تحالف الخائفين.. خلافات وهمس في المدينة (1)

قائد قوات الدعم السريع السودانية اللواء حميدتي
قائد قوات الدعم السريع السودانية اللواء محمد حمدان حميدتي (الجزيرة)

لا يمر على السودانيين أسبوع حتى يتعالى همس في المدينة بقصص الخلافات بين رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان حميدتي، ودائما هناك روايات متعددة تدعمها شواهد وأقاويل؛ أطلت تلك الأقاويل حول الخلافات منذ بداية الثورة وحتى الآن ولم تجد من يرد عليها، وغالبا ما يلوذ القائدان والمقربون منهما بالصمت، فتتناسل الإشاعات وتنسج الحكايات، وقد رأيت أن أبحث في ما وراء ذلك الخلاف للتعرف على حقيقته ومسبباته، ويجدر بي في بداية هذا المقال أن أنوه إلى حقائق رئيسة تخص هذه الخلافات المزعومة أو الحقيقة.

صراع وأقاويل

الخلاف بين الرئيس -أي رئيس- ونائبه طيلة العهود التي مرت على تاريخ السودان كان موجودا، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، وكان الرئيس يحسمه دائما بإقالة النائب أو إبعاده، كما كان العهد مع النواب في عهدي الرئيسين نميري والبشير، اليوم نشهد تجربة مختلفة اختلافا كليا؛ فالنائب ليس نائبا عاديا كونه لم يأتِ إلى منصبه معيّنا من قبل الرئيس فهو ليس موظفا تم استدعاؤه لشغل هذا المنصب. النائب حميدتى جاء إلى الحكم بعد مساهمته في التغيير (الذي وقع في 11 أبريل/نيسان 2019) وخلفه الآلاف من الجنود، وبذلك أصبح شريكا في التغيير برضى جميع أطراف المنظومة الأمنية وقوى الحرية والتغيير الموحدة آنذاك.

الحقيقة الثانية أن لقوات الدعم السريع -تاريخيًّا- إسهاما غير منكر في دحر التمرد في دارفور، حيث لعبت دورا أساسيا في استتباب الأمن هناك، بغض النظر عن كثير من الممارسات التي أُخذت عليها وقتئذ، فهذه القوة أسستها ودربتها وسلّحتها الدولة السودانية من مواردها حتى صار لها حضور ظاهر عسكريا وسياسيا، بغض النظر أيضا عن الرأي في صحة تأسيس تلك القوات من عدمه.

تلك القوات تم الصرف عليها من خزينة الدولة السودانية، وهذه القوات رسميا وقانونا تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة رغم العلاقة الملتبسة في الوقت الحاضر؛ وتمتلك تلك القوات موارد خاصة ضخمة وعشرات الشركات، داخلية وخارجية ومؤسسات تعمل في شتى ضروب التجارة والاستيراد والتصدير والتنقيب عن المعادن، ولا يُعرف على وجه التحديد كم تبلغ الثروة التي تقع تحت تصرفها؛ كما تتمتع قوات الدعم السريع حاليا بعلاقات خارجية مستقلة، بدءا من إثيوبيا وحتى تشاد، مرورا بأفريقيا الوسطى والنيجر، ووصولاً إلى جنوب السودان، إضافة إلى علاقات إقليمية (الإمارات والسعودية) بجانب ارتباطات دولية (الاتحاد الأوروبي بعد موضوع الهجرة، وروسيا بعد موضوع تصدير وإنتاج الذهب من سنقو).

