سؤال على أعتاب الحرب العالمية الثالثة: هل الدولة العثمانية فاتحة أم غازية؟

ميدان - العلماء بالدولة العثمانية
أثمن شيء تركته الدولة العثمانية وراءها (في ولاياتها السابقة) هو العقد الاجتماعي (مواقع التواصل الاجتماعي)

ما طبيعة الدولة في الحضارة الإسلامية؟ لماذا يثار هذا السؤال في هذا التوقيت؟ ما حقيقته ومن المستفيد منه؟

الدولة هي آلة الحضارة الإسلامية التي تقيم بها نظام الحياة الذي أتى به الإسلام وتحمي المجتمع المنبثق عنه. تاريخ الحضارة الإسلامية شهد سقوط الدولة أكثر من مرة، لكنه شهد صمود المجتمع في كل مرة الذي ناب عن الدولة في مسؤولياتها وأعادها.

الجديد الذي يحدث اليوم هو انهيار الدولة والمجتمع معاً وتهجير الناس واستبدال شعوب غريبة محلهم (العراق وسوريا واليمن ولبنان)، مما يعني اختفاء المجتمع بدلالتيه الثقافية والسكانية ويزيد من تعقيد عملية إعادة الدولة.

هذا التحول غير المسبوق يحدث وسط الصراع الإقليمي بين نظامين: نظام "الدولة وحكم والقانون" وتمثل تركيا مركز الثقل فيه ونظام "اللادولة وحكم المليشيات" وتمثله إيران ووسط استيلاء الأخير على العديد من الدول والمدن. الشعار الذي ترفعه المجتمعات التي فقدت كل شيء: طرد المليشيات، إعادة الدولة، إحياء المجتمع، في خضم هذا السياق ينفتح نقاش في الإعلام حول صفة 5 قرون من حكم الدولة لهذه المجتمعات.

المدارس النظامية التي أدخلت الحضارة الإسلامية في واحدة من أخصب حقبها الثقافية هي من نتاج الحكم السلجوقي المعروف بحقبة "الإحياء الاجتماعي"، لأن المجتمع استجمع خلالها قواه الاجتماعية والثقافية وكان قبل ذلك تحت حكم المليشيات (البويهية) وتحت ظروف من الفساد وضياع الأمن كالذي تعيشه بغداد اليوم.

الدولة والمجتمع ما بعد الدولة العثمانية

في عام 1923 سقطت الدولة العثمانية، لكن نظامها المدني بقي سارياً في ولاياتها السابقة والمعروف بقانون الأحوال الشخصية، وجاءت الدولة العربية الوليدة أنموذجاً مصغراً عن الدولة العثمانية يحمل صفاتها الاجتماعية الوراثية، بعبارة ثانية: ذهب النظام السياسي العثماني وبقي نظامه الاجتماعي، وبعبارة أخرى: استمدت الدولة العربية الوليدة مادة الدولة والنظام المدني من الدولة العثمانية واستمرت هذه الآصرة (الاجتماعية) اللاإرادية إلى بعد سقوط الدولة العربية.

فالعرب العراقيون والسوريون والفلسطينيون واللبنانيون الذين يراجعون الأرشيف العثماني اليوم في إسطنبول بحثاً عن الوثائق التي تثبت حقوقهم المضيعة أو حقوق مدنهم بعد سقوط دولهم إنما يراجعون في حقيقة أمرهم النسخة الاحتياطية Backup لدولهم، وهي أجلى صورة على حماية الدولة العثمانية لنظام الدولة والمجتمع في البلدان التي حكمتها 5 قرون، ويغطي الأرشيف العثماني كافة نواحي الحياة في الولايات العثمانية (الدول العربية حالياً) وهي خلاف الصورة التي ألفتها البشرية عن علاقة الدول الغازية بالشعوب التي تحتلها.

