الحواضر لا تبدل أسماءها.. الموصل وليس نينوى

المصلى الأصلي المكتشف في الجامع النوري الذي يعود للعصر الأتابكي في الموصل (الجزيرة)

أسماء الحواضر ليست اسما لمكان فقط؛ بل هي أيضا علامة على رصيد حضاري تراكمي، ويتعلق أهل الحواضر بأسمائها لا لتسجيل محل الولادة، وإنما لحفظ طراز الحياة فيها؛ لذا فإن عطاء الحواضر دائم، ولا يخضع لأحوال الدولة، بل إن نقطة السمت فيه تسجل دائما في فترة ضعفها، وسر ذلك هو أن هامش الحرية يكون أوسع أمام إدارة ذاتية للمجتمع، تحرر طاقاته، فيملأ فراغ الدولة، وينفع نفسه ومحيطه، ويصاحب هذه الظاهرة انتعاش اجتماعي واقتصادي، هذا هو ما حدث عندنا نحن في حاضرة الموصل إبان حصار "نادر شاه" عام 1743م وضعف الدولة العثمانية، حين صمد أهلها ونجوا ونجا معهم أهالي البلدات والقرى المسيحية المحيطة الذين احتموا بأسوارها كملاذ لمجتمعهم، أي أن الانتماء الاجتماعي للحاضرة يمتد خارج حدودها الإدارية، وقد فجرت تلك الحادثة واحدة من أندر صور التعايش الديني والتكافل الاجتماعي الذي عاشته أجيال أهل الموصل في القرن العشرين.

لم يعد الموصليون يسمعون اسم "الموصل" أو "أهل الموصل" في السياقات الرسمية وفي تصريحات المسؤولين، وباتوا عوضا عن ذلك يسمعون "نينوى" و"أهل نينوى"، رغم أنه لا يوجد مكان مأهول اسمه نينوى؛ فكيف يتم استبدال مجهول بمعلوم؟

هذه الحادثة ليست بسيطة كما قد تبدو في السرد التاريخي، فكما يرفع الفرد لواء عشيرته زمن الطوارئ ليستمد منها أمنه وعمقه الاجتماعي، فكذلك الحاضرة وعشيرتها في نظامها الاجتماعي الذي تستجمع به طاقاتها. ولواؤها هو اسمها الذي ترفعه بين الحواضر، وتنقل المعركة من ضيق المدينة إلى سعة الحضارة، فيحضر التاريخ، ويُعرف الصديق ويكبر الطموح، ويصغر العدو، ويتذلل الحل، وتتعدد الخيارات وتتنوع الإبداعات، وهذه هي آلية صمود ونهوض الحواضر.

وأظهرت الموصل جوانب مهمة؛ منها -رغم حكم المليشيات لها- أنها نظمت الندوات العلمية والأدبية، وأعادت طباعة كتب التراث والأنساب، وتحولت أسرها إلى منظمات مدنية لرعاية المحتاجين وبناء المدارس والمآتم، وتفانى أبناؤها في إعادة إعمار جوامعها وكنائسها وأسواقها بأموالهم الخاصة، وعلى نحو يثير الإعجاب، وفي الخارج وضع أبناؤها اسمها بين حواضر العالم التي دمرتها الحروب، أي أن الموصل حية والذين دفنوها لم يعلموا أنها بذور.

اسم مجرد من الدلالة

لم يعد الموصليون يسمعون اسم "الموصل" أو "أهل الموصل" في السياقات الرسمية وفي تصريحات المسؤولين، وباتوا عوضا عن ذلك يسمعون "نينوى" و"أهل نينوى" رغم أنه لا يوجد مكان مأهول اسمه نينوى، فكيف يُنسب الناس إلى مكان لا وجود له؟ وكيف يتم استبدال مجهول بمعلوم؟

إن هذا له في مفاهيم الحضارة تداعيات وخيمة منها:

المجتمع المحلي

نينوى تقسيم إداري يخضع لخريطة الحكم المحلي التي تبدلت في الماضي والقابلة للتبديل، وقد يضاف إليه أو يقتطع منه أجزاء. "وأهل نينوى" الذين يقطنون في جزء منه اليوم قد يجدون أنفسهم في الغد ليسوا "أهل نينوى"، وبالعكس؛ فإن هذا التعريف (أهل نينوى) تعريف متحرك مجرد من أي دلالة ثقافية أو اجتماعية، وهو انتماء الإنسان إلى مكان لا وجود له، ونَسبٌ ليست له حقيقة اجتماعية وثقافية تجعل سكان الحاضرة أشبه بنزلاء بناية تنحصر علاقتهم بها بتسديد الفواتير أو الضريبة في حالة المدينة، فلا تعود الحاضرة مكانا لتوليد أفكار الإصلاح وصناعة القادة وتوجيه التغيير.

