العلاقات التركية الإسرائيلية.. لماذا بدأ فصل جديد فيها الآن؟

الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان (يمين) والإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في تركيا مارس/آذار 2022 (الجزيرة)

مع بزوغ فجر عام 2022، شاع بريق تبادل رسائل ودية بين تركيا وإسرائيل على نحوٍ أوحى بوجود تحرك جاد من قبل الطرفين لفتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما، تلك الجدية لومست بإفراج الجانب التركي عن الزوجين الإسرائيليين المحتجزين في إسطنبول منذ نهاية العام الماضي، ومقابل ذلك زار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ تركيا وسط استقبالٍ حافل.

ركود كاسد؛ هي حالة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب منذ أحداث "مافي مرمرة" عام 2010، وحاول الطرفان إعادة علاقاتهما إلى نصابها عام 2013، لكن ذلك لم يتم نتيجة العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، وفي عام 2015 عاد الطرفان لمحاولة تحسين العلاقات، وعيّنت تل أبيب سفيرا لها في أنقرة، وتوانت أنقرة في تعيين السفير حتى ترى تحسنا من قبل إسرائيل بحق الفلسطينيين.

إن التصور بأن الولايات المتحدة تفقد اهتمامها بالشرق الأوسط، في ظل تصاعد الصراع على السلطة مع الصين وروسيا؛ يدفع دول المنطقة إلى تحسين علاقاتها مع كل جيرانها. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن في يناير/كانون الثاني 2021 أدى إلى تسريع الحركة الدبلوماسية في المنطقة.

لم يلبث الأمر كثيرا، حتى طردت أنقرة السفير الإسرائيلي عام 2018؛ احتجاجًا على الاستخدام غير المتناسب للقوة من قبل إسرائيل في الاحتجاجات التي اندلعت في غزة عقب حفل افتتاح السفارة الأميركية في القدس؛ كما طردت تل أبيب القنصل التركي.

مؤخرًا، اكتسب الحوار بين الