الدبلوماسية السينمائية.. كيف تستخدم الدول الأفلام لتحقيق أهداف سياستها الخارجية؟

General view of the interior of a screening room at a Cinema City International movie theatre in Krakow General view of the interior of a screening room at a Cinema City International movie theatre in Krakow November 26, 2009. British cinema operator Cineworld Group said January 10, 2014, it would buy Poland-based Cinema City International's movie theatre business to create the second largest cinema chain in Europe. Cineworld said it would pay Cinema City 272 million pounds ($448 million) in cash and the Polish company will hold 24.9 percent of Cineworld's shares upon the completion of the deal. Picture taken October 25, 2012. REUTERS/Agencja Gazeta (POLAND - Tags: ENTERTAINMENT BUSINESS SOCIETY) POLAND OUT. NO COMMERCIAL OR EDITORIAL SALES IN POLAND. THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY. IT IS DISTRIBUTED, EXACTLY AS RECEIVED BY REUTERS, AS A SERVICE TO CLIENTS
غرفة العرض في سينما سيتي الدولية في كراكوف (رويترز)

السينما من أهم الوسائل التي تستخدمها الدول في تقديم نفسها للجماهير وبناء صورتها الذهنية، لذلك تطور مفهوم "الدبلوماسية السينمائية " ليحتل مكانته المهمة في شبكة مفاهيم تستهدف تطوير النظم الدبلوماسية، وزيادة قوة الدولة الناعمة، وتحقيق أهداف سياستها الخارجية.

كما ارتبط هذا المفهوم بعملية تقديم قصة الدولة المرئية للعالم، وكان هذا المفهوم ظهر خلال الحرب الباردة، لكن تم تجديده وتزايد الاهتمام به منذ بداية القرن 21 بسبب التغير في الظروف العالمية.

التجربة الألمانية

تمكنت بعض الدول من تطوير تجاربها في استخدام الدبلوماسية السينمائية، وتعد التجربة الألمانية مثيرة للاهتمام، إذ عملت ألمانيا على تقديم نفسها للجمهور في أستراليا وبناء صورة إيجابية لها، لذلك يقوم معهد جوته بإقامة مهرجان سنوي للأفلام الألمانية في أستراليا.

ويقول معهد جوته إن هدفه من ذلك هو تقديم الثقافة الألمانية بشكل مرئي عن طريق استخدام الدبلوماسية السينمائية.

التأثير على إدراك الجمهور

إن السينما تؤثر على إدراك الجمهور للعالم، لذلك كان من الطبيعي أن تفكر الدول في استخدامها للتأثير على إدراك الجمهور للدولة، وفي تحقيق الجاذبية لثقافتها.

ولقد أدركت الولايات المتحدة أهمية السينما في تحقيق أهداف سياستها الخارجية، فعملت الحكومة مع شركات الإنتاج السينمائي في هوليود بهدف بناء صورة إيجابية لأميركا في الخارج، وقامت الحكومة الأميركية بتمويل كثير من الأفلام، فلم يكن الهدف تحقيق الأرباح، ولكنه استخدام هذه الأفلام للتأثير على الرأي العام في الخارج.

قوة هوليود

وأدركت أوروبا -خاصة بريطانيا وفرنسا- خطورة إغراقها بالأفلام الأميركية، فحاولت أن تدخل المنافسة مع هوليود.

كما أدركت الدول الأوروبية دور المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ووكالة المعلومات الأميركية في دعم إنتاج الأفلام في هوليود، وقيامها بمراجعة هذه الأفلام، واستخدام مهرجانات السينما للتأثير علي الجمهور وتشكيل إدراكه للعالم.

لكن كل الدول الأوروبية لم تستطع الصمود أمام قوة هوليود التي شكلت قوة ناعمة لأميركا، وأسهمت في إدارة أميركا للصراعات العالمية، ولذلك لم تستطع أية دولة أن تصل إلى مرحلة المنافسة مع هوليود بإنتاجها الضخم المتنوع.

يقول أستاذ الدبلوماسية العامة نيكولاس كول إن نجوم السينما الأميركية أصبحوا يتمتعون بالشهرة والإعجاب في كثير من دول العالم، لذلك فإنهم يقومون بدور دبلوماسي مهم في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وفي بناء قوتها الناعمة.

