عام وعابر للأطياف، والإنسان مفطور على الاجتماع على أواصر العرق واللسان والقبيلة والعشيرة، لكنه قادر بمواهبه العقلية التي وهبها الله له على الاجتماع والاحتماء بالقيم الاجتماعية التي يلتقي عليها مع غيره، وتتراجع أواصر الفطرة مَرتبةً إلى الوراء لمصلحة تحالف أوسع هو الأرقى بين أنماط الاجتماع البشري لأنه يقوم على الإبداع العقلي وفنون بناء الجسور الاجتماعية التي تفضي إلى نشوء الحواضر، وقد جاء النظام الاجتماعي في الإسلام (آخر نسخة اجتماعية سماوية لأهل الأرض) ناظمًا لهذا المجتمع وعابرًا للأواصر الاجتماعية التقليدية التي تخلو من الإبداع (اللسان والعرق والعشيرة والقبيلة) وذمّها (جاهلية) حين تصبح عقبة في طريق التحالف الكبير، ونظم العلاقة مع أتباع الأديان الأخرى داخل المجتمع المسلم، فانبثقت عنه (وعلى الفور وبخلاف نظرية التطور ونظريات علم الاجتماع) أخصب حضارة وأسمى صورة للتعايش بين بني البشر.

قوالب مفقودة

هذه ليست دعاية للنظام السياسي في تركيا أو للعثمانية أو لأي عنوان من العناوين الكثيرة التي وضعت العصي في دواليب مجتمعاتنا ومنعتها من حسم نمط عيشها في مطلع القرن الـ21، وإنما هي دعاية لمفهوم "الصالح الاجتماعي العام" الذي يشترك فيه العرب والأتراك وكل من تفيّأ ظلاله والذي حمى الدولة وعصم الطهر الاجتماعي وأوجد الرقي المجتمعي وهو يفتقد اليوم القوالب الفكرية التي تجعله ثقافة انتماء.

الناس في تركيا وخارجها مغتبطون بما يجلبه لهم النمط الأول من فرص الحياة، لكنهم لا يدركون من أين جاء وأي خطر يقي وأي مستقبل يحفظ فيتعلقون بالنتائج ويهملون المسببات، يحدث هذا في تركيا في قطاع مهم من الشباب الذين فتحوا أعينهم وسط الرخاء الذي جلبه النظام السياسي الحالي لكنهم على غير استعداد لإعادة انتخابه، هذه الشريحة لا تدرك ماذا يمثله هذا النظام لبلادهم ولا تنظر إلى دعاماته الاجتماعية المحلية والإقليمية وارتهان الأمن الاقتصادي الإقليمي التركي بها ولا كيف ستنظر المنطقة إلى تركيا إذا ذهب.

هي تنظر فقط إلى خدماته وتعتقد أن أي حزب آخر يستحق أن يعطى فرصة حكم البلاد كالأحزاب الغربية (التي تتفق على الأصول وتختلف في الفروع) والنتيجة هي تهديد النظام السياسي والخدمات معًا كما حدث جزئيًّا في انتخابات بلدية إسطنبول. يتكرر مشهد اللاتوافق الفكري هذا وللأسباب ذاتها في المناطق العربية التي تحت الحماية التركية حيث ترتفع أصوات عربية تنادي بإنهائها مع أن حماية المدن العربية من اجتثاث المليشيات هي نقطة التقاء عند العرب والأتراك ومسألة حياة أو موت.

ها هو الربع الأول من القرن الـ21 قد دنا من نهايته ولا يزال أهل هذا القرن (في هذا المكان من العالم) لم يكوّنوا لأنفسهم نكهة ثقافية نفاذة يتحسسها الصديق فيدنو ويتحسسها العدو فينأى، وهذه بداية أسوء من بداية القرن الـ20 الذي كان قومي النكهة من قبل أن يبدأ، علمًا بأن المنتصرين في الحرب العالمية الأولى هم الذين حددوا مساره ويفترض أننا نحن (أبناء المجتمع) من نحدد مسار قرننا الحالي.

فرص للاقتناص

العرب الذين سقطت دولهم والأتراك مقصرون تقصيرًا كبيرًا يصل حد الإثم في ترجمة ما بين أيديهم من دلائل اجتماعية مشرقة وأخرى مظلمة إلى نكهة مجتمعية يميزها من هم على نسقهم الاجتماعي، فيتشبثون بمجتمعهم وينشأ التحالف الكبير، فهم -أي العرب والأتراك- أمام أبسط أشكال المشاريع إعدادًا وتنفيذًا وتسويقًا التي تتصادم فيها عوامل الخير وعوامل الشر تصادمًا عنيفًا ومكشوفًا، هذا التقصير يقع بالدرجة الأولى على مؤسسات الفكر الإستراتيجي في تركيا (المكان الأخير الذي لا يزال فيه دولة مؤسسات وقانون حقيقية والغرفة الأخيرة التي لم تصل إليها ألسنة اللهب في عمارة تلتهمها النيران)، فعمليات تركيا الاقتصادية والعسكرية والعمرانية (المحلية والإقليمية) كلها تخدم أبعادًا اجتماعية بشكل أو بآخر لكنها لا تصاحبها رسائل اجتماعية (كما في الليبرالية والشيوعية والاشتراكية التي تجمع بين الاقتصاد والمجتمع) ويتعذر قطف ثمارها ووضعها في "سلال اجتماعية" وتسويقها للناس.

على مدى 11 عامًا لم تنجح برامج تركيا لإعادة إعمار المدن العربية المدمرة التي تحت حمايتها والتي يندر (أو ينعدم) نظيرها، لم تنجح في إثارة سؤال سهل في ذهن الإنسان العربي هو: ما مصلحة تركيا في إعادة البنية التحتية والحياة المدنية في مدنه المدمرة وما مصلحة إيران في هدمها؟

القرن الـ21 هو قرن الصراع بين المجتمع والمليشيات، وبسببه يهاجر العرب من أرضهم إلى تركيا وتدخل هي أرضهم لملاحقة المليشيات، وعلى العرب والأتراك وضع نهاية لهذه الحلقة المفرغة تحتمي بالنمط الأول من النمط الثاني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.