المسألة الدبلوماسية.. كيسنجر ودروس في فنون الظلام

File photo of Former U.S. Secretary of State Henry Kissinger (Reuters)
السياسي الأميركي ووزير الخارجية الأسبق "هنري كيسنجر" (رويترز)

وُصفت الدبلوماسية بأوصاف كثيرة؛ أغلبها مستحسن، وقيست عليها مناقب الذكاء والدهاء والكياسة واللباقة والأناقة، غير أن البعض من أوصافها لونته ممارسات القلة ممن عُهد إليهم بها، أو تعهدوها برعايتهم لها، أو صبغوها بأسلوبهم ونمط تقديراتهم. والأمثلة على المستحسن والمستقبح منها لا يأتيها الحصر، ولا تسع اختصارها أسطر هذا المقال.

إلا أننا إذا أردنا أن ننظر في تجربة واحدة جمعت بين كل نقائض الدبلوماسية -بإيجابياتها وسلبياتها- فلن نجد أفضل من هنري كيسنجر ليتربع على عرشها. وهذا ليس بموقف خاص من الرجل بقدر ما هو حكم ارتأته النخب السياسية في الغرب، بما فيها مؤسسة الدبلوماسية الأولى في واشنطن؛ قبل غيرها. فالواقعية في السياسة الخارجية التي اعتمدها كيسنجر منهجا لعمله، وبكل ما صحبها من نجاحات وإخفاقات، لم تعد مقبولة على علاتها في عالم اليوم، وتبذل الدبلوماسية الأميركية قصارى جهدها للتخلص من بعض ما علق بها من "دماء" وتجاوزات يصعب الدفاع عنها.

ولقد دنا كيسنجر من قرنه الثاني، إذ احتفل في نهاية مايو/أيار الماضي بعيد ميلاده الـ99. وتقول وثيقة إطلالته على الحياة إنه رأى النور في 27 مايو/أيار 1923 في فورث بألمانيا، وهاجر أبواه إلى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1938، وهو ابن 14 عاما. وبلغ الآن من العمر عتيا، لكنه رغم ذلك ما زال يصر على تذكير الجميع بأنه ما يزال بينهم، وبكامل وعيه وطاقته وقدرته على التذكر والتأليف؛ وذلك رغم أن واشنطن بدت غير معنية به كثيرا بعد أن أرهقتها واقعيته الدموية، حتى إنها أرادت محو أثره بين جدران وزارته وقلب صفحته في أخص أضابيرها، قبل أن يكمل عامه المئة، حيث يعد دفاع الرئيس جو بايدن عن الانسحاب من أفغانستان إعلانا عن قطيعة حاسمة مع تقليد مثالي للسياسة الخارجية الأميركية، وهو ما يطلق عليه "الأممية الليبرالية"، الذي يؤرخ لبدايته مع وودرو ويلسون، والذي وصل إلى ذروته في التسعينيات مع جورج دبليو بوش الابن.

 لقد أنتج رجل السياسة الواقعية العجوز كيسنجر دراسة عن 6 قادة وطنيين؛ هم كونراد أديناور، وتشارلز ديغول، وريتشارد نيكسون، وأنور السادات، ولي كوان يو، ومارغريت تاتشر، وقد نُشرت في كتاب بعنوان "القيادة"، وأوضحه بعنوان فرعي يُشير إلى "ست دراسات في الإستراتيجية الدولية".

لقد كان الرأي السائد لليمين الأميركي بنهاية الحرب الباردة الذي كان كيسنجر على رأسه ومن عتاة منظريه؛ هو أنه يجب على الولايات المتحدة فرض القوة الاقتصادية من خلال العقوبات، وعدم الممانعة في استخدام القوة العسكرية لإجبار الدول الأخرى على تبني الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، والدعوة لاعتناق القيم الغربية تحت ذرائع دعم حقوق الإنسان، التي سعى الرئيس جيمي كارتر لإظهارها بربط السياسة الخارجية الأميركية بمبدأ أخلاقي، وذلك في لحظة ضعف جلبته الهزيمة العسكرية والأخلاقية الكارثية لحرب فيتنام، واحتلال السفارة الأميركية في طهران.