تحديات جديدة

حمل القرن 21 تحديات جديدة للهوية القومية للدول، فالعالم أصبح يعيش في بيئة اتصالية جديدة، لذلك تزايد الاهتمام بمفهوم الدبلوماسية السينمائية، فلم تعد الأفلام يتم تقديمها في دور العرض ليشاهدها جمهور محدود، لكن الإنترنت وفرت فضاء واسعا يتم فيه بث الأفلام التي تستهدف بناء الصور الذهنية للدول، وتزايد تعرض الجمهور للأفلام عبر الإنترنت، خاصة خلال فترة كورونا.

العلاقات الثقافية الدولية

هناك كثير من الباحثين الذين يرون أن الدبلوماسية السينمائية جزأ من الدبلوماسية الثقافية، فالسينما وسيلة لبناء العلاقات الثقافية الدولية، ونقل ثقافة الدولة إلى الدول الأخرى، وهذا يسهم في بناء علاقات طويلة المدى مع الشعوب.

لكن بعض الباحثين بدؤوا استخدام مفهوم الدبلوماسية السينمائية بوصفه مجالا علميا جديدا يهدف إلى اكتشاف العوامل الثقافية والاجتماعية والجغرافية واللغوية في الأفلام السينمائية، التي تستخدم للتأثير على إدراك الجمهور، وبناء العلاقات مع الشعوب.

إننا نستخدم نظريات الاتصال عبر الثقافات في بناء مجال علمي جديد يستهدف دراسة دور السينما في بناء العلاقات طويلة المدى بين الشعوب، وفي تحقيق التفاهم المشترك.

وفي إطار ذلك، تزايد الاهتمام بالمهرجانات السينمائية كوسيلة للحوار الثقافي بين الدول، كما تزايد الاهتمام بتجارب الإنتاج السينمائي المشترك.

الاستخدام السياسي للأفلام

لكن ذلك لا يعني فصل الدبلوماسية السينمائية بشكل كامل عن الدبلوماسية الثقافية، فالهدف هو تطوير البحث العلمي في الاستخدام السياسي للأفلام في بناء العلاقات الدولية، وإدخال الدبلوماسية السينمائية كمجال مهم في النظام الدبلوماسي للدولة.

يضاف إلى ذلك أن الدبلوماسية السينمائية تشكل مقاربة مهمة لتطوير النقد السينمائي، واكتشاف الخطاب الأيديولوجي والرموز في الأفلام، ودور الأفلام في تشكيل الخيال الجمعي للشعوب، واستخدام السينما كوسيلة لترجمة رموز الهوية الوطنية والقومية للدولة ونقلها للجمهور.

الهوية في التفاعل مع الآخرين

إن دور الدبلوماسية السينمائية هو بناء الهوية الثقافية العامة، وفي إطارها يتم إدراك هوية الدولة، ولذلك يتزايد الاهتمام بالمهرجانات السينمائية كوسيلة لبناء هوية عالمية، وإدارة الحوار حول القواسم الإنسانية المشتركة، وتميز كل دولة في المساهمة في الحضارة الإنسانية.

لذلك فإننا نستخدم نظريات الاتصال عبر الثقافات في بناء مجال علمي جديد يستهدف دراسة دور السينما في بناء العلاقات طويلة المدى بين الشعوب، وفي تحقيق التفاهم المشترك.

لكن ذلك لا يعني فصل الدبلوماسية السينمائية عن الدبلوماسية الثقافية والدبلوماسية العامة، لكنه يعني أن المجال ما زال يحتاج إلى نظريات جديدة تسهم في تطوير النقد السينمائي من المنظور السياسي بشكل عام، ومن منظور السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بشكل خاص.

قوة ناعمة ذكية

الدبلوماسية السينمائية تسهم في ما أطلقت عليه هيلاري كلينتون "القوة الناعمة الذكية"، لذلك قامت وزارة الخارجية الأميركية بكثير من الأنشطة لإنتاج أفلام تحقق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وتوفير التمويل لأفلام روائية ووثائقية.

