السعودية وتركيا ومصر.. "إيستفاليا" نحو شرق جديد في عالم يتغير

أعلام السعودية وتركيا ومصر
أعلام السعودية وتركيا ومصر (الجزيرة)

كتبت هذا العنوان قبل أشهر من قمة العلا الخليجية وبيانها الشهير، وتوقفت عن إكمال المقال لاستقراء الظرف المناسب لطرح أفكاره، ومرّت الأحداث الإقليمية والدولية سراعا، ومن أعمقها نهاية ولاية الرئيس ترامب وما صاحب ذلك الحدث وما تلاه.

مَن منا لا يعرف "ويستفاليا"، الاسم الشهير للاتفاقية التي غيَّرت قواعد اللعبة إن صح التعبير، ونقلت العالم من الحدود السائلة التي ترسمها الحراب وتسوِّرها أقدام الجنود، إلى الحدود الصلبة التي يتبادل الجميع الاعتراف بها، وكذلك الاعتراف بقواعد جديدة للعبة جديدة أو طور جديد من التنافس والتدافع الدولي، وما تلا ذلك من خطوات التأطير لبنى الدول وطبيعة علاقاتها الداخلية والخارجية ومن إرساء منظومات للعمل الأممي والدولي، وإيجاد منظمات تتولى الجوانب التنفيذية والإجرائية، وإلى تشريع العديد من المواثيق والقوانين الدولية، والتي يتعاظم أكثر فأكثر الضغط الشعبي والمدني على السياسة لتتسق معها.

كل ذلك نألفه اليوم بشكل تلقائي، ويغيب عن بالنا حجم التقدم في الوعي البشري والإرادة الإنسانية التي أفرزت ذلك وطورَّته حتى انتقلت إلى ما كان يسمى بعصبة الأمم ثم إلى ما نعرفه اليوم بهيئة الأمم المتحدة، والتي يعتقد الكثيرون أن حركة التاريخ ستطالها بتغيير جذري، حتى تخلِّصها من تناقضاتها لتصبح أكثر انسجاماً مع ما بُنيت عليه من مفاهيم ومبادئ، ولتكون أداة أكثر صَوناً لما وجدت لأجله، وتخرج البشرية من مخاض التئامها على إعلاء الحقوق وتصليب المشتركات وترسيخ الاحترام المتبادل، وهذه السيرورة ستنضج وتتبلور بعد أن تجتاز أمم عديدة مخاضاتها الخاصة، وستفرز واقعاً جديداً يشهد حضورها ضمن إيقاع جديد.

ولهذا يجدر النظر ملياً إلى قلب العالم ومنطقة الشرق الأوسط التي تقبع فوق قلاقل عميقة الغور، تجعلها منطقة قلقة وهشة الاستقرار، ومثيرة للتوجس العالمي، ومحل اهتمامه كيلا تخرج تناقضاتها عن السيطرة فتنعكس سلباً على أوضاع العالم واقتصاداته وتوازناته.

لا سيما وقد تجددت هذه المعاني والأفكار خلال الحرب الروسية الأوكرانية التي تفرض بطبيعة دوافعها ودعاويها وتداعياتها العديد من المراجعات، وتدفع بقوة نحو مقاربات جديدة تسهم في خلق فضاء إستراتيجي وقيمي جديد، فهذه الحرب ناشبة بين بلدين لا يتناقضان بالخلفية القومية، ولا في المذهب الديني، ومع ذلك فاليد امتدت بالأمس على شبه جزيرة القرم وتمتد اليوم لأجزاء كانت ضمن الحدود الأوكرانية التي "كفلتها" معاهدة ويستفاليا وما بُني عليها، مما يشكِّل استباحة لما قامت لأجله وهو الانتهاء من الحروب لأجل الأراضي. وربما كان يكفي هواجس الأمن القومي الروسي وضمان شريان الحياة من هذا المضيق لو تم إنفاق جزء مما تم إنفاقه على الهجمات المتعاقبة على أوكرانيا، لا على الحرب بل على حفر ممر أو قناة قريباً من مضيق شبه جزيرة القرم ضمن الأرض الروسية، ليكون لها ممرها الخالص مما يعطي رسائل كان من الممكن أن تحول دون التقارب الذي تخشاه روسيا وبالتالي وتحول دون الانزلاق نحو حروب ليست أمراً لا مفر منه.

