قد يبدو بوتين يائسا لكنه يُفاقم المخاطر

Russian Navy Day celebrations in Saint Petersburg
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال عرض عسكري بمناسبة يوم البحرية في سانت بطرسبرغ (رويترز)

لا يخلو التاريخ القريب من أمثلة على حروب انتهت بنتائج كارثية على دول عظمى اعتقدت أنه بترسانتها العسكرية الضخمة قادرة على السيطرة على دول وإسقاط أنظمة الحكم فيها. بعد عقدين من غزو أفغانستان، اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب بشكل مهين بينما كانت حركة طالبان تزحف نحو العاصمة كابل لاستعادة السلطة. الاتحاد السوفياتي هو الآخر له تجربة مريرة مشابهة في أفغانستان، فقد احتل البلاد لعقد من الزمن بهدف حماية الحكومة الصديقة له، لكنّه أُجبر في نهاية المطاف على الانسحاب على وقع انتصارات المجاهدين الأفغان المدعومين من الغرب.

أحد عيوب القوى الكبرى أن غرور قادتها في بعض الأحيان يُبعدهم عن الحكمة عند اتخاذ قرارات كبيرة ويمنعهم من الاستفادة من دروس التاريخ. في فبراير/شباط الماضي، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بالهجوم على أوكرانيا، مُعتقدا أنه بمقدور جيشه، الذي يُصنّف ثاني أقوى جيش في العالم بعد الولايات المتحدة، تحقيق نصر عسكري سريع، وإجبار كييف على الاستسلام. لكن الحرب، التي خُطط لها أن تكون خاطفة، تنحرف عن مسارها بشكل متزايد.

بالمقارنة مع التجربتين السوفياتية والأميركية في أفغانستان، التي احتاجت كل منها بين عقد واثنين للإقرار بالهزيمة، فإن تجربة بوتين في أوكرانيا لم يمض عليها سوى أشهر قليلة، لكن التخطيط السيئ لها والإدارة العسكرية المتخبطة يُعطيان انطباعا بأنها تسير في طريق مسدود.

بإعلان بوتين التعبئة الجزئية يُخاطر بفقدان الدعم الداخلي. مشاهد آلاف الشبان الروس وهم يسعون لمغادرة البلاد عبر المنافذ البرية أو البحث عن تذكرة سفر إلى الخارج هربا من استدعائهم للقتال في صفوف الجيش تُظهر القلق المتزايد بين الروس من المستقبل

الصدمة الأولى لروسيا في بداية الحرب أجبرت بوتين على الانسحاب من شمال أوكرانيا وتقليص أهدافه إلى السيطرة الكاملة على إقليم دونباس وبعض المناطق المحيطة به. بعد 7 أشهر، بدت القوة العسكرية الروسية عاجزة عن تحقيق الأهداف الصغرى حتى عندما حصرت تركيز قدراتها على نطاق أصغر. لا توجد قيادة مثالية تستطيع تحقيق كل ما خططت له في الحروب، لكن عندما يفشل التخطيط في تقدير قوة خصم كأوكرانيا ومدى استعداد الغرب لدعمه، فإن التخطيط يكون سيئا للغاية.

لا تواجه روسيا أوكرانيا فحسب، بل كذلك الغرب الذي يدعمها بالسلاح والعقوبات القاسية على موسكو. لكن ذلك يطرح بعض الأسئلة التي تُشكك في كفاءة تقييم بوتين الاستباقي للحرب. هل كان يعتقد أن كييف ستستلم بسرعة وأن الغرب سيقف على الحياد بينما تعمل روسيا على تدمير الهيكل الأمني الأوروبي؟ وهل كان يعتقد أن الولايات المتحدة أصبحت أضعف من أن تحشد الغرب ضده وأن أوروبا ستبقى أسيرة خوفها من التجمد في البرد والعيش دون الغاز الروسي؟

كان تقدير بوتين سيئاً على نحو لم يكن حتى خصومه يتصوّرونه. انظروا إلى حلف الناتو الذي أراد بوتين وقف تمدده باتجاه روسيا. لقد أصبح أكثر تماسكا بعد الحرب ويسعى لضم جيران آخرين لروسيا. انظروا أيضاً إلى النفوذ الغربي في أوكرانيا. لقد تزايد على نحو لم يعد بالإمكان احتواؤه.

انظروا كذلك إلى أصدقاء موسكو الذين قاوموا الانخراط في الجهود الغربية لعزلها كالصين والهند. لقد أصبحوا مؤخرا أكثر حذرا من الالتصاق ببوتين ويخشون على مصالحهم. قد يبدو بوتين يائسا عندما أعلن التعبئة الجزئية ووافق على ضم مناطق دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون للاتحاد الروسي، وكرر التلويح باستخدام الأسلحة النووية.

لكنه أصبح أكثر خطورة من قبل، على عكس الأشهر الماضية، التي استطاع فيها تجنيب المواطنين الروس العاديين تداعيات الحرب، فإنه بإعلان التعبئة الجزئية يُخاطر بفقدان الدعم الداخلي. مشاهد آلاف الشبان الروس وهم يسعون لمغادرة البلاد عبر المنافذ البرية أو البحث عن تذكرة سفر إلى الخارج هرباً من استدعائهم للقتال في صفوف الجيش تُظهر القلق المتزايد بين الروس من المستقبل. لا يزال الخطاب القومي مؤثراً في منح مشروعية داخلية للحرب، لكنها تتقلص مع مرور الوقت.

