شيرين أبو عاقلة في الإعلام الإسرائيلي.. اتهام الضحية لتبرئة القاتل

شيرين أبو عاقلة اغتيلت أثناء تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين (مواقع التواصل)

منذ اللحظات الأولى لانتشار الأنباء عن استشهاد شيرين أبو عاقلة، تبنت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية الروايات الإسرائيلية الرسمية بأن مسلحا فلسطينيا قتل شيرين وأصاب زميلها علي السمودي. هذه الرواية لم تصمد أمام الشهادات والأدلة ومقاطع الفيديو التي تعزز كل يوم مسؤولية الاحتلال المباشرة والمتعمدة في استهداف مجموعة الصحفيين.

نشر موقع عبري هو 0404 يملكه ويديره إسرائيلي يميني يدعى بوعز جولان خبرا الساعة 7:54 دقيقة يقول "قواتنا أطلقت النار وأصابت عددا من المخربين – صحفية في الجزيرة لقيت مصرعها". ورافق النص مقطع الفيديو الذي استندت الرواية الإسرائيلية إليه في الادعاء أن رصاصة مسلح فلسطيني هي التي أصابت وقتلت شيرين

تبني الرواية الإسرائيلية الرسمية أمر متوقع في ظل المنطلقات الفكرية الصهيونية للصحفيين الإسرائيليين التي تقدم الدفاع عن إسرائيل حتى عندما تفتك بالفلسطينيين، لكن الأسوأ منه بكثير، هو حالة الهجوم وربما التشفي باستشهاد شيرين التي عبر عنها صحفيون إسرائيليون يوصفون بأنهم من كبار المراسلين ومقدمي البرامج في القنوات الإسرائيلية. حالة التشفي جاءت خلال محاولة وسائل الإعلام الإسرائيلية مناقشة آثار الجريمة التي ارتكبت بحق شيرين، من لحظة استهدافها حتى دفنها، على صورة إسرائيل عالميا.

البشاعة في مجمل التغطية الصحفية الإسرائيلية أن الهدف الأساسي لدى الصحفيين والمحللين لم يكن كشف القاتل، بل تبرئته، وبحث كيفية تخفيف الضرر الذي لحق بصورة إسرائيل بعد الجريمة، مباشرة، وبعد الهجوم الوحشي غير الإنساني على مشيعيها في القدس وأمام كاميرات العالم كله.

انتقائية الرواية وتقديم البيانات على الوقائع

باستثناء موقع عبري إخباري واحد، هو موقع 0404، يملكه ويديره إسرائيلي يميني يدعى بوعز جولان، له الكثير من المتابعين وحضور بارز في الساحة الإعلامية الإسرائيلية، لم تتناول وسائل الإعلام العبرية خبرا أشار في ساعة مبكرة من الحدث إلى أن جنود الجيش أصابوا مسلحين فلسطينيين في مخيم جنين.

"0404" لمن اعتاد متابعة تغطيته للعمليات الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية، من المواقع السباقة في نشر تفاصيل الأحداث بما في ذلك نشر صور يبدو أن الجنود الإسرائيليين هو الذين يلتقطونها ويرسلونها للموقع فورا، بما فيها صور منفذي العمليات والسلاح الفلسطيني المستخدم فيها أحيانا، وبعد وقت قصير جدا من بدء ورود الأخبار عن العملية.

هذا الموقع، صباح الأربعاء إياه، نشر خبرا الساعة 7:54 دقيقة يقول "قواتنا أطلقت النار وأصابت عددا من المخربين -صحفية في الجزيرة لقيت مصرعها". ورافق النص مقطع الفيديو الذي استندت الرواية الإسرائيلية إليه في الادعاء أن رصاصة مسلح فلسطيني هي التي أصابت وقتلت شيرين. ويبدو أن من أرسل المعلومات عن إطلاق النار وإصابة "مسلحين" فلسطينيين هم الجنود أنفسهم الذين كانوا في الموقع. علما بأنه لم يصب أحد غير شيرين وعلي في ذلك اليوم، وهذا قد يكون مؤشرا على اعتراف الجنود بقتل شيرين.