هذا الأرشيف (أو طوق النجاة) هو من نتاج حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية، وقد كانت قبله تحت حكم المليشيات (الصفوية)، وبالمثل فإن المدارس النظامية التي أدخلت الحضارة الإسلامية في واحدة من أخصب حقبها الثقافية هي من نتاج الحكم السلجوقي المعروف بحقبة "الإحياء الاجتماعي"، لأن المجتمع استجمع خلالها قواه الاجتماعية والثقافية وكان قبل ذلك تحت حكم المليشيات (البويهية) وتحت ظروف من الفساد وضياع الأمن كالذي تعيشه بغداد اليوم.

القاسم المشترك بين الحقبتين العثمانية والسلجوقية هو استعادة الدولة وانتشال المجتمع العربي من مستنقع المليشيات، وهذا لا يتعرض مع حقيقة أن الأتراك كانوا أمويين وعباسيين (وتأثروا بحضارة المسلمين العرب) قبل أن يكون العرب عثمانيين، أي أن عملية بناء الدولة وإنقاذها في الحضارة الإسلامية معلق بموضع التعافي السياسي والاجتماعي على رقعتها الجغرافية حيثما كانت هذه الرقعة.

بناء الدولة العربية الحديثة

أثمن شيء تركته الدولة العثمانية وراءها (في ولاياتها السابقة) هو العقد الاجتماعي (الأساس الذي تنهض عليه المجتمعات)، وقد كان فريداً بين نظائره، فقد دونت أحكام الفقه الإسلامي في المجال المدني في بنود قانونية وفعلت الشيء نفسه للأقليات من أتباع الأديان الأخرى للتحاكم في قضايا الأحوال الشخصية لما ورد في أديانهم، وهو ما لا تضمنه الديمقراطيات المعاصرة لمواطنيها، فاطمأنت الأقليات على خصوصياتها وأحست بالانتماء للمجتمع الكبير وسطرت صوراً نادرة من الإبداع والإخلاص المهني، وهي الصورة الاجتماعية التي اقتبستها أوربا فيما بعد وأطلقت عليها "التعددية الثقافية" multiculturism.

والدول العربية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى وسجلت نهوضاً سريعاً إنما قامت على العقد الاجتماعي (العثماني) الذي وجدته جاهزاً، واستطاعت أن تستأنف به الحياة المدنية تحت نظام سياسي جديد، وكان إنشاؤها عملية إجرائية، ومن أكثرها تميزاً هي الجمهورية العراقية التي سقطت في الاحتلال الأميركي-الإيراني في عام 2003 والجمهورية العربية السورية التي سقطت من الناحية الفعلية مطلع السبعينيات من القرن الماضي بعد استيلاء المليشيات الطائفية النصيرية على الحكم فيها. المفارقة هي أن العقد الاجتماعي صمد في الحرب العالمية الأولى وأعاد الدولة، لكنه انهار تحت حكم المليشيات في القرن الـ21 وفشلت الدولة في العودة.

كانت الدولة والمجتمع هما القاسم المشترك في تلك التحالفات والتي بغيابها (التحالفات) تغدو المجتمعات هدفاً رخواً للاجتثاث السكاني، وهذه قاعدة ثابتة، وتتعرض دمشق اليوم كبغداد لاجتثاث سكاني من قبل هجرات أعجمية باطنية منظمة تغير وجهها العربي بوتيرة عالية.

هل ظهور السؤال مصادفة؟

عودة سؤال تاريخي إلى الظهور (في الإعلام وليس في ندوات علمية أكاديمية) لا يخلو من مناسبة. من المعالم الكبرى التي أعادت توجيه بوصلة التاريخ في الحضارة الإسلامية هي التحالفات السياسية بين شعوبها التي انتشلتها من مافيات الشعوبية وأعادتها إلى حكم الدولة، وفي مقدمتها التحالف العباسي-السلجوقي في القرن الرابع الهجري الذي حرر بغداد من المليشيات البويهية وأعاد الهيبة إلى الدولة العباسية، ثم تحرير العثمانيين لبغداد في عام 1534م-940هـ من المليشيات الصفوية وفرق الاغتيال التي استهدفت نخب المجتمع (إيران كررت العملية بعد احتلال العراق في 2003).