هذه واحدة من أسخن المواجهات التي يقف أمامها المفهوم الذي بنيت عليه الأمم المتحدة عارياً من المصداقية، خالياً من الفاعلية. وفي منطقتنا قلب العالم ما هو أعمق من التناقضات التي فجرت الحرب الروسية الأوكرانية، وأفرزت مصاعب عالمية اقتصادياً وغذائياً، وقضمت الكثير من المداخيل بتضخم مرعب وإنفاق يهدر ما كان يمكن تجازوه بشيء من التكريس للمفاهيم التي عرفها العالم في مواثيقه، ولكنه شهد الكثير من النكوص عنها حين حانت ساعات الجد، وكلما أسفرت السياسة عن مخبوئها خلف بريق الشعارات، مما كبَّل منظوماته التي أسستها دول العالم لتكون المأمن لا لتكون ظاهرة صوتية تؤلم لأنها تعلم ولا تعمل، وتعي ولا تستدرك، وتشهد وتوثق وتقف موقف القادر على الفعل والعاجز عن إنفاذه.

ولذلك فمن الأهمية بمكان للمنطقة وللعالم تطوير التقارب التكتيكي الظاهر في الحراك السياسي في المنطقة، إلى نسج تفاهمات إستراتيجية تؤسس لشرق جديد يقي العالم من تبعات واحد من أهم الثقوب السوداء التي تهدد تنمية العالم واستقراره وحياة العديد من شعوبه.

ففي قلب هذا الشرق تقع مراكز ثقل العالم الإسلامي، وهي بلدان كانت حتى فترة قريبة على أطراف نقيض، وبينها الكثير من المناكفات والتباينات السياسية، مما هدد المنطقة بتعميق هوة الفراغ الإستراتيجي، فيما يشير الواقع ودروس التاريخ إلى أنه يمكن لشرق جديد يعي ثقله الإستراتيجي ويضع في اعتباره إرثه الحضاري ومصالحه الحيوية ومدى دوره الإقليمي والدولي، أن يؤذن بفجر عصر جديد فيما لو عزز الكثير من القواسم المشتركة وانطلق منها.

العالم الإسلامي بحاجة لوجود مركز ثقل ثقافي وقيمي متوازن ومتلاقٍ مع العصر، من باب التكافؤ والأحقية بالاعتبار الوجودي الطبيعي بدون صراع حاد أو تضاد صارخ، وهو ما يعطي الثلاثي التركي السعودي المصري بمشتركاته التاريخية وتقاطعاته الدينية والقيمية، نوعًا من الثقل والعمق والقدرة على الانفتاح الإستراتيجي المتوازن

ومحور ذلك الثقل هو التقارب السعودي التركي المصري، فهذه البلدان الثلاثة ومن خلفها العديد من البلدان التي تمتلك الحيوية والفاعلية، هي نقاط ارتكاز العالم الإسلامي وطليعة حضوره الإستراتيجي وعماد بناء علاقات نموذجية مع العالم بآفاقه الواسعة وتحولاته التي توحي بالكثير.

ففي العمق، نجد بين تلك الدول الثلاث الكثير من التشابهات في نمط الحياة ومحركات الاجتماع والثقافة والسياسة وتطلعات الاقتصاد، وهي تملك الاعتزاز بتاريخها العريق والوعي بمكانتها الجيوسياسية وثقلها الإستراتيجي، وتعرف مكامن قوتها وممكنات صعودها، وتدرك منعكسات تفاهمها العميق وتحالفها الوثيق، وآثاره على العديد من الملفات، ودوره البنَّاء في كثير من القضايا، ويؤسس لذلك التركيز على مساحة التقاطع في البلدان الثلاثة في وعيها بمسألة الدين والعصر، وجدلية الدين والدولة، وأهمية التعالي عن الاصطفاف بناءً على فروق اجتهادية ورؤى تكاد تنغلق على ذاتها.

وهي كذلك لأنها أيضاً دول تملك إرثها العظيم وتاريخها الحافل ومخزونها الثقافي وألقها الحضاري، وتتعامل مع مفردات تاريخها وثقافتها ومكانتها بكثير من العناية. وواضح أن مثلث العراقة يتجه حثيثاً لتصليب نموذج يتعامل مع البعد الديني بلا تغييب ولا تغليب، وتسارع الخطى لتنسج التوازنات الداخلية والخارجية بلا مناكفة ولا مغالبة وبكثير من الصبر الإستراتيجي، والاستيعاب المنهجي، وهو أساس الاتزان الذي يحتاجه العالم لتوسيع آفاق توازناته وتجذير تفاهماته وتمتين مشتركاته.

