معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. الواقع الحقيقي للغة والحضارة

تصميم اللغة العربية
اتّحاد المجامع العربية بقيادة مجمع اللغة العربية في مصر أنجز المُعجم الكبير، الذي صدر مؤخرًا جزؤه الـ15 المتضمن حرف الصاد (الجزيرة)

من البدهيات القول: إن نشأة تأليف المعاجم في أي أمة ترتبط زمنيا بحركتها للنهوض، ولعل الدقة تقتضي التخصيص: حين تجد الأمة في ذاتها عوامل من القوة والإمكانات الذاتية ما يؤهلها للإسهام الحقيقي في بناء حضارة علمية، مرفودة بعناصر أخرى من التمكن الاقتصادي، والتأثير السياسي، والإنجاز العلمي. وبغير ذلك يكون تأليف المعاجمِ تجسيدًا للتّأثُّر المُتّصل بالضَّعفِ الحضاريّ.

المعجمة والحالة الحضارية

يحسن هنا البيان عن ذلك بشيء من التوضيح؛ إذ الحديث عن المعاجم ثنائية اللغة/ متعددة اللغات، وثيق الصلة بالأخذ والاقتراض والإحساس بالضعف وسيطرة لغة أو لغات ما على واقع الأمة من جانب، كسيطرة الإنجليزية على المشرق العربي، والفرنسية على المغرب العربي، نتيجة لسايكس-بيكو وتقسيماتها، وحركة الاستعمار الحديث، فضلا عن محورية أوروبا وجاذبيتها بالنظر إلى انبثاق حركة علمية ونهضة صناعية عظيمة في عصر التنوير.

كان لهذا ما له من تداعيات وتبعات ما زالت ماثلة إلى يوم الناس هذا؛ في التعليم والفكر والثقافة، بل في تقدير الخبرات وتوظيف الكِفايات، والمنزلة الاجتماعية وسائر ما هنالك مما يسِم/ يصم الواقع العربي. لكن هذه المعاجم الثنائية اللغة قد تخدم أحيانا مساعي أمة في التوسع والسيطرة وحركة التجارة، وهو ما نجده في الكراسات المعجمية التي انتشرت في بريطانيا ذات حين من الزمن قبل تأليف معجم أكسفورد التاريخي للغة الإنجليزية، وكانت أدلة مرشدة للبحارة والعسكر الإنجليز في حركتهم الاستكشافية التجارية والاستعمارية.

في حين يمثل التأليف المعجمي في اللغة نفسها، بحيث تصف اللغة ألفاظها وتبين عن معانيها بألفاظها، ذروة إحساسِ الأمة بفيض قوة وثقة بالذات، يؤهلها لوصف ذاتها وتاريخها وكينونتها الخاصة ثقافيا وحضاريا.

هكذا كانت بدايات حركة التأليف المعجمي العربي بالعربية في العربية. لم ينفصِل جمع تراث العرب الأدبي واللغوي في القرن الهجري الثاني ألبتة عن استجماع الأُمة عناصر مُكْنَتِها سياسيا واقتصاديا وعسكريا لبلوغ أقاصي ما عرفوا حينها من الامتداد العمراني شرقا إلى الصين، وشمالا إلى أبخازيا/ جورجيا، وغربا إلى بحر الظلمات/ الأطلسي، وجنوبًا إلى أواسط أفريقيا.

لكن هذا التوسع في المعمورة كان مصاحبا لحركة ملازمة من اتساع الآفاق العقلية فكريا وثقافيا؛ من الاختلاط بالأمم الأخرى الذي بدأ مبكرًا فطال الهند وفارس والصين واليونان والروم والقبط والحبشة، وافتراع قانون التعرب الثقافي لكل راغب في الانصهار في هذه الحركة الناهضة: يتعلم لغة القوم، ويساكنهم، ويسهِم بقدر من المقادير في الحركة نفسها، فيكتسب مشروعية تحقيق ذاته مثل أبناء الأمة أنفسهم، وإن يكن الأمر بدأ بقانون (الولاء/ الموالاة/ الموالي) ذات حين مبكرا.

