روسيا والاندماج العربي.. تجربة الحوار الإستراتيجي الروسي الخليجي

Russian President Vladimir Putin attends a meeting with participants of the Bolshaya Peremena national contest for school students, via video link in Moscow
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (رويترز)

تظل العلاقات الثنائية بين أي بلدين أكثر فاعلية من العلاقات الجمعية نظرا لوجود متطلبات أحادية في سياق العلاقات الجمعية قد تؤثر سلبا في سياق التعاون الجمعي مع طرف آخر، وقد تكرر هذا المشهد في أكثر من تجربة، نتذكر القمم الثلاث التي تم عقدها في الرياض، وجمعت الرئيس ترامب مع السعودية ثنائيا، ثم مع دول مجلس التعاون الخليجي، والثالثة مع دول منظمة التعاون الإسلامي؛ من أجل التعاون الشامل في عدة ملفات من ضمنها "مشروع صفقة القرن"، وعمليا فشلت المحاولة حتى في مجرد التنسيق المشترك نظرا لوجود تناقضات في المصالح، وتباينات في ترتيب الأولويات بين كل دولة وأخرى في سياق مصالحها مع الطرف الخارجي.

وقد تنطبق هذه الحالة على المشروع أو التوجه الروسي نحو الخليج العربي تحت سياق "الحوار الإستراتيجي الروسي الخليجي" في دوراته الخمس السابقة، للوقوف على إمكانية النجاح في مثل هذه المساعي، والتحديات التي واجهت نجاح مثل هذا المشروع المهم "إستراتيجيا"، رغم مساحة التوافقات والتطابقات العميقة على المستوى الخليجي، وأكثر من 40 عاما من التنسيق والتعاون الجمعي الخليجي، ومع هذا نجد أن مساحة التناقضات "خليجيا" لا تزال واسعة في سياق التعاون الجمعي مع طرف خارجي (روسيا أو أميركا).

 من نوفمبر/تشرين الأول 2011 إلى يونيو/حزيران 2022 أحد عشر عاما "خليجيّا روسيّا" في خضم ملفات أمنية وسياسية واقتصادية مهمة في المحيط الخليجي، نجد خلالها دائرة الاجتماعات بين الجانبين قد تم الاتفاق فيها على استمرار التعاون في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.. هل يكفي هذا؟!

فبحسب الموقع الرسمي للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، تم عقد 5 اجتماعات وزارية مشتركة للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون وروسيا الاتحادية: الأول بمدينة أبو ظبي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2011، تم فيه التوقيع على مذكرة تفاهم تنظم آليات الحوار الإستراتيجي بينهما، شملت ما يلي:

  • الحوار الإستراتيجي والتنسيق السياسي.
  • التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري.
  • الطاقة والتعليم والبحث العلمي والبيئة والصحة.

كلّف الوزراءُ كبار المسؤولين من الجانبين لوضع خطة عمل مشتركة للأعوام 2013-2015 تتضمن التعاون والتشاور في المجالات السياسية والأوضاع الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، والمجالات التجارية والاستثمارية والسياحية، والطاقة المستدامة، والبيئة، والصحة، والثقافة، والرياضة، والتعليم، والبحث العلمي.

عقد الاجتماع الوزاري المشترك الرابع للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية وروسيا الاتحادية في موسكو يوم 26 مايو/أيار 2016، وتم الاتفاق على استمرار التعاون في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. ووجّه الوزراء باستكمال إعداد خطة العمل المشترك للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون وروسيا الاتحادية.

تم الاتفاق على عقد الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الإستراتيجي خلال العام 2017 في مملكة البحرين، يبدو أن ذلك لم يتم لعدة أسباب لعل منها: الأزمة الخليجية وجائحة كورونا. وتم عقد الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي وروسيا في الأول من يونيو/حزيران 2022 بمدينة الرياض، بحضور وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وأصحاب السمو والمعالي وزراء دول المجلس.

من نوفمبر/تشرين الثاني 2011 إلى يونيو/حزيران 2022 أحد عشر عاما "خليجيًّا روسيّا" في خضم ملفات أمنية وسياسية واقتصادية مهمة في المحيط الخليجي، نجد خلالها دائرة الاجتماعات بين الجانبين قد تم الاتفاق فيها على استمرار التعاون في مختلف القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.. هل يكفي هذا؟!

وكأن اللقاءات لم تتجاوز طاولة الاجتماعات لتخرج إلى فضاء العمل، وإن كان هناك شيء فإنه لا يرقى إلى تطلعات الجانبين، وعزم القيادات العليا وإرادتهم الحقيقية في التحرك تجاه بعضهما، ولا يتوازى مع حجم التحديات، ويكشف من جانب آخر عن العجز في توفير الآليات المحققة لتلك الإرادات. وهنا أتذكر تعليق الزميل أندريه بكلانوف السفير الأسبق في المملكة على تباطؤ العمل "الخليجي الروسي" قائلا "إن الإدارات التنفيذية لدى الجانبين لا ترقى لمستوى إرادة قادة البلدين في سياق العمل المشترك"، قد يكون هناك اتفاقات أو تفاهمات طبقت على أرض الواقع، لكن لم نشاهد لها أثرا حقيقيا تفاعليا.