وقد أخذ جورج بوش تلك الهزيمة -وفقا لترجمة المحافظين الجدد للأممية الليبرالية- بعيدا عن مراميها بإقدامه على غزو العراق وأفغانستان، ومحاولة غزو الصومال، والتفكير الجدي في احتلال السودان. مفارِقا بذلك -من حيث المفهوم والممارسة- قواعد القانون الدولي، ونظام "وستفاليا"، الذي يحظر على الدول التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين. ورغم ما زين سيرة كيسنجر من نعوت مستملحة ومستقبحة تراوحت بين الحكيم والخبيث، والذكي والثعلب، ونمرود الظلام؛ فإنه لا يوجد وصف يصح عليه هنا أكثر انطباقا مما قاله عنه "كريستوفر هيتشنز" ذات مرة، حيث قال إنه "كاذب مذهل له ذاكرة رائعة".

وإن كلتا الصفتين -كاذب ومذهل له ذاكرة رائعة- جائزتان في نظرنا، ونظر الكثيرين، إلا أن أندرو أنتوني كتب يقول -في عدد صحيفة الـ"غارديان" (Guardian) الصادر الثلاثاء 21 يونيو/حزيران 2022- إنه وبغض النظر عن الجزء الأول (كاذب) من هذا الوصف، إلا أن كيسنجر يبدو -وهو في الـ99 من عمره- عازم على إثبات صحة قول هيتشنز في الجزء الثاني (مذهل له ذاكرة رائعة)؛ فهو واع يؤرخ لدبلوماسية أميركية واقعية بنى مجدها، ويكتب عن كل شيء حتى الذكاء الاصطناعي، ويقلب صفحات التاريخ السياسي لعواصم العالم الكبرى ومناقب من عاصرهم من زعمائها. فلا يترك قارة من قارات العالم إلا وينزل على حاضرة فيها، ويثبت الفضل في دورها في السياسة العالمية لأحد قادتها ومزايا زعامته الكاريزمية.

لقد قال أندرو أنتوني إنه بينما يكافح العديد من الأشخاص الذين وصلوا إلى هذا العمر لتذكر أسمائهم؛ أنتج رجل السياسة الواقعية العجوز كيسنجر دراسة عن 6 قادة وطنيين؛ هم كونراد أديناور، وتشارلز ديغول، وريتشارد نيكسون، وأنور السادات، ولي كوان يو، ومارغريت تاتشر، وقد نشرت في كتاب بعنوان "القيادة"، وأوضحه بعنوان فرعي يشير إلى "ست دراسات في الإستراتيجية الدولية".

وفي هذا الكتاب، فإن كيسنجر المعلم الجيوسياسي، يهتم أكثر بكيفية تصرف القادة على المسرح العالمي بدلا من الداخل، فعلى سبيل المثال، لا يهتم كثيرا بما إذا كانوا يكذبون على برلماناتهم، أو ينتهكون قوانينهم، أو يضطهدون شعوبهم. فكيسنجر الذي كان مستشارا للأمن القومي إبان التمرد في بنغلاديش، وقف ضد مطالبة الحكومة الأميركية للباكستانيين بتجنب العنف، في وقت كان الالتزام بواقعيته سياسة لا أخلاقية مؤلمة، إذ كانت العاصمة البنغالية داكا يطاردها العنف ليل نهار، وتنزف دما غزيرا وبلا وجع.

بيد أن مايكل شيفر يضع الحقيقة التي نحن بصددها، بسؤال فيه الكثير مما تعده الدبلوماسية "حرج الدولة"، إذ نشر في عموده "كابيتال سيتي"، في مجلة "بوليتيكو" (POLITICO)، الصادرة الجمعة 24 يونيو/حزيران 2022، تحت عنوان "هل تصيد وزارة الخارجية هنري كيسنجر؟"، ويعني بذلك أن وزارة الخارجية الأميركية تكرم -في نهاية يونيو/حزيران 2022 ضمن حفل رسمي- "دبلوماسيّا دفع ثمنا باهظا لتجاوز سيد السياسة الواقعية"، وذلك بتخصيص غرفة اجتماعات خاصة باسم "آرتشر بلود"، لإحياء ذكراه كدبلوماسي أميركي عمل قنصلا لبلاده بين عامي 1970 و1971، في داكا بباكستان الشرقية، التي صارت الآن عاصمة بنغلاديش، والذي احتج في عام 1971 على حملة القمع الدموية المروعة التي يشنها حليف للولايات المتحدة في إسلام آباد.