وبغداد مدينة في عروبتها للدولة العثمانية، فقد كانت مدينة غير عربية تحت تأثير الاستيطان المنظم للقبائل الباطنية القادمة إليها من أواسط آسيا (كالموجات البشرية من الإيرانيين والأفغان والباكستانيين التي تعبر حدود العراق من دون وثائق وتستوطن أرضه اليوم) فقامت الدولة العثمانية ببرنامج توطين العشائر العربية في أحياء بغداد وصححت الخريطة السكانية.

كانت الدولة والمجتمع هما القاسم المشترك في تلك التحالفات والتي بغيابها (التحالفات) تغدو المجتمعات هدفاً رخواً للاجتثاث السكاني، وهذه قاعدة ثابتة، وتتعرض دمشق اليوم كبغداد لاجتثاث سكاني من قبل هجرات أعجمية باطنية منظمة تغير وجهها العربي بوتيرة عالية.

وهنا سؤال: كيف تغيب معلومة "كإعادة تعريب بغداد" عن المناهج التربوية وعن كراريس القومية العربية ولمصلحة من؟ لماذا لا تسكب هذه الحقيقة (في الطرفين العربي والتركي) على جمرة الخلافات القومية فتطفئها بشكل نهائي؟ ما فلسفة دولة غير عربية وراء إعادة تعريب مدينة عربية؟ لماذا الدولة العثمانية لم تستقدم أقواماً من الترك وتوطنهم في بغداد كما تفعل إيران اليوم؟ ما حقيقة الفرق بين الفلسفتين؟

هذه التساؤلات المتعددة تستقطب إجابة واحدة هي: مفهوم الدولة والمجتمع، وهي كافية لوضع أسس ثقافة إقليمية تكون أكثر شمولية من المفهوم الاجتماعي العثماني الذي كان قبل زوال الدولة العثمانية، لأن الجميع (وليس فقط المسلمين) يتشبثون به للنجاة بالنفس والمال من طاحونة الشعوبية.

قلق شعوبي

الشعوبية المعاصرة غير مرتاحة من الاستقطاب الفكري الواسع والمطرد في المجتمعات العربية الرافض "لنظام اللادولة وحكم المليشيات" برعاية إيران والمنحاز إلى نظام "الدولة وحكم القانون" ممثلاً بتركيا، وقد كان الاستقطاب القومي في مطلع القرن الـ20 الأرضية التي على أساسها أعيد رسم خرائط الشرق الأوسط والمرشحة للتغيير اليوم بعد مرور قرن، ولا يغيب عن ذاكرة الشعوبية أن غاراتها على المجتمعات العربية كانت على مدى التاريخ على علاقة بحالة التحالف العربي-التركي وجوداً وعدماً.

يعزز قلق الشعوبية أن انحياز عرب سوريا إلى الحماية التركية في شمال بلادهم لم يكن انحيازاً للحكم التركي على الحكم العربي، وإنما انحياز إلى الدولة في أنقرة على المليشيات في دمشق، ولهذه الظاهرة صلة بقرار عرب الموصل المعروفين بنزعتهم العروبية البقاء (بعد الحرب العالمية الأولى) مع تركيا على الانضمام لحكومة الانتداب الإنجليزي في بغداد كما دلت على ذلك وثائق لجنة عصبة الأمم المشرفة على استفتاء الموصل في عام 1926 وتؤكده روايات الآباء والأجداد.

فلم تكن الموصل تختار بين عروبة العراق وتركية الأناضول، وإنما تشبثت بالدولة والمجتمع (العثماني) المفتوح الذي جعلها عاصمة إقليمية اجتماعية وصناعية لرقعة واسعة من القوميات، مقابل نظام قومي مغلق جغرافياً سيقطّع أوصالها الاجتماعية والاقتصادية مع فضائها الحيوي الطبيعي ويجعلها مجتمعا محلياً وهو ما حصل.