وبرغم تعقيدات تلك العلاقات والإشكالات التي تمر بها فإنها موجودة، وإضافة إلى ما ذكر فقوات الدعم السريع تنتشر الآن في أكثر من 10 ولايات، وبحوزتها مختلف أنواع الأسلحة، وينتظم في صفوفها أكثر من 100 ألف جندي مدربين ومؤهلين. هنا أود أن أنوه إلى حقيقة مهمة، وهي أن قاعدة تلك القوات لا تنتمي لإثنية واحدة، بل تتوافر على تنوع كبير، وتضم طيفا واسعا من الإثنيات والقبائل ومن كافة أنحاء البلاد، والصحيح أن قيادتها العليا يسيطر عليها آل دقلو بخلفياتهم المعلومة.

ما ذكر أعلاه يمثل جانبا من حقيقة تلك القوات على الأرض، والتي يعلمها الجميع، ولذا ليس من السياسة والكياسة الاستخفاف بها و"شيطنتها" (جنجويد)، ومن سوء التقدير التسرع في دمجها أو حلها بقرار فوقي قهري، سواء من القوى السياسية المدنية أو من المؤسسة العسكرية نفسها، حيث تسعى جهات متعددة للوقيعة بين الجيش والدعم السريع بتضخيم الخلافات الفعلية والزائفة لدفع الطرفين لحافة الهاوية؛ وهذا شيء لا يحقق مصلحة للطرفين أو للبلد.

إشكالات سياسية وعسكرية

تعاني قوات الدعم السريع من إشكالات عدة من الناحيتين السياسية والعسكرية وفي علاقاتها الدولية؛ فمن الناحية السياسة لا تجد قوات الدعم السريع القبول والاحترام الكافيين من الشارع الثوري ولا من القوى السياسية، مع أنها تبذل جهودا شتى لتجسير العلاقة بينها وبين التنظيمات السياسية وقوى المجتمع المدني والناشطين والإعلاميين، ولكن ذلك لم يهبها القبول الذي تسعي إليه حتى اللحظة، وتبذل في سبيله أموالا ضخمة ووقتا وجهدا. محاولتها التي تبدو ناجحة حتى الآن هي استقطابها الإدارات الأهلية في الأقاليم، خاصة أقاليم دارفور (قبل مبادرة الجد) والحركات المسلحة في ما بعد اتفاقية جوبا.

تبحث قوات الدعم السريع عن موضع قدم لها داخل القطاع الحديث، لكن مشكلتها مع هذا القطاع نفسه متعلقة باتهامها بالاشتراك في فض الاعتصام، ولذا فإن الاقتراب منها أصبح خطرا ومدانا من الشارع الثوري، كما أن القوى الإسلامية فقدت الثقة في تلك القوات، وإن كانت لم تناصبها العداء حتى اللحظة رغم المواقف السلبية لقيادتها من التيار الإسلامي عموما.

الإشكالية الكبرى التي تواجهها قوات الدعم السريع داخليا تتعلق بعلاقاتها المتوترة دائما مع المؤسسة العسكرية، وأسباب هذا التوتر أطلت منذ تأسيس هذه القوات في أحضان جهاز الأمن، وهو ما دفع قطاعات واسعة في الجيش منذ وقت مبكر للنظر إليها بعين الريبة، وبأنها قوات ضرار، ولكنها فرضت نفسها بالنجاحات التي حققتها في معارك دارفور، مما جعل القيادة العليا للدولة يومها تدعمها وتتمسك بها وتدربها وتعتني بتأهليها وتضع لها قانونا خاصا. ومع ذلك لم يقبلها الجيش في أي وقت داخل منظومته؛ 3 من قيادات الجيش وفروا لها العناية اللازمة، وهم: الرئيس السابق البشير والفريق عوض بن عوف والفريق البرهان، كل القيادات الأخرى كانت علاقاتها بها متوترة وصلت في وقت إلى مرحلة تعبئة السلاح تجاهها (حادثة سلاح المدرعات).