الكيان الإقليمي

حين يتحول المجتمع من كيان تحت سقف مفاهيم حية (مكونات المجتمع، والرصيد الاجتماعي المشترك للمكونات، والخصائص التراثية، والأواصر الإقليمية) قابل للتكامل مع المجتمعات المجاورة إلى تجمع سكاني تحت عنوان خامل (نينوى) لا صلة له بمحيطه؛ تتلاشى الأواصر بين الحواضر الإقليمية، كالموصل وتوأمها حلب، ويختفي الكيان الإقليمي، وتصبح الحواضر كالشياه القاصية التي يسهل على الذئب التهامها، على عكس صورة استنجاد أنطاكيا في الحروب الصليبية بالموصل التي نجدتها، المليشيات الشيعية التي تحتل الحواضر اليوم لا تريد ظاهرة نجدة الحواضر لبعضها وكان الاحياء الاجتماعي الذي قادته الحواضر السنية في ذلك الوقت قد أفشل المحور الإسماعيلي-الصليبي.

خصوبة الحواضر

الحواضر ليست لها حدود إدارية، هي كالنظام المناخي الذي ينتهي في منطقة انتقالية يبدأ عندها نظام مناخي آخر، والمنطقة الانتقالية هي -في علوم الاجتماع- من أخصب المناطق وأغزرها إنتاجا وأكثرها تنوعا، فكل منطقة انتقالية -زراعية كانت أو اجتماعية- متعددة المحاصيل، وهكذا كانت الحال عندما كانت حاضرة الموصل مركزا لولاية الموصل في القرنين 18 و19، واتسع فلكها إلى مدن "ماردين" و"سعرت/سييرت" في جنوب شرق تركيا، ومثلت مادة غنية لدراسات اجتماعية وإدارية تحت مصنفات خاصة بالموصل كونها مثلت حالة حضرية متكاملة.

محو الموصل

اختفاء اسم الموصل ليس هو الباعث الأساسي على القلق عند أهل الموصل، إنما القلق هو اختفاء اسم الحضارة بالتوازي مع اختفاء الحجارة (منع إعادة بناء الموصل القديمة أو القليعات على طرازها التراثي) الذي ينسجم في رأيي مع غايات تسليم الموصل لداعش من قبل حكومة المالكي والتدمير المتعمد والقاسي لأحيائها القديمة على أيدي الميليشيات (كما دلت التحقيقات)، والتي تنسجم بدورها مع توجهات رسمية ضمنية (يلحظها أهل الموصل) لا تحبب الإشارة لها باسم المدينة، وبذلك تكتمل حلقات محو الموصل لتؤول إلى مدينة منزوعة الهوية المحسوسة ثقافيًّا أو الملموسة من الناحية الأثرية، باستثناء السماح بإعمار مساجد تراثية متناثرة وأزقة قديمة هنا وهناك، لكن المدينة تبقى من دون قلب تتدفق منه الدماء المحملة بأكسجين التراث العربي الإسلامي، هذه الحِلق مجتمعة تستوفي مفاهيم الشعوبية، ومن يقرأ التاريخ يجد التوافق بين مآلات الهجمات الشعوبية التي تعرضت لها الموصل في الماضي مع ما يحدث اليوم.

اختفاء اسم الموصل يجعل البون شاسعاً بين جيلنا نحن الذين لم نحضر حصار نادر شاه لكننا نمتلئ زهواً بصنيع الموصل وأهلها وبين أجيال تنتزع الكلمات المفتاحية من أذهانهم فيعجزون عن فتح مخارج الطوارئ.

اختفاء اسم الموصل يجعل البون شاسعاً بين جيلنا نحن الذين لم نحضر حصار نادر شاه لكننا نمتلئ زهواً بصنيع الموصل وأهلها وبين أجيال تنتزع الكلمات المفتاحية من أذهانهم فيعجزون عن فتح مخارج الطوارئ.