وبمثل هذه الرؤية بدأ التأليف المعجمي أولا بتلك الرسائل التي جمعت كل منها ما حفلت به العربية في موضوعٍ واحد؛ كالإبل، والشاء، والبئر، والنخل، وسائر ما شابه ذلك. غير أن هذه الحركة الناهضة توجت بعبقرية الخليل بن أحمد الفراهيدي حين وضع أسس معجم (العين)، فكان أول معجم عربي مع نهايات القرن الهجري الثاني، معاصرا لحركة التدوين، ومقدمة لدار الحكمة، ومعينا لا غنى عنه لحركة الترجمة عن سائر اللغات المعبرة عن حضارات أمم سبقت العرب في التأليف والعلوم. بل هو غير منفك عن تفكير باستقدام خبرات من تلك الأمم، كوفد (حكماء الهند) الذي استقدمه العباسيون وفيهم سندباد (سبق للجاحظ أن ذكر حكاية هذا الوفد، وأسماءهم).

حركة التأليف المُعجمي في العربية

على تباين مناهج المعجميين العرب على مدار تاريخ التأليف المعجمي، منذ (العين) للخليل بن أحمد الفراهيديّ (175هـ) إلى (تاج العروس) للمرتضى الزبيدي (1205هـ)، فإن لكل معجم من المعاجم خصائصه المميزة؛ منهجا في الترتيب، وسعة أو ضيقا في المادة، وتوجها نحو غاية محصورة محدودة، وتركيزا على المادة نفسها ألفاظا ومعاني، واستحضارا للشواهد من إهمالِها، واقتصارا على الفصيح أو انفتاحا على الأعجمي واللغات والعامي، إلى غير ذلك.

وهكذا، كان كل معجم يمثل إضافة حقيقية، وامتدادا بأفق التأليف المعجمي إلى أبعاد جديدة. وعلى مثل هذا كانت المختصرات أيضا.

غير أن هذه المعاجم كلها عنيت بالألفاظ ومعانيها، وتمكن كل واحد منها من إيراد ألفاظ متعددة ومعان محددة، وفق التجذير والاشتقاقات، وبحسب النسبة التي استحضرها كل معجمي من متن العربية، والقصد هنا إلى متن العربية الذي اطلع عليه، سواء حفظ منه، أو تمكن من جمعه من الكتب والمصنفات والرسائل. وهو في الأغلب الأعم يمثل نسبة ضئيلة من متنها الكلي المثبت بالحفظ في الأذهان، أو الكتابة في الصحف، ولهذا قد تجد في معجم منها لفظا لا تجده في آخر، ومعنى للفظ لم يأت آخر عليه.

هكذا لا تجد معجما منها استقصى ألفاظ العربية تماما، ولا استوعب معانيها كليا. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن أيا من هذه المعاجم لم يعنَ بترتيب ألفاظ العربية تاريخيا وفق ظهورها في الاستعمال (وهو ما يركز عليه المعجم التاريخي)؛ ليتكشف للقارئ سياقات التطور التاريخية لتلك الألفاظ وحركة معانيها، بما يكشف عن تاريخية تطور فكر الأمة، وحضارتها، ومفاصل تكون شخصيتها، وطبيعة التأثيرات والتأثرات التي خلفها اتّصالها بغيرها، وكأنما يرسم خارطة "ميتا-حضارية" لوجودها الممتد في التاريخ، والتحوّلات العقلية التي مرت بها.

محاولات ونماذج

ولبيان الفارق بين المعجم والمعجم التاريخي، قد نسوق هنا مثلا مما أنجزه قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية (نابلس-فلسطين)؛ إذ أنجز أساتذته وطلبة الماجستير فيه على مدار سنوات ما أسموه: المعجم الجامع/ جامع المعاجم. وتتلخص فكرته في تقصي كل باحث مادة معجمية، أو عدة مواد، في المعاجم العربية، بإسناد كل جزئية من المادة إلى المعجمي الذي سبق إليها، وترتيب هذه الجزئيات بحسب تراتب تلك المعاجم ومؤلفيها تاريخيا.

وبهذا يتضح للقارئ ما أضافه كل معجمي إلى المادة، فيما يوهم أنه تطور تاريخي للمادة المعجمية على مستويي الألفاظ والمعاني. وهي تجربة لها فوائدها بالتأكيد، غير أنها تظل في سياق تطور الفكر التأليفي للمعجميين أنفسهم، دالة على سعة، أو ضيق، متن العربية الذي امتلكه كل منهم، وقدراته الذاتية على الإضافة والتعديل. وهي بذلك فكرة تقتصر على ما عالجه المعجميون، وتكشف عن تاريخيةٍ ما، هي ليست تاريخية العربية بالضرورة.

اتخذ معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربية منهجية التأريخ بالسنة، منذ أقدم وثيقة عربية مكتوبة حتى العصر الحاضر، وهي منهجية شاقة، ومضنية، وتحتاج إلى جهد جبار في ضبط تواريخ وفيات أصحاب الشواهد، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، فضلا عن تواريخ التأليف إذا وجدت

وقد يكون لزاما وصف تجربة أُخرى أنجزها اتّحاد المجامع العربية بقيادة مجمع اللغة العربية في مصر، وهي تجربة (المُعجم الكبير)، الذي صدر جزؤه الـ15 المتضمن حرفَ الصاد مؤخّرًا سنة 2022، في حين بدأ تأليفه سنة 1970م. المعجم الكبير معجم موسوعي، يشتمل على ألفاظ اللغة، وأسماء الأعلام، والمعرب، والدخيل، والمصطلحات، وتتضمن المادة فيه معلومات صوتية وصرفية ونحوية وبلاغية وتأثيلية (علم أصول الكلمات)، وشروحا لمعاني ألفاظ ترد في سياقات الشواهد.

وهو في ذلك كله يورد شواهد ما وجد إلى ذلك سبيلا، أو يورد أقوال المعجميين العرب، والمصنِّفين في المعرَّب والدخيل، ويرسم الألفاظ الأعجميّة ومقابلاتها في اللغات الأخرى أحيانا كثيرة. غير أنه غير معني ألبتة بترتيب المادة ترتيبا تاريخيا، وإن كان يستقصي الألفاظ والاشتقاقات والمعاني. وعلى ما لهذا المعجم من فضائل، فإن المعجمَ التاريخيّ للغة ما حالة مختلفة كل الاختلاف عن هذا.

المعجم التاريخي ومنهجيات التأريخ

ليس للتاريخ حضور في المعاجم اللغوية العامة، إلا بمقدار ما أشرنا إليه آنفا، وهو حضور على استحياء؛ إذ هو غير ملح، وغير ضروري لبناء المادة المعجمية. هذا مع التنويه عن أن أي معجمي يسعى لحصر معاني اللفظ سيبدأ -بتأثير ثقافته المبنية على العصور التاريخية للأدب العربي (المادة الأساسية لمتن العربية)- بتتبُّع تلك المعاني من منظور تاريخي، وهو ما رسخه المنهج التاريخي في دراسة اللغة والأدب، والبحوث الأكاديمية، والرسائل العلمية، من النظر في الألفاظ المكونة لعناوين الدراسات من الجهتين: اللغويّة، ثم الاصطلاحية، وهاتان تجسدان وجهة تاريخية في البيان عن المعاني.

لكن مقولة التاريخ في المعجم التاريخي أساسية -وهو بهذا المعنى وغيره من المعاجم الخاصة- بل هي المقولة الجوهرية فيه بعد التيقن من صحة: اللفظ، والمعنى؛ إذ لا أهمية لمعلومة التاريخ إذا كان اللفظ مصحفا أو محرفا، ولا قيمة لها إذا كان المعنى المحدد للفظ غير صحيح. هذا إذا كان من منهجية المعجم بناؤه على الشواهد. وعليه، فلابد من صحة اللفظ، وصحة المعنى، فإذا اقترن الشاهد بمعلومة تاريخية صحيحة تم للمدخل المعجمي قدر من الصواب عال، ولا يهز تلك الصوابية إلا ظهور شاهد للفظ على ذلك المعنى أسبق.

وقد تنوعت منهجيات التأريخ في المعاجم التاريخية وفق تصوراتها المنهجية؛ فمعجم أكسفورد مثلا اتخذ لنفسه منهجية التأريخ بالقرون، واتخذ المعجم التاريخي للّغة العربية (الشارقة) منهجية التأريخ بالعصور السياسية (وهي في الأصل مبنية على تقسيم الدكتور شوقي ضيف ومجايليه لعصور الأدب العربي: العصر الجاهلي حتى ما قبل الهجرة، العصر الإسلامي والأموي حتى قيام الدولة العباسية سنة 132هـ، العصر العباسي الممتد حتى سقوط بغداد سنة 656هـ، ثم الزمن الممتد حتى العصر الحاضر بما يشمل عصور المماليك والعثمانيين والاستعمار والنهضة).