حتى لو استطاع بوتين تعويض النقص البشري الناجم عن القتال بين صفوف الجيش، فإن الأمر قد يستغرق وقتا أطول للحصول على نتيجة على الأرض. كما أنه من غير المؤكد ان استدعاء مزيد من القوات يُمكن أن يُحدث فارقاً فورياً وكبيراً على الأرض بسبب الصعوبات التي تواجهها روسيا في إيصال الإمدادات ونشر معدات عسكرية. عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، كسب بوتين القرم، لكنه خسر أوكرانيا.

مع ضم أراض أوكرانية جديدة ستنجح روسيا في فرض واقع جغرافي جديد، لكنها في المقابل ستُكرس خسارة كل أوكرانيا ودفعها إلى تعميق علاقتها بالغرب وربما إلى الأبد هذه المرة. صراعات القوى العظمى تُصبح أكثر خطورة عندما لا تترك لنفسها وسيلة للخروج من المأزق. هذا ما يفعله بوتين في أوكرانيا تماما. لقد وضع لنفسه أهدافا غير قادر على تحقيقها ولا تترك مجالا للحلول الوسطى التي تحفظ ماء الوجه.

بينما الغرب سعى لأن يكون أكثر واقعية في مقاربته للصراع من خلال التخلي عن مشروع ضم أوكرانيا إلى الناتو ومساعدتها على أن تكون قوية في أي تسوية مستقبلية مع روسيا، فإن بوتين أظهر بوضوح منذ البداية أنه لا يؤمن بأوكرانيا كدولة موجودة ويعتبرها جزءا من أراضي روسيا التاريخية. علاوة على ذلك، فإن تقليص بوتين لأهدافه العسكرية ورفع تكلفة الانخراط الغربي في دعم أوكرانيا لاسترجاع ما خسرته من أراض من غير المُرجّح أن يدفع كييف أو الغرب إلى التراجع.

كان ذلك مُمكناً لو أن روسيا قادرة بالفعل على الاحتفاظ بالمكاسب الميدانية، لكنه على العكس من ذلك، يُشعر الضعف الروسي المتزايد الغرب بأنه قادر بالفعل على إلحاق الهزيمة بروسيا. ويرفع تصعيد بوتين للصراع من المخاطر على كل من موسكو والغرب.

سيتطلب الضم المرجح لأراض أوكرانية جديدة التزاما عسكريا وماليا أكبر لروسيا في مواجهة جيش أوكراني يعمل الغرب على تسليحه بشكل أكبر لسنوات قادمة. كما يُلزم بوتين بالسيطرة على الجزء الكبير من دونيتسك التي لا تزال أوكرانيا تُسيطر عليها.

علاوة على ذلك، سيبقى بوتين عاجزا في عكس المد على ساحة المعركة من دون الحد من وصول شحنات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا. حتى الآن، استهدفت روسيا طرق إمدادات الأسلحة التي تأتي برا عبر بولندا، لكنها لم تستهدف مباشرة أي من هذه الشحنات. مثل هذا الخيار يُمكن أن يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين موسكو والناتو. في حين أن الهدف الرئيسي لبوتين من إعلان التعبئة الجزئية هو اختبار عزيمة الغرب في مواصلة دعم أوكرانيا ودفعه إلى التراجع، إلا أنه يُشير أيضاً إلى أن روسيا تعترف بأن الأسلحة الغربية المتقدمة قد بدأت في عكس دفة الصراع لصالح كييف. يبقى الجانب الأكثر خطورة في هذا الصراع هو السلاح النووي.

لم يتردد بوتين في التلويح مجددا باستخدام هذا السلاح عندما يرى أنه يفقد زمام المبادرة في الحرب. رغم قراره في بداية الحرب بوضع الترسانة النووية في حالة تأهب خاصة، فإن الاستخبارات الغربية لم تلحظ أي تغيير بوضع الصواريخ في جاهزية القوات النووية الروسية. لكن أي استخدام لهذا السلاح سيُجبر الغرب على التدخل ورفع مخاطر الصراع إلى مستويات تُنذر بإشعال حرب عالمية ثالثة.

لا يزال هدف الغرب كسب الحرب وليس تجنّب هجوم نووي. أخيراً، عامل الوقت في الصراع يبدو الأكثر أهمية، ويراهن بوتين عليه للخروج منتصراً في الحرب. بينما يأمل من خلال تسليح إمدادات الطاقة إلى أوروبا في فصل الشتاء البارد أن يُفكك الوحدة الأوروبية ويؤجج السخط الاجتماعي سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو عبر المحيط الأطلسي، فإن جاهزية الأوروبيين للتعامل مع حرب طاقة مع روسيا تُقلل من فعالية هذا السلاح.

كما أنه يراهن على ضعف الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي المقبلة وبالتالي تراجع الالتزام الأميركي بمواصلة دعم أوكرانيا حتى النهاية. يبدو بوتين الآن أكثر ضعفا في هذه المواجهة، لكن الحقيقة التي ينبغي على الغرب إدراكها هي أن بوتين يصبح أكثر خطورة وجرأة على تصعيد الصراع كلما شعر بأنه يواجه هزيمة مذلة.

لا يزال خيار التسوية قائما في أي وقت، لكنه من المؤكد أن أي تسوية بعد الآن لن تُساعد بوتين على الادعاء بأنه انتصر في هذه الحرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.