أما الإشكالات ذات الطبيعة الدولية والإقليمية التي تواجهها قوات الدعم السريع فتتمثل في أن علاقاتها مع تلك القوى الإقليمية والدولية أسستها منفردة برضى الدولة أو تحت بصرها؛ إذ اتفق الاتحاد الأوروبي مع الحكومة السودانية -إبان حكم البشير- على التعامل مع قوات الدعم السريع واستخدامها في السيطرة على مسارات الهجرة العابرة للحدود والمتجهة إلى أوروبا، خاصة تلك القادمة من شرق أفريقيا وجنوبها، التي تصل إلى شواطئ البحر المتوسط عبر صحاري الولاية الشمالية. ولعبت قوات الدعم السريع دورا كبيرا في تخفيض نسبة تدفق المهاجرين إلى أوروبا، باعتراف الاتحاد الأوروبي، إلا أن تلك العلاقة سرعان ما تراجعت بعد اتهام قوات الدعم السريع بالمشاركة في فض الاعتصام، مما قاد الاتحاد الأوروبي للتعامل معها بحذر وبشكل محدود، وأخيرا أوقف الاتحاد الأوروبي تمويل العملية التي تقوم بها، الخاصة ببرنامج مكافحة الهجرة غير النظامية التي أطلقها الاتحاد عام 2013 باسم (عملية الخرطوم)، وكان الاتحاد مول أنشطتها بنحو 220 مليون دولار، حسب تقرير مراقبة الهجرة الذي نشر في مايو/أيار الماضي.

ابتعدت أميركا منذ البداية عن قوات الدعم السريع، ولم تتعامل معها وتوترت علاقاتها بها أكثر بعد كشف تنامى علاقتها مع روسيا، خاصة بعد صدور سيل من التقارير من بعض المراكز البحثية الأميركية المهمة التي تتعقب تجارة الذهب التي تنشط فيها قوات الدعم السريع في محاولة لوضعها تحت السيطرة وإخافتها (تقرير غلوبال ويتنس: ذهب بمليارات الدولارات خارج أفريقيا 2020)، وتقرير رويتر "تحت البريق"، وصدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتقرير عن مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة بواشنطن بعنوان: حاميها حراميها.. كيف تؤدي السيطرة العسكرية على الاقتصاد إلى عرقلة الديمقراطية في السودان).

وبالنسبة لعلاقاتها مع دول الخليج، فقد فترت بعد أن بدأت المملكة العربية السعودية مراجعة سياساتها تجاه حرب اليمن، الشيء الذي أدى إلى تقليص قوات الدعم السريع (كانت نحو 30 ألف جندي) في السعودية؛ وعلاقاتها مع الإمارات توترت بعد الكشف عن تصدير قوات الدعم السريع الذهب إلى روسيا انطلاقا من أفريقيا الوسطى، التي تملك فيها شركة فاغنر أهم قاعدة عسكرية لها في أفريقيا -خاصة النيجر ومالي والسنغال وموريتانيا- للذهب القادم من أفريقيا. ولم ترض أبو ظبي بسوق بديل لدبي، في وقت تبني فيه أبو ظبي احتياطات هائلة من الذهب في بنوكها، كما تعد دبي السوق المركزي.

أما مع مصر فلم تنشأ علاقة معها أصلا، فقد ظلت قوات الدعم السريع موضع شك عند المصريين، بل تم تصنيفها مليشيا، وظل التعامل معها بتلك الصفة، وتم تحذير السيد النائب في أول زيارة له للقاهرة من أن مصر لن تقبل مليشيا بديلة عن الجيش، ونصحوه بالإسراع بدمجها في القوات المسلحة. وحسب إفادة دبلوماسي مصري لي -طلب عدم ذكر اسمه- فإن الرسالة وصلت النائب بوضوح باكرا، ويجري التعامل معه على هذا الأساس، وفي سؤال حول تقاطع هذا الموقف مع بعض دول الخليج قال لي هذا الدبلوماسي نفسه "بعض الدول الخليجية يمثل السودان بالنسبة لهم لعبة سياسية، أما بالنسبة لنا فهو مصير وقضية أمن قومي". وترجع قوات الدعم السريع هذا الموقف لتأثيرات الفريق صلاح قوش وقربه من دوائر القرار الأمني.