الجيش يقر بإصابة فلسطينيين

سارعت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى تبني الرواية الرسمية التي نشرها جيش الاحتلال الساعة 7:45 دقيقا صباحا على حسابه على تويتر، وجاء فيها "عملت قوات من الجيش والشاباك وحرس الحدود الساعات الأخيرة في مخيم جنين قرب قرية برقين وفي عدة مواقع في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) بهدف اعتقال مشتبه بهم بعمليات إرهابية.. وفي إطار العملية في مخيم جنين أطلق مشتبه بهم نيرانا كثيفة وألقوا عبوات ناسفة باتجاه قواتنا، وردت القوة بإطلاق النار، وتم تحديد وقوع إصابات، ولا توجد إصابات في صفوف قواتنا. ويجري فحص إمكانية إصابة صحفيين كما يبدو بنيران مسلحين فلسطينيين. الحدث قيد الفحص".

هنا يقر الجيش بأن جنوده أصابوا فلسطينيين ومرة أخرى، لم يصب في ذلك اليوم سوى الصحفيين شيرين وعلي.

موقع صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أعاد نشر التغريدة هذه بعد دقيقة من نشرها على حساب الجيش، أما صحيفة "يديعوت أحرونوت" فنشرت خبر مقتل شيرين بعد إعلان وزارة الصحة الفلسطينية بدقائق، مع الإشارة إلى أنها قتلت خلال "تبادل لإطلاق النار في مخيم جنين" وفي التغريدة التي تحيل إلى الخبر -المحدّث لاحقا- كتبت "يديعوت أحرونوت" أن "مراسلة بارزة في الجزيرة قُتلت خلال تبادل لإطلاق النار في مخيم جنين".

 

في التغريدة التي تليها، أعادت الصحيفة نشر تغريدة للصحفي العامل فيها اليشع بين كيمون جاء فيها ما ورد في بيان الجيش أعلاه مع مقطع الفيديو للمسلح الفلسطيني المشار إليه.

 

ثم أعادت يديعوت أحرونوت نشر تغريدة للصحفي لياد أوزمو تقول "قناة الجزيرة ذكرت قبل عدة دقائق أن المراسلة المخضرمة في القناة شيرين أبو عاقلة توفيت متأثرة بجروحها، حسب ادعائهم بعد إصابتها برصاص قوات الجيش…..".

 

في القنوات التلفزيونية الإسرائيلية لم يختلف الوضع كثيرا، فالراوية الأساسية هي رواية الجيش، والراوية الفلسطينية بقيت في دائرة الإنكار أو التشكيك الإسرائيلي. لكن مع مرور الوقت بدأت الرواية الإسرائيلية تتهاوى مع نشر تحقيقات من الموقع، كتحقيق مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة-بتسيلم، الذي أثبت استحالة أن تكون الرصاصات التي أطلقها المسلح الفلسطيني هي التي أصابت شيرين، كذلك قدم عدد من الصحفيين عرضا للطبيعة الجغرافية للموقع وللمكان الذي أصيبت فيه شيرين وموقع وجود الجيش وكذلك المسلح، بما ينفي الرواية الإسرائيلية تماما.

هنا بدأ المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم يتراجعون إلى حد ما عن الرواية الأولى، ويثيرون الشك في مصدر الرصاصة، عبر وضع احتمال أن تكون أصيبت برصاص الجيش أو برصاص مسلحين فلسطينيين. وهو ما صرح به بداية رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي عصر الأربعاء، مع إعلانه إن التحقيق الأولي يشير إلى إمكانية أن يكون جندي إسرائيلي هو الذي أطلق الرصاصة القاتلة.

صحفيون أم ناطقون باسم الجيش؟

في استوديوهات القنوات الإسرائيلية كانت قضية شيرين أبو عاقلة حاضرة بقوة، وشهدت نشرات الأخبار جدلا كبيرا، أبرز عنصرية "بشعة" لدى بعض المراسلين ومقدمي البرامج في هذه القنوات. قناة 11 الناطقة بالعبرية والتابعة لهيئة البث الإسرائيلية "كان" وكذلك قناة "مكان" الناطقة بالعربية، بثتا باللغتين رصدا لسلوك الصحفيين الإسرائيليين في تغطية قضية شيرين. فمثلا، مقدمة برنامج إخباري في القناة 12 تدعى "سيفان راهف مئير" طلبت من أحد الصحفيين من فلسطينيي 48 الحديث عن شيرين أبو عاقلة لكونه يعرفها شخصيا، لكنها استدركت قائلة "في النهاية يجب القول إن شبكة الجزيرة وعبر تقاريرها، هي من أعداء إسرائيل" وكأن مئير تقدم مبررا لقتل شيرين لكون الجزيرة معادية في تغطيتها الصحفية لإسرائيل.

 شهد استوديو قناة 12 جدلا صاخبا بين الصحفي محمد مجادلة، وعضو الكنيست- رئيسة لجنة الأمن فيه ميراف بن آري التي رفضت حتى الأسف على مقتل شيرين، وعندما كرر مجادلة السؤال عليها قائلا "ألا تشعرين بالأسف على مقتل الصحفية؟" قالت: كلا ألا تفهم ذلك؟ هل تريدني أن أقول ذلك مرة أخرى؟"..

أما الصحفي عميت سيغال المعروف بعنصريته ضد الفلسطينيين، فذهب أبعد من ذلك، وقال صراحة من على شاشة قناة 12 الإسرائيلية إن شيرين "كانت صحفية منحازة في أكثر قناة منحازة ضد إسرائيل".

وقال إيال بيركوفيتش مقدم برنامج حواري بالشراكة مع الصحفية أوفيرا أسياج في قناة 12 أيضا "هذه صحفية في الجزيرة التي تحرض ضد إسرائيل طوال الوقت.. وأنا لا أفهم طيبة نفوسكم هذه" في إشارة إلى أسف بعضهم لظروف مقتل شيرين، وعندما قالت شريكته "إن الأمر ليست متعلقا بطيبة النفس" قاطعها بعصبية قائلا "بالتأكيد متعلق.. فهي (شيرين) كانت ضد دولة إسرائيل، وكانت تؤيد العمليات" (الفلسطينية ضد الإسرائيليين).

كذلك تبنت مقدمة البرامج الإخبارية في القناة 12 رينا متسلياح تبرير الاحتلال في هجوم شرطته على حملة نعش شيرين، وقالت في حوار مع عضو الكنيست أحمد الطيبي "رأينا الناس في الجنازة يلقون الحجارة على الشرطة، لماذا؟" مع تجاهلها إلى حد كبير تعرض حملة للنعش للضرب بالهراوات وللركل حتى كاد عناصر شرطة الاحتلال يسقطون النعش على الأرض. وعند إشارة الطيبي إلى الاعتداء الوحشي على الجنازة هربت متسلياح إلى الحديث عن قضية أخرى.

كذلك شهد استوديو قناة 12 جدلا صاخبا بين الصحفي محمد مجادلة، وعضو الكنيست- رئيسة لجنة الأمن فيه ميراف بن آري، التي رفضت حتى الأسف على مقتل شيرين، وعندما كرر مجادلة السؤال عليها قائلا "ألا تشعرين بالأسف على مقتل الصحفية؟" قالت: كلا ألا تفهم ذلك؟ هل تريدني أن أقول ذلك مرة أخرى؟".

في القناة 13 حاول مراسل الشؤون الفلسطينية في القناة أور هيلر اللعب على وتر عنصري جدا، بالقول "لقد كانت (شيرين) تقدم الرواية الفلسطينية رغم أنها مسيحية.. في الواقع.. وهذا أمر مثير.. لقد رأينا اليوم (في الجنازة) كل ما يرمز لذلك".

كما اعتبر هيلر أن الفلسطينيين "احتفلوا" بمقتل شيرين من أجل تحقيق مكاسب سياسية متجاهلا تماما التعاطف الإنساني وحجم الصدمة والحزن العميق. وقال هيلر "بالنسبة للفلسطينيين (مقتل شيرين) هو فرصة لتحقيق مكاسب فهم "يحتفلون" بها منذ 3 أيام.. الأربعاء والخميس والجمعة..".

