الحرب الروسية الأوكرانية.. إلى أين؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الجزيرة)

يزداد التوتر الحاصل بين روسيا والغرب يوما بعد يوم على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا، إذ لم يعد سرًّا أن الحرب في الحقيقة تدور بين الطرف الروسي والغربي، وتحديدًا أميركا، وفقاً لما يتم من دعم علني سياسي وعسكري مباشر، لكن الأطراف العظمى تحاول الابتعاد عن المواجهة العسكرية المباشرة قدر الإمكان لتفادي حصول حرب كبرى، كما صرح بذلك الرئيس الأميركي جو بايدن قبل الغزو، عندما قال إن الأمر سيكون بمثابة حرب عالمية إذا بدأ الأميركيون والروس بإطلاق النار على بعضهم.

وتشير الأحداث إلى أن الطرف الغربي يصبّ الزيت على النار بزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا بل وجعله أكثر نوعية ودِقّة، لكن الطرف الروسي لا يزال يتحكم بنفسه ويضبط تحركاته، وهذا ليس ضعفاً أو عدم قدرة على حسم الأمور والسيطرة على أوكرانيا كما يظن البعض، وإنما هو تكتيك يهدف لتحقيق الأهداف بأقل الخسائر، حيث إن روسيا ليست مستعجلة في عمليتها العسكرية كما صرّح بذلك أكثر من سياسي وعسكري روسي.

مع أن روسيا هددت في بداية الأزمة بأنها سوف تستهدف أية قوافل أو مساعدات عسكرية من الناتو لأوكرانيا، فإنها لم تنفذ هذا التهديد، ويبدو أنها كانت تتحاشى المواجهة المباشرة مع الناتو

هناك عاملان هما الأكثر تأثيرًا على أمد الحرب: أولهما الدعم العسكري المتزايد لأوكرانيا، وثانيهما العقوبات المفروضة على روسيا، ويبدو أن كليهما قد أصاب روسيا إصابات بالغة، مما يشير لصعوبة بل استحالة انتهاء الأزمة في الوقت الحالي، وكلاهما يؤخر الحسم العسكري الروسي، وحتى الآن لم يحصل تراجع في أي منهما، بل هما في ازدياد.

تستعمل روسيا حالياً إحدى ركائز عقيدتها العسكرية، وهي سياسة الحصار وخنق المدن الأوكرانية، وقد بدأت تحصد ثمار هذا الأمر في مدينة ماريوبول التي سيطرت عليها بشكل شبه كامل ولم يتبقَّ منها إلا منطقة صغيرة، لكن مع ازدياد الضحايا واللاجئين الأوكران يجد الغرب ذريعة في استمرار تقديم الأسلحة النوعية والدقيقة وتدريب الجيش الأوكراني عليها، مما يفاقم الأزمة ويزيد من خسائر الجيش الروسي بشكل مُلاحظ.

يمكن القول إن استهداف الطراد الروسي موسكفا قبل أيام سيكون نقطة فارقة ومنعطفاً في الصراع، حيث شكل مفاجأة بالنسبة لروسيا في قدرات الجيش الأوكراني على استهداف الوحدات البحرية الروسية، ولذلك تحشد روسيا قواتها الآن وترغب في الردّ على هذه الخسارة، وتتوقع وزارة الخارجية الأوكرانية أن تشتد المعارك وتقوم روسيا بهجوم واسع على إقليم دونباس، رغبة منها في حفظ ماء الوجه وتقديم شيء للشعب الروسي قبل عيد النصر الروسي الذي تحتفي به روسيا في التاسع من مايو/أيار كل عام.

ومع أن روسيا هددت في بداية الأزمة بأنها سوف تستهدف أية قوافل أو مساعدات عسكرية من الناتو لأوكرانيا، إلا أنها لم تنفذ هذا التهديد؛ ويبدو أنها كانت تتحاشى المواجهة المباشرة مع الناتو، لكن ازدياد تأثير هذا الدعم على مجريات الأمور وحصول خسائر روسية ليست بالقليلة دفع العسكريين الروس لمطالبة حكومتهم بالوفاء بوعدها وتنفيذ هذا الالتزام وهو ما يُتوقع أن يحصل قريبًا، وبالتالي فإن كرة النار تتدحرج، ولن يكون هناك تنازل من أحد الأطراف، وستكون هناك محاولات مستميتة من القوات الروسية لتحقيق تقدمات واسعة، حتى لو حصل اصطدام مع الناتو، ومما يؤكد ذلك تحذير وزارة الخارجية الروسية الأخير من خطر "صدام غير مقصود" بينها وبين الناتو في منطقة القطب الشمالي، في إطار أنشطة الناتو العسكرية المتزايدة هناك.

إن هذه المعركة كما أكدت روسيا أكثر من مرة هي معركة مصيرية ووجودية بالنسبة لها، ولذلك فإنها لن تقبل بخسارتها، بل أصبح بوتن والساسة الروس يتحدثون بكل وضوح عن ضرورة تغيير النظام العالمي ذي القطب الواحد (الولايات المتحدة)، مما يعني أن روسيا ماضية في تحقيق النصر مهما كان الثمن، وهذا يستدعي الانتقال إلى المرحلة الثانية من الحرب وهي ستكون أكثر شراسة، وهو ما يؤكده إعادة التموضع الأخيرة للقوات الروسية وحشدها في الشرق الأوكراني تمهيداً للتقدم بقوة.

وقد فشلت الجهود الدبلوماسية في احتواء الأزمة حتى الآن في ظل عناد الطرفين، وكانت تركيا أبرز القائمين بهذه المحاولات، ومن ثم حاولت الجامعة العربية من خلال زيارة وزراء الخارجية العرب لروسيا لتقريب وجهات النظر بينها وبين أوكرانيا، لكنهم قوبلوا بالرد الروسي بأن الحرب ليست بين روسيا وأوكرانيا في الحقيقة حتى يحصل بينهما مفاوضات، بل هي بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة.

ويحضر هنا أن الحروب تشهد الكثير من المفاجآت، ومن هذه المفاجآت التي قد تحدث وتؤدي لتغيير مسار الحرب نحو الأسوأ وتوسيع بقعة الصراع: تدخل الصين بشكل مباشر في هذه الأزمة، وهي حليف أساسي لروسيا ولكنها تلتزم الحياد حتى الآن، لكن زيارة الوفد الأميركي إلى تايوان قبل أيام قد استفز الصين ودفعها لإجراء مناورات عسكرية ضخمة بالتزامن مع الزيارة، في رسالة للولايات المتحدة بعدم تجاوز حدودها. ولا يخفى على أحد رغبة الصين في ضمّ تايوان إليها، وفي هذه الحالة من المحتمل أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد حفّز هذه الرغبة، وإذا أقدمت الصين على غزو تايوان فإن الأمور ستتعقد بشكل أكبر بسبب العقوبات الغربية التي ستُفرض على الصين، وستكون في جبهة واحدة مع روسيا ضد العقوبات.

كما أن من المفاجآت التي من الممكن أن توسّع رقعة الصراع وتزيد من الغليان العالمي، إقدام إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، فقد تستغل إسرائيل التوتر العالمي من أجل إنهاء هذا الملف الذي لطالما كان مؤرقاً لها، وتزداد إمكانية هذه الضربة في حال حصول اتفاق نووي، لأن إسرائيل ترى أن هذا الاتفاق سيتيح المجال لإيران نحو المزيد من تخصيب اليورانيوم، وتقول إنها تمتلك تقارير تظهر قرب امتلاك إيران لسلاح نووي، ولذا فربما تتحيّن إسرائيل الفرصة المناسبة التي لم تجدها حتى الآن ولكنها قد تتوفر قريبا في ظل تصاعد الأزمة.

وحتى في كوريا الشمالية، فإنها لم تتوقف عن تطوير قدراتها الباليستية والنووية، وهو ما يشكل استفزازاً كبيراً لواشنطن وسول، وقد هددت بيونغ يانغ مؤخراً بأنها سترد على سول بواسطة ترسانتها النووية إذا قامت الأخيرة بعمل عسكري ضدها، ولذلك سارعت واشنطن بالرد على هذا التهديد بالقول إنها سوف ترد بحزم على الأعمال الاستفزازية لبيونغ يانغ.

روسيا قد تجد ضالتها في تكوين حلف صريح ضد الناتو، يشمل الصين وكوريا الشمالية وإيران وسوريا وفنزويلا ودول القوقاز، لكن هل من الممكن أن يتحول الصراع الدائر في أوكرانيا إلى حرب عالمية ثالثة، إن الإجابة نعم ولكن ليس بالضرورة أن تكون حرباً نووية، لأن الدول العظمى تعي أن السلاح النووي إذا تم استخدامه فسيحلُّ الدمار على الجميع لأن أطرافاً كثيرة تمتلكه، لكن لا شيء يمنع قيام حرب عالمية ثالثة بالأسلحة التقليدية، وقد تتطور إلى الأسلحة النووية التكتيكية المحدودة النطاق.

يرى الخبراء أن روسيا قد تستخدم الأسلحة النووية التكتيكية في أوكرانيا مستقبلاً لتسريع حسم بعض المناطق، وقد تكون هذه الخطوة هي سبب اشتعال فتيل الحرب، حيث هددت الولايات المتحدة مسبقاً بأن الناتو سوف يتدخل إذا استخدمت روسيا السلاح البيولوجي في أوكرانيا، فكيف لو استخدمت السلاح النووي؟!

وأخيراً، من الواضح أن معالم النظام العالمي الجديد قد بدأت تطفو على السطح، حيث ستكون هناك أقطاب متعددة وليس كما كانت الولايات المتحدة وحدها، ولكن هذا الأمر يحتاج وقتاً ليس بالقليل، بل إن أمد الأزمة قد يطول لسنوات، وسيترافق مع الأزمة العسكرية أزمات اقتصادية ستلقي بظلالها على جميع دول العالم، والمرحلة القادمة حُبلى بالأحداث والمفاجآت في ظل اتجاه الأمور نحو المزيد من التصعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.