لكن المثال السوري الطازج هو الأهم، فهو يشكل أوبة فكرية (طوعية) بعد قرن من التثقيف القومي القسري ويمثل دلالة يصعب الاستدلال عليها من طريق آخر، وهي أن إنسان الحضارة الإسلامية ينحو بطبيعة تكوينه نحو الدولة حيثما كانت على رقعة حضارته (بالهجرة إليها أو باستدعائها)، وهو مفهوم يمثل زلزالاً للكيانات الشعوبية، وعليه فالإعلام الشعوبي هو المستفيد الحقيقي من التشكيك في صفة حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية الذي (التشكيك) يفرغ الصراع حول منطقتنا من مضمونه الثقافي ويجعله صراعاً أمنياً محضاً الغلبة فيه لمن يمتلك السلاح ويمسك الأرض وهي المليشيات.

روافد غير مقصودة

تغذي السؤال (المطروح) روافد تأتي من خارج منابع الشعوبية، وتحديداً من ثقافة المعركة (القومية) التي نشبت بين العرب والأتراك في العقدين المنتهيين من الدولة العثمانية، واشتدت بعد الانقلاب الطوراني لعام 1909 الذي جلب جرثومة القومية إلى الدولة وشكل نهايتها الفعلية واستفز ردة فعل مماثلة لدى ثلة من العرب.

تميزت تلك الثقافة بعدة أمور: أنها كتبت بأقلام الأقليات (المسيحية) بهدف التخلص من الدولة العثمانية (كما صرح كتابها) وأنها تركز على عقدين من دون 5 قرون من عمر الدولة العثمانية، وتستعين بالعواطف على الوثائق مما يجعلها كثيرة الخطأ وقصيرة النظر.

وثمة روافد أخرى تنبع من قراءة التاريخ بطريقة أكاديمية لا تتحسس تضاريسه الحيوية وتتخذ منها نقاطاً استرشادية في رسم خريطة طريق المستقبل. الانزلاق في تغذية الخطاب الشعوبي أمر سهل، لكن ذلك لا يعفي هذين الطيفين المهمين في المجتمع (القومي والأكاديمي) من الحيطة فهما على ثغرة (جماهيرية وعلمية) مهمة في المعركة المصيرية مع الشعوبية ومشروعها في هدم الدولة واجتثاث المجتمع.

إخلاء الساحة

مسؤولية السؤال المذكور لا تقع بالكامل على المشككين أو المنزلقين، فالعرب والأتراك تركوا الباب موارباً أمام اصطياد شعوبي سهل بالماء العكر. الحساسية المفرطة في تركيا من "العثمانية" بمدلولها الاجتماعي الإقليمي (بوازع الحرص على عدم نكء العواطف القومية وهو هدف سام يحسب للدولة الإقليمية الكبرى مقارنة مع الشغب القومي والطائفي الإيراني) جعلت المفهوم العثماني ينحى منحى إحياء المناسبات التاريخية العثمانية خارج قوالبها الفكرية حيناً، أو كمرادف "للتركية" بدلالتها الوطنية المحلية حيناً آخر.

لذا لم تأخذ "العثمانية" طريقها في المؤسسات الأكاديمية ومراكز الفكر كمبحث تحت علوم الاجتماع التطبيقي التي هي أحد أهم روافد "سيكولوجية" الجماهير وعلى تماس مع الأحوال المعيشية، وهو ما تسبب في إفراغ "العثمانية" من مضمونها الحيوي وبريقها الجماهيري، لتبقى آثارها على الأرض (وحدة المجتمع المدني والأحوال الاجتماعية بين الدول العربية وتركيا) عاجزة عن تفسير نفسها (لتفسرها الشعوبية على أنها غزو) وعاجزة عن نفخ الروح في وحدة المصير بين المجتمعين العربي والتركي.