في حين اتخذ معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربية منهجية التأريخ بالسنة، منذ أقدم وثيقة عربية مكتوبة حتى العصر الحاضر، وهي منهجية شاقة، ومضنية، وتحتاج إلى جهد جبار في ضبط تواريخ وفيات أصحاب الشواهد، والقرآن الكريم، والحديث الشريف، فضلا عن تواريخ التأليف إذا وجدت.

وهذه المنهجية أدق المنهجيّات، وأصعبها، وهي تكشف أحيانا كثيرة عن تعايش سائر معاني اللفظ الواحد في حقبة زمنية واحدة، بل ظهور تلك المعاني عند المستعمل نفسه في عدد من شواهده، وعليه يتعذر البناء الصحيح لتولد معاني الألفاظ في التاريخ إلا بهذه المنهجية؛ نقول: تولد المعاني، مع إمكانية تعايش الأسبق منها مع ما يليه، وفي بعض الأحيان يخْبُو المعنى الأسبق، ويسود معنى جديد ناشئ. وهذا كلّه رهِين ظهور انزياحٍ في دلالة اللفظ عن دلالته الأولى في استعمال أحد الناطقين باللغة مما أثبتته المصادر.

يبقى أن نقول: إنّ ضبط مقولة التاريخ في أيّ معجم تاريخيّ يظل مرهونا بتحقيق مستوى عال من الدقة في تطبيق المنهجية المعتمدة (قد يتذكّر من شاهد فيلم البروفيسور والمجنون عن معجم أكسفورد المِحْنة التي وقع فيها القائمون عليه وهم يبحثون عن معنى لفظٍ لم يجدوا عليه شاهدًا في قرن من القرون). حينها تصبح مقولة التاريخ المنضبطة عماد التّرتيبِ في المادّة المعجميّة؛ لتتوالى ألفاظ المادة ومعانيها مرتبة ترتيبا تاريخيا منذ أقدم ظُهور للفظ فيها، إلى آخر ظهور للفظ منها بمعنى من المعاني.

وهو ما يتيح لأي دارس أن يستكشف تطوُّر حركتي المبنى والمعنى عبر التاريخ، واستنباط التعالقات بين حركتيهما وفي الحركة الحضارية للأمة على مدار وجودها. المعجم التاريخي المنضبط المنهجيّة يمكن أن يكون مرآة حقيقيّة مستوية (غير مقلوبة الصورة) لحركة الأمة داخليا، في فكرها وأطوار تفكيرها بذاتها وبالوجود من حولها، وخارجيا في علاقاتها بالأمم الأخرى، وأطوار نشأتها وفتوَّتها وشيخوختها، ونقاطَ التحولات العميقة في وجدانِها وعقلها، وانبثاق تفكيرِها العلمي، وامتدادِها في آفاق التدافع والانكماش، والنهوض والانحدار. حركة اللّغة هي حركة الأمة، مع أنّ منطق اللغة يختلف عن منطق المتحدِّثين بها.

هذا من جانب، ومن الآخر، فثمة افتراض قائم على أن المعجم التاريخيّ للغة ما ينبغي أن يحتشد بجمع مدونة تستقصي متن اللغة في كلّ العصور، وفقَ المنهجيّة التّأريخيّة التي يتخذها لنفسه. وهذا التصور يقود لا محالةَ إلى افتراض آخر ينبني عليه، مفاده: إن المعجم التاريخيّ يتوفر على نسبة من متن اللغة لم يتهيأ لمُعجَمي آخر من قبل، ويستتبع ذلك أن تكون المادّة المعجمية في المعجم التاريخي أكمل وأشمل وأدق من نَظيراتها في المعاجم غير التاريخية، سواء في اكتمالِ المباني، أو اكتمال المعاني.

ولعل هذا الجانب وثيق الصلة بالكشف عن واقعِ اللُّغة الحقيقي؛ سعَتها وثرائها من ضيقها وفقرها، قابليتها للانفتاح على اللُّغات الأُخرى من انغلاقها على ذاتِها، قُدرتِها الذاتية على التطور والنمو والحَياة مِن عجزها عن الامتداد في التاريخ وضمورها وموتها، امتلاكِها لعناصر التوليد من عقمها، قوتها في مواجهة الصدمات الحضارية من ضعفها وانهيارها أمام أي صدمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.