الحاضرة بضاعة اجتماعية والبضائع النفيسة لا تغير علامتها التجارية، ومن الشروط الصارمة في عقود شراء خط الإنتاج هو حق مالكها الجديد في الاحتفاظ بعلامتها الأصلية ليستمر في مشوار النجاح ولا يبدأ بعلامة مبهمة

هنا الموصل

الموصل لافتة عند كل منعطف على طريق طوله 1428 عاما (فتحت الموصل عام 16هـ)، كان اسمها الموصل يوم فتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشيّد فيها أول جامع في القليعات (المسمى شعبيا المصفي)، وكان اسمها الموصل حين حكمها الأمويون والعباسيون والزنكيون والأتابكيون واسم حاكمها "صاحب الموصل"، وكان اسمها الموصل يوم مر بها الرحالة ابن جبير والجغرافي ابن حوقل، ويوم غزاها المغول والصفويون، ويوم حررها العثمانيون، ويوم هزمت نادر شاه، ويوم الاستفتاء على مستقبلها السياسي عام 1926 الذي تم تزويره لتنتزع من نسيجها الإقليمي العربي (إقليم الجزيرة) الذي كانت عاصمته، وكان اسمها الموصل عندما تم ضمها إلى الدولة العراقية وكانت جمجمة الإسلام والعروبة، وكان اسمها الموصل عندما حمى أبناؤها وصقورها أرض العراق وسماءه من الصفوية المعاصرة.

ومنها أبو يعلى الموصلي (إمام الحديث)، والمبارك محمد الشيباني الموصلي (اللغوي والأصولي)، وأبو الحسن علي بن محمد الكامل الموصلي (صاحب كتاب التاريخ)، وضياء الدين أبو الفتح الموصلي (الكاتب والأديب البليغ)، وعثمان الموصلي (رائد فن الموسيقى)، وفيها صنع وإليها نسب قماش الموسلين النفيس الذي اقتناه ملوك وأثرياء أوروبا.

وهي المكان الذي انتقلت فيه الحياة بعد الفتح العربي الإسلامي من تجمعات سكانية بدائية إلى حياة المجتمع، وفيها دشن التعايش بين الأديان، ومن فناء جامعها العتيق في القليعات انطلقت الجيوش لتنشر نور الإسلام في القوقاز وآسيا الوسطى والأناضول، وفي فناء جامعها الجديد (النوري) ولدت المقاومة ضد الحروب الصليبية، ومنه انطلقت أولى كتائب المقاومة التي حررت مقدسات الإسلام وحمت المسيحية في الشرق، وهي أكبر "سنجق" (مقاطعة إدارية/علم) في الدولة العثمانية، وأنموذج المجتمع المدني في الإدارة الذاتية أثناء غياب الدولة العثمانية إبان حصار نادر شاه، وبها تغنى شاعر القرن الثالث الهجري السري الرفاء:

سقا ربا الموصل الزهراء من بلد

جود من الغيث يحكي جود أهليها

أرض يحن إليها من يفارقها

ويحمل العيش فيها من يدانيها

كل حقبة من هذه الحقب هي عنصر في شخصية الموصلي وفي سر حبه للنظام والانضباط وطموحه الذي يعانق السماء وفي نوازعه في إعادة بناء مدينته كحضارة وليس فقط كحجارة.

الحواضر لا تغير أسماءها

الحاضرة مرساة للتاريخ ودفة للمستقبل، وحين تفقد حسها المجتمعي والفردي فإنها تتحول إلى تجمع سكاني فاقد للهدف وقابل للسوق بأي اتجاه، وهذا هو مفهوم الكتل السكانية في نظام المليشيات (المضاد لمفهوم الحواضر) والمعمول به في العراق منذ سقوط الدولة عام 2003.

والحاضرة بضاعة اجتماعية والبضائع النفيسة لا تغير علامتها التجارية، ومن الشروط الصارمة في عقود شراء خط الإنتاج هو حق مالكها الجديد في الاحتفاظ بعلامتها الأصلية ليستمر في مشوار النجاح ولا يبدأ بعلامة مبهمة. أهل الموصل يرفضون أن يستبدل اسم حاضرتهم باسم لا يدل على عراقتها وعلى منشئها ويعطل دورها الحضاري. الموصل مصطلح كقرطبة وغرناطة والقيروان ودمشق وحلب حيثما حضر حضرت معاني الحضارة والنظم والانضباط، ومن أراد حقا أن تنهض فعليه بأقصر الطرق؛ وهو اقتفاء علامة "الموصل".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.