صحيح أن للدول سيادتها وحدودها الواضحة، ولكن لاتخاذ القرارات الكبرى والتوجهات الإستراتيجية حدودها أيضا، إذ لا توجد سيادة بالمعنى المطلق ولا لأي دولة، فلكل صانع قرار اعتباراته وممكناته وهوامشه ضمن منظومة صناعة القرار بمؤسساته في كل دولة، وفقاً للاعتبارات الداخلية والخارجية، طبقاً للفضاء القيمي السائد، وانسجاماً مع المكونات الكبرى للهوية التي تشكِّل الثقل التاريخي والقلب الثقافي للبلد، والتي تأخذ حيزها في السلطة العميقة للدولة والمجتمع، وتعتبر جزءاً في قوتها الناعمة التي تكفل للقرار قبوله ونفاذه وتكريسه، وتقف وراء الكثير مما يبدو أنه لا يضعها في الواجهة، ولكنه لا يخرج من الخلفية ويأخذ بها في السياقات.

وهذا المفهوم هو ما يجعل حاجة العالم الإسلامي لوجود مركز ثقل ثقافي وقيمي متوازن ومتلاقٍ مع العصر من باب التكافؤ والأحقية بالاعتبار الوجودي الطبيعي بدون صراع حاد أو تضاد صارخ، وهو ما يعطي الثلاثي التركي السعودي المصري بمشتركاته التاريخية وتقاطعاته الدينية والقيمية نوعاً من الثقل والعمق والقدرة على الانفتاح الإستراتيجي المتوازن، ويجعل تلاقيها الإستراتيجي مؤذناً بديناميكيات جديدة.

فهذه الثلاثية هي النواة لعالم إسلامي متعدد الأقطاب ومنسجم القلب والأطراف، ومواكب للعصر، يتشارك مع العالم الهموم والأعباء، وينأى بالمنطقة عن التناقضات، ويخرجها من الصراعات الوجودية والاختلالات الداخلية بناء على وعي عميق بالذات وإدراك للحاضر وتطلع للمستقبل، في خضم عالم يضج بالصراعات الاقتصادية والتنافس اللاهث وراء تنميات محلية فيها نوع من الأنانية وشيء من التنمر المغلف بمقولات المصالح العليا، واعتبارات الأمن القومي، وهي في حقيقتها مما يزعزع الأمن والاستقرار الدوليين، وإن هي إلا هواجس تم تغليفها بعبارات ومقولات تبدو من روح العصر، ولكنها من منطلقات ما قبل ويستفاليا وتتناقض مع روحيتها، والأهم أنه يمكن تجاوزها بشيء من الانفتاح والجد لإرساء عمل دولي منسجم مع مبادئه وأهدافه.

إيستفاليا أو الشرق الجديد بحامله المتعدد الأقطاب، هو عنوان رمزي لمقاربة جديدة ترسي أسس تلاقٍ إستراتيجي، وتضع قواعد جديدة تنظم التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية، وتخرج بالمنطقة مما يربكها ويعوقها من منازعات القطبية الواحدة التي لا تلبي تحديات العصر، ويؤسس على المشتركات ليطور المكانة ويعلي شأن الحضور الإستراتيجي على نوازع البروز المحلي من حيث إنه ثراء إضافي وقيمة مضافة، ورافد كبير الأثر لعالم يتحول، وينبغي له أن يتغير نحو المزيد من تكريس الوعي بتجنب تناقضات الحاضر والتلاؤم مع موجبات المستقبل الذي تريده البشرية جمعاء.

وهي مرشحة لذلك، لأنه في هذه القطبية الثلاثية كوامن كثيرة وممكنات هائلة وقادرة على التأثير وتغيير طبيعة تناقضات المشاريع في المنطقة وتلك التي تتوجه للمنطقة، ومدعوة -بسبب حدة تناقضات المنطقة- لإعادة رسم ملامح المنطقة بناء على مقاربات جديدة لها اعتبارها، وتستمد ثقلها من تكامل أدوار القطبية الثلاثية في ميادين الطاقة والصناعة والزراعة والتعاون الاقتصادي والثقافي والتنسيق السياسي، وفقاً لرؤية إستراتيجية تستثمر الإرث في حضور فاعل إقليمياً وعالمياً من منطلق الشراكة في الخروج من التناقضات المنذرة بالكثير المقلق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.