لذلك عقدت وزارة الخارجية الأميركية حلقة نقاشية ضمت 25 من خبراء السينما وصناع الأفلام لاختيار 35 فيلما تقوم السفارات الأميركية في العالم بعرضها على الجمهور في الدول الأجنبية.

ولا تكتفي السفارات الأميركية بعرض الأفلام، بل تقوم باستضافة نجوم هذه الأفلام للقاء الجماهير، وإلقاء محاضرات حول موضوعات الأفلام، وتوفير الفرص لهؤلاء النجوم لإجراء حوارات مع وسائل الإعلام المحلية.

وتقوم وزارة الخارجية بتحديد الموضوعات التي يتم اختيار الأفلام التي تتناولها، مثل قضايا البيئة، وتمكين المرأة، والصحة النفسية للبنات، والمجتمع المدني.

ويشترط في الأفلام التي يتم اختيارها للعرض في الدول الأجنبية أن تتحدث عن حرية التفكير في الولايات المتحدة.

ففي برنامج 2011، قامت وزارة الخارجية باختيار أفلام تصور الحياة الأميركية، وتقدم التعديل الأول للدستور الأميركي كأساس للحرية، واهتمام أميركا بذوي الاحتياجات الخاصة.

يقول مارك هاريس (منتج أفلام وثائقية وحاصل على جائزة الأوسكار) إن الهدف من اختيار الأفلام هو عرض القيم الديمقراطية الأميركية.

عروض خاصة لطلاب المدارس

تقوم السفارة الأميركية في ليتوانيا باستخدام الدبلوماسية السينمائية بشكل مكثف، إذ تقوم بعرض الأفلام التي يتم اختيارها في برنامج وزارة الخارجية لطلاب المدارس والجامعات، كما تستضيف نجوم السينما لإلقاء محاضرات بعد عرض الأفلام.

وتوضح تلك التجربة أن السفارات الأميركية تقوم باختيار الجمهور المستهدف، وتعمل للتأثير عليه على مدى زمني طويل لجذبه للثقافة الأميركية، وبناء صورة إيجابية للولايات المتحدة يتم على أساسها تطوير العلاقات مع الدول.

التعاون في إنتاج الأفلام

من أهم الأنشطة التي تقوم بها وزارة الخارجية الأميركية توفير الإمكانات والفرص لإنتاج الأفلام على نحو مشترك مع الدول، ومن أهم هذه التجارب ما قامت به السفارة الأميركية في كندا، التي عملت على جمع منتجي الأفلام الأميركيين والكنديين للتعاون في إنتاج الأفلام التي تعالج موضوعات ذات اهتمام مشترك.

كما توفر الإمكانات لتوزيع هذه الأفلام في أميركا وكندا وفي كثير من الدول الأجنبية.

تفكير سينمائي جديد

إن مفهوم الدبلوماسية السينمائية يفتح المجال لتفكير سينمائي جديد يسهم في تحديد الأهداف التي يمكن أن يحققها الفيلم في التأثير على الشعوب، وفي بناء الصورة الذهنية.

فإنتاج الأفلام لا يتم بغرض التسلية، أو لتحقيق أهداف تجارية فقط، بل يقدم صورة مرئية للدولة، ويقدم سردية لأحد جوانب ثقافتها وقيمها وتاريخها.

لذلك فإن هناك حاجة لتأهيل كوادر قادرة على الإسهام في تطوير صناعة السينما، وإنتاج أفلام تحقق أهداف السياسة الخارجية للدولة، وبناء علاقات طويلة المدى مع الشعوب.

وهذه الكوادر تحتاج إلى دراسة العلوم السياسية وعلوم الاتصال والإعلام والصورة الذهنية والاتصال الثقافي، فهناك كثير من الدول التي أنفقت كثيرا من الأموال على إنتاج أفلام تشوه صورتها، وتقلل دورها العالمي، لأن هذه الأفلام ينتجها متغربون لا ينتمون لثقافة الدولة، وفي كثير من الأحيان يمجدون النظام ويشوهون صورة الدولة بشعبها وثقافتها وتاريخها وجغرافيتها.

لذلك تفتح الدبلوماسية السينمائية المجال لتفكير سينمائي جديد يقوم على التخطيط الإستراتيجي لتقديم الدولة عالميا بشكل مرئي، ورواية قصتها للبشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.