مراكز الفكر (المستقلة) في الدول هي التي تتولى عادة مهمة إخراج الدولة من مأزق تعارض الثقافة مع السياسة، فلا تقع الثقافة ضحية السياسة ولا تتعثر الأخيرة بالأولى، ولا يزال الأرشيف العثماني (هذه المؤسسة الفريدة) إلى حد كبير هو "خزانة الوثائق" والحاجة ماسة إلى أن يخرج إلى دور أوسع وأن تنهض عليه مراكز فكر تنسج من وثائقه ثقافة تشغل المساحة الخالية مما يحتاجه استقرار مجتمعاتنا، بل يحتاجه العالم فهو المرجعية الوثائقية للعالم للقرون الخمسة الأخيرة باعتراف العالم.

على الجانب العربي تقف الحساسية من مفهوم "الأممية" لدى القوميين الذي يحملون احتراماً لتركيا حاجزاً بين تحول المشاعر إلى مفاهيم، في حين يخلط الإسلاميون (بشكل عام) بين القومية العربية وبين العروبة التي هي مادة الإسلام، ويصب هذا الخلط في حساب الشعوبية وإيران، وبذلك يخلي العرب والأتراك مساحات شاسعة من مجتمعيهما من الحضور الفكري الاجتماعي وتصبح صروحهم مسامية وسهلة على الاختراق الشعوبي أو أي خطر مستقبلي، وبالعكس فإن وحدة المصير الاجتماعي تلد وحدة المصير الأمني والتي تلد بدورها وحدة المصير الاقتصادي ويصبح الإنسان حارساً طوعياً للأمن وزبوناً تلقائياً للاقتصاد الإقليميين.

من تداعيات غياب العقد الاجتماعي تحلل المجتمع إلى عناصره الأولية (الدينية والقومية والطائفية) ونشوء العشوائيات التي تحل محل المدن، متبوعاً باشتداد وطيس الاستفتاءات الانفصالية التي ستكون أسهل من التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وبنتائج أسوأ

على أعتاب الحرب العالمية الثالثة

تنبش دول العالم اليوم الماضي بحثاً عن قواسم مشتركة وهي تستعد للمجهول القادم؛ روسيا تلملم شظايا الاتحاد السوفياتي السابق بالشحن الطائفي (الأرثوذوكسي) وبالحروب، وأوروبا تستنفر ثقافياً ومحطاتها الإذاعية تخاطب شعوب القارة واحدة واحدة من خلال برامج ثقافية معدة بشكل خاص تحت عنوان "الدب بات قريباً" (الدب الروسي) تعرّفهم فيها بأصدقائهم وأعدائهم الحقيقيين وبالخطر المشترك الداهم، والشعوبية تستولي على نصف الشرق الأوسط، والشعوب الأنجلوسكسونية (كندا، استراليا، نيوزيلندا) تقول للإنكليز: كفاكم انتقاداً لأخطاء الإمبراطورية البريطانية وعليكم بدلاً عن ذلك الافتخار بالملكة والديمقراطية والتركيز على خطر الصين.

في خضم هذه التعبئة الثقافية العالمية وتمحور الشعوب حول الدولة الكبيرة نُسأل نحن: هل الدولة العثمانية فاتحة أم غازية؟ ويدب الارتباك الفكري في صفوفنا من جديد بعد مرحلة مهمة ميّز فيها الناس بين من يبني الدولة والمجتمع في منطقتنا ومن يهدمهما.

مسار أحداث لا بد من تعديله

نحن العرب والأتراك مقبلون على الحرب العالمية الثالثة بتماسك اجتماعي ووحدة مصير أضعف مما كان عشية الحرب العالمية الأولى (رغم كل الخلاف القومي الذي أشعلوه بيننا) والتقسيم القادم لمنطقتنا لن يحفظ لها ما أبقته سايكس بيكو ولن يكون في هذه المرة عقد اجتماعي (عظم العصعص للمجتمع) نؤسس عليه مجتمعات جديدة مستقرة (العراق بعد الاحتلال مثالاً).