ويخلص شيفر إلى أنه من المحتمل أن يظل اسما آخر غير معلن هو من يتسيد اللحظة، وهو هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق الأكثر ارتباطا بدعم أميركا لتلك الفظائع، ولما يفهمه العديد من العلماء الآن على أنه "إبادة جماعية".

إذن، ليس من الصعب تفسير هذا التكريم على أنه صفعة ضمنية لسيد السياسة الواقعية البالغ من العمر 99 عاما، الذي أنتجت دبلوماسيته غير الأخلاقية "الكثير من الدم"، وكان قد رأى وقتئذ أن مسيرته المهنية تنحرف عن مسارها بسبب احتجاج آرتشر بلود عليها. وفي تقديرنا لا يعني ذلك أنه سيتم إصدار فاتورة "نهاية خدمة" لكيسنجر بهذه الطريقة، إذ إن الأمر لا يعدو كونه "احتفال ببطولة الفرد"، وليس "إغاظة خصمه"، رغم لما للمناسبة من دلالات أوضحتها كيلي كيدرلينغ، نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركية في مكتب جنوب ووسط آسيا، بقولها إنه "بعد مرور 50 عاما، نفكر مرة أخرى في القيم، التي كانت مطلوبة في تلك المرحلة، ونأمل أن نستمر في الحفاظ على هذه القيم كجزء من أخلاقياتنا المهنية"، ولا أرى قصدا أوضح من هذا كـ"توبيخ مؤسسي لكيسنجر"؛ رفضا لما كانت عليه سياساته الواقعية التي وقفت مع كل التجاوزات؛ إظهارا لمنطق القوة، وتخريجات الواقعية السياسية.

لهذا، فإننا نشهد -بهذه المناسبة وغيرها- حالة شديدة التباين مع كل ما كان يمثله هنري كيسنجر السياسي الذي قاد دفة الدبلوماسية الأميركية في أحلك منعطفاتها، وليس بوصفه الواعظ الإستراتيجي الذي يبشر الآن بعطاءات الذكاء الاصطناعي أو أسلوب القيادة لزعماء ليس كل ما في تاريخهم يصلح أن يكون نموذجا يحتذى. ففي الواقع، إن قصة "عهد الرعب" التي ذكرها "بلود" في برقية أرسلها إلى واشنطن بعد وقت قصير من إطلاق باكستان "عملية الكشاف"، يقول فيها لقد "تم ذبح الآلاف وهم أبرياء وزُعم أنهم مذنبون"، وقال في برقية أخرى، إنها "إبادة جماعية انتقائية"، وهو الشاهد الأميركي على الحملة ضد الانفصاليين في حرب باكستان وبنغلاديش، التي اعتبرت وقتئذ واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية، والتي غطى عليها حجاب كيسنجر، الذي وُصف بـ"الخبيث"، فقط لأن باكستان كانت توفر له شخصيا غطاء ضروريا لمواصلة اتصالاته السرية مع الصين. من هنا، تمثل مناسبة احتفال وزارة الخارجية الأميركية في نهاية يونيو/حزيران 2022؛ صراعَ وزارة الخارجية المركزي الذي ينطوي على مواجهة مع البيت الأبيض حول القيم الديمقراطية والمصالح الوطنية وواجبات الموظفين الفدراليين مثل بلود، وهي مواجهة -كما يقول مايكل شيفر- تبدو مهمة جدا من الناحية السياسية اليوم، مهما كانت النية غير سياسية، أو دبلوماسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.