اكتفاء بالتغطية وتجنب الجهد الصحفي لكشف الحقيقة

باستثناء مقالات لبعض الأصوات التي تعتبر شاذة في إسرائيل مثل الكتّاب في صحيفة "هآرتس" جدعون ليفي وعميرا هاس ونير حسون، لم يحاول صحفي إسرائيلي حتى كتابة هذا النص، إجراء تحقيق صحفي ميداني بهدف معرفة حقيقة إطلاق النار الذي قتل شيرين أبو عاقلة. ورغم أن صحفيين أمثال جال بيرغر (هيئة البث الإسرائيلية) وأوهاد حِمو (قناة 12) وحيزي سيمانتوف (قناة 13) عادة ما يعدون تقارير وتحقيقات من داخل الأراضي الفلسطينية ويجرون مقابلات حتى مع مسلحين فلسطينيين في المخيمات بما فيها مخيم جنين، إلا أن هؤلاء وفي ذروة التغطية الصحفية لمقتل شيرين، يبدو أنهم تجنبوا إعداد تحقيقات صحفية حول ظروف الحادثة، خوفا من أن يجدوا أنفسهم يؤكدون الرواية الفلسطينية القاطعة أن جنديا أو جنودا إسرائيليين تعمدوا إطلاق النار على شيرين وباقي الصحفيين في الموقع، في مواجهة الروايات الإسرائيلية المتعددة والمتضاربة القائمة على أساس التشكيك بما حدث.

حيزي سيمانتوف بدأ تقريره التلفزيوني حول مقتل شيرين بالقول "هذه ورطة كبيرة وجدت إسرائيل نفسها فيها صباح اليوم" ويقتبس في تقريره الإخباري مقطع فيديو أرشيفيا مجتزأً من سياقه، لشيرين تصف فيه عمليات الجيش الإسرائيلي بأنها "جرائم إسرائيلية مستمرة". ويركز التقرير بمجمله على تضارب الروايات من ناحية، وعلى سيرة شيرين في "قناة الجزيرة المعادية في تغطيتها لإسرائيل" من ناحية ثانية، وعلى الجهد الملقى على عاتق إسرائيل لإقناع العالم بقبول نتائج تحقيق الجيش في ظروف إطلاق النار على شيرين، من ناحية ثالثة.

أما نير دفوري مراسل الشؤون العسكرية في قناة 12 فهو أيضا لم يحاول إجراء تحقيق صحفي، بل اكتفى بالقول إن الفلسطينيين يرتكزون في روايتهم على شهود عيان، لكن فيديو المسلح الفلسطيني الذي كان يطلق النار يثبت أنه هو الذي أصاب شيرين بالرصاص، وعندما رد عليه عضو الكنيست أحمد الطيبي بالقول إن فيديو المسلح هو في منطقة بعيدة عن موقع إطلاق النار على شيرين، رفض دفوري ذلك وقال بثقة "لا، هذا ليس مكانا آخر، وهل كنت هناك لتعرف أنه من مكان آخر؟".

رئيس قسم الشؤون العربية في القناة 12 تسفي يحيزقيلي قال في مقابلة مع إذاعة FM103 الإسرائيلية إن المسؤول عن اتهام إسرائيل بقتل شيرين أبو عاقلة، هي قناة الجزيرة، ووصف الجزيرة بأنها "مطحنة نفسية.. وأنها تنسق بثها مع حركة حماس.. وأن الصحفيين الفلسطينيين يدخلون في المخيمات ويخاطرون بأنفسهم وعندما يصابون فإنهم دائما يتهمون إسرائيل".

الخلاصة

معظم الصحفيين الإسرائيليين يعملون من منطلق الدفاع عن إسرائيل، وفيما يتظاهرون بالموضوعية في تغطية الأحداث المتعلق بالشأن الإسرائيلي، فإنهم يصبحون جنودا إلى جانب الحكومة والجيش عندما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لذلك تجند معظم هؤلاء للدفاع عن إسرائيل في قضية شيرين أبو عاقلة، بداية عبر تبني الرواية الأولى التي يتهمون فيها المسلح الفلسطيني، وبعد انهيار هذه الرواية، تحول الخطاب إلى 3 اتجاهات، الأول يفترض أن شيرين قتلت برصاص فلسطيني، أو "برصاص إسرائيلي دون قصد" خلال اشتباك مسلح عبر الإبقاء على حالة الشك، والثاني يحرض على شيرين وعلى قناة الجزيرة، والثالث يركز على ضرورة تخفيف الضرر الذي تسببت به "حادثة شيرين أبو عاقلة" لصورة إسرائيل عالميا.

ولعل الأصوات الشاذة في الصحافة الإسرائيلية هي أفضل من يعبر عن حقيقة المنظور الإسرائيلي للفلسطينيين. نير حسون كتب في هآرتس مقالا تحليليا لخص فيه ظروف استشهاد شيرين وما تبع ذلك من أحداث بالقول "المشكلة ليست في الرواية (الإسرائيلية) ولا في الإجراءات.. المشكلة في رفض (إسرائيل) النظر للفلسطينيين على أنهم بشر".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.