هناك إشكال مقلق آخر متعلق بمستقبل قوات الدعم السريع ومصيرها في ظل نظام ديمقراطي. بالطبع لن تستطيع أن تلعب الأدوار السياسية التي تلعبها الآن، واقتصاديا ستكون مواردها والشركات التي تتبع لها على المحك في حال صدر قرار من برلمان حكومة ديمقراطية بعودة جميع شركات المنظومة الأمنية للدولة، فمن المرجح -في ظل استمرار صدور تقارير المنظمات الدولية عن هذه القوات- أن قرارا كهذا في حال صدوره سيجد سندا دوليا.

أسباب خفية للتوتر

بناءً على ما سبق، فإن كل تلك الإشكالات والتقاطعات بين الدولة بمؤسساتها السياسية والعسكرية وقوات الدعم السريع وفرت ما يمكن وصفه بالمادة الخام لاستمرار حالة التوتر، إذا لم نقل الصراع بين الرئيس البرهان ونائبه حميدتي، بيد أن أسبابا أخرى لا تقل أهميّة عن تلك التقاطعات قد جرت وتجري الآن تصعّد من وتيرة الصراع بينهما بشكل أكبر.

أول أسباب ذلك التوتر تعود إلى أن الرجل الثاني في الدولة بلا تعريف في القانون الأساسي، فحسب الوثيقة الدستورية المنشورة بالجريدة الرسمية (3/10/2019) فإن المادة الرابعة من الوثيقة الدستورية التي تختص بتشكيل مجلس السيادة لم تنص على مسمى النائب؛ ولا يوجد ذكر للمنصب في صلب الوثيقة الدستورية، ولا يُعرف الأساس القانوني الذي تمت بموجبه تسمية منصب غير دستوري؛ وبناء على هذا الخلل الدستوري وفي ظل عدم وجود مهام محددة للنائب نشأ فراغ عريض في التوصيف القيادي للنائب، إذ ليست هناك مهام محددة ومستمرة يختص بها في الدولة.

للحقيقة، فإن قوات الدعم السريع طيلة فترة الإنقاذ لم تكن لها أي علاقة بالعمل السياسي، ولم تتدخل مطلقا في السياسة، فقد أنشئت بموجب قانون قوات الدعم السريع الذي أجازه المجلس الوطني في جلسته رقم (43) من دورة الانعقاد الرابعة في 18 يناير/كانون الثاني 2017. إلا أنها بعد سقوط نظام الإنقاذ بدأت تلعب دورا سياسيا، فأصبح النائب تحت رحمة التكاليف والمهام المؤقتة والطارئة؛ ولعل أبرز المهام التي تولاها السيد الفريق حميدتي هي رعايته اتفاق السلام، مما نتج عنه ما يعرف باتفاق جوبا للسلام الموقع في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2020، كما أن رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك كلف الفريق حميدتي -بصفته نائبا لرئيس مجلس السيادة- بإدارة الملف الاقتصادي؛ إضافة إلى تحركات حميدتي إبان فترة حمدوك في التعامل مع الأزمات المختلفة، كما حدث في ملف المصالحات القبلية في دارفور ومحاولاته للتوسط في أزمة الشرق.

إن عدم تخصيص وظيفة نائب رئيس مجلس السيادة بمهام محددة دستوريا وسياسيا أسس للخلاف المتطاول بين النائب والرئيس البرهان. والغريب أن القوى السياسية التي كانت حاكمة، وفي مناوراتها بين مركزي القرار: الرئيس ونائبه، قبلت تسمية حميدتي نائبا، وتغافلت عن الوثيقة الدستورية في التعامل معه، فغضت الطرف عن نصوص دستورية صاغتها هي نفسها.

(يتبع)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.