لذا أصبح أصحاب الاختصاص أو الاهتمام كـ"مسترق السمع" في تتبع المعلومة، وهذا عائد لعدم دعوة مراكز الدراسات والبحوث لمثل هذه الاجتماعات التي هي في حاجة لمشاركة عقول ناقدة، وليس لمجرد كاميرات إعلامية ناقلة.

يمكن تفكيك هذا المشهد الذي يجمع بين الإرادة العليا الجادة والخمول التنفيذي، وفق التحليل التالي:

  • وجود قوى انجذاب وتأثير "لدى الجانبين" خارج الدائرة "الخليجية الروسية" أقوى من دوافع الانجذاب للعمق الثنائي بينهما. التكوين البنيوي "الخليجي" للإدارات الاستشارية والتنفيذية، ذات وعي معرفي وتنظيمي "غربي" باعتبار التعلم وملفات العلاقات والمصالح "الخليجية الغربية" الواسعة "موضوعيا وزمنيا"، مما يضعف من مساحة الفهم والتفاعل "الخليجي الروسي"، تبرز بسببه صعوبات "حقيقية أو مضخمة" في مجال التواصل والإقناع تجاه بعضهما.
  • انعزال المؤسسات التنفيذية "في وزارات خارجية دول المجلس، والأمانة العامة للمجلس" عن استخدام الأدوات والقوى الناعمة المساندة لقرارات المصالح الخليجية في الفضاء الروسي. إذ لا يزال عدد من "صنّاع القرار الخليجي" ينظرون إلى روسيا من الزاوية الغربية، باعتبار تأثير التدفق الإعلامي الغربي المباشر، أو من خلال وسائل إعلام خليجية ذات رؤى ومصادر غربية، مما يفوت الكثير من إدراك المساحة المشتركة "خليجيا وروسيًّا" لتكون خطًا موازيا لاتجاهات عمل مصالحنا الدولية الإستراتيجية.
  • غياب "مراكز البحوث والدراسات" الخليجية عن الاجتماعات التحضيرية وحتى التشاورية بين الجانبين، مما يقصر العمل على "الموظفين الرسميين"، وهنا يتم تعطيل عقول استشارية "مؤسسية وفردية خليجية" قد تكون فاعلة وداعمة.

 

أما من الاتجاه الروسي فيمكن أن نلاحظ عاملين مؤثرين:

  • النظرة التقليدية لدى النخب الروسية بأن دول الخليج تابعة للمعسكر الغربي ومقيدة بمجموعة من الالتزامات الإستراتيجية، التي تحدُّ من التفاعل مع روسيا، ولعل "الموقف الخليجي من أزمة أوكرانيا" قد فكك جوانب من هذه النظرة غير الدقيقة.
  • غياب النخب الروسية "المستعربة" ذات الوعي المعرفي العربي العميق، وخلوّ الساحة الروسية "إلى حد كبير" من تلك القيادات العلمية المؤثرة، حيث فقدت الساحة الروسية يفجيني بريماكوف، مرورا بفلاديمير دنتسوف، وانتهاء بجريجوري كوساتش وغيرهم كثير، ودخل الاستعراب الروسي مرحلة "الشيخوخة"، إذ توقفت العجلة الاستعرابية الروسية العريقة عن إنتاج القيادات العلمية المؤثرة "مع التقدير لجهود معهد الاستشراق بأكاديمية العلوم الروسية بقيادة المخضرم فيتالي ناؤومكين"، فالمرحلة الروسية العربية تستلزم إعادة "استنبات النخب الروسية المستعربة".

هذه العوامل في تقديري مؤثرة، وخطورتها أنها غير ملموسة، لكن تأثيرها محسوس في حالة الرخاوة في العلاقات "الروسية الخليجية".

في المقابل، الجميع يُقر بخطورة المرحلة الدولية الراهنة، والجميع يعترف بأهمية كل طرف بالطرف الآخر، وواقعيا كل منهما لا يرى الآخر بديلا إستراتيجيا لاتجاهاته الإستراتيجية الأخرى، ولكن علاقتهما ضرورة مرحلية وليست مجرد تكتيك، جدوى "المرحلية" ونجاعتها تقود إلى مسار "الإستراتيجية النوعية"، وهذا يستلزم عددا من الإجراءات، منها:

من الجانب الخليجي: تكوين "أمانة عامة مساعدة" في أمانة مجلس التعاون، تختص بالشؤون الروسية، وتُعنى بملف العلاقات والحوار الإستراتيجي "الروسي الخليجي".

من الجانب الروسي: تكوين إدارة في الخارجية الروسية مختصة بدول الخليج العربية، يقوم عليها سفير سابق في دول المنطقة، لزيادة مساحة التفاهم والتواصل المباشر. وتوسيع دائرة العلاقات "الروسية الخليجية" لتشمل دول آسيا الوسطى (أوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمانستان)، بالإضافة إلى أذربيجان لأهميتها الإستراتيجية ومواردها الطبيعية، ولوجود مشتركات مع الجانب الروسي يمكن توظيفها لخدمة المسار "الروسي الخليجي"، وأيضا لأسباب موضوعية أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.