ومن تداعيات غياب العقد الاجتماعي تحلل المجتمع إلى عناصره الأولية (الدينية والقومية والطائفية) ونشوء العشوائيات التي تحل محل المدن، متبوعاً باشتداد وطيس الاستفتاءات الانفصالية التي ستكون أسهل من التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وبنتائج أسوأ، فولاية الموصل كانت قد بترت مما تبقى من الجغرافيا العثمانية وضمت إلى الدولة الجديدة (العراق) لكن الجسم المبتور غدا من فوره حاضرة العراق ورئته نظراً لمتانة العقد الاجتماعي حينئذ ومثلها حلب في الطرف المقابل.

إعادة النازحين إلى الموصل وحلب وإلى باقي المدمن المدمرة بطريقة برامج الإغاثة (توفير الملجأ والقوت والجامع المدرسة) لن يعيدها حواضر وإنما إلى تجمعات سكانية، ولن يمكنها من تأدية وظائفها كما حدث لها بعد الحرب العالمية الأولى.

الحرب العالمية الثالثة مختلفة عن سابقتيها وتأخذ شكل التحدي في كل منطقة، فهي اقتصادية في شرق آسيا وعسكرية في أوروبا ووسط آسيا (الاتحاد السوفياتي السابق) أما في المنطقة العربية-التركية فاجتماعية شبحية ضد عدو غير منظور قد عرفتها المنطقة (لا سيما تركيا والعراق) وأنهكتها في الأرواح والأموال، وستأتي اللحظة التي يعلن فيها وقف القتال (العسكري والاقتصادي) على جبهات العالم وتظل جبهاتنا متأججة مثلما حدث بعد الحرب العالمية الأولى.

وتبدو منطقتنا (بعد 100 عام) كالجبنة السويسرية التي تطغى فيها الثقوب (المساحات التي ليس فيها دول مثل العراق، سوريا، لبنان، اليمن).

هندسة عكسية

الحضارة الإسلامية حضارة أممية، وما يعد خطوطاً حمراء عند غيرها هو خطوط خضراء عندها يدل على ذلك تقويمها (الهجري) الذي هو جمع جبري لإنجازات الشعوب (العربية والتركية والشركسية والكردية) التي تعاقبت على حكمها، ومن دون مفهوم "الخطوط الخضراء" لا يصبح للتقويم مغزى، فالعرب انتصروا في فارس والأتراك انتصروا في العراق والشركس انتصروا في بيت المقدس والبربر انتصروا في الأندلس (العربية الإسلامية)، جميعهم تحت مفهوم "التدخل من خارج الخارطة السياسية ومن داخل الخارطة الحضارية" فهي حضارة تراكمية ونعت علاقات شعوبها ببعضها بنعوت من خارج معجمها هو خطأ فاحش وهدف بائس.

السؤال المطروح: هل الدولة العثمانية غازية أم فاتحة؟ ليس سؤالاً عن الماضي بل هو سؤال عن الحاضر والمستقبل وعن القاسم المشترك الأعظم (بعد الإسلام) بين العرب والأتراك الذي هو الدولة والمجتمع، وإذا كان توحيد مسارات التفكير زمن الأزمات هو من أبجديات التخطيط فإن الشعوبية المناهضة للإسلام والعروبة هي جبهة المواجهة، والمجتمع والدولة هما العصبية (بالمعنى الخلدوني) التي التقى عليها العرب والأتراك كل مرة ويلتقون عليها من جديد وهي تستدعي قوالب فكرية تلملم شظايا منطقتهم في مطلع القرن الـ21، مثلما شتتتها القوالب الفكرية في مطلع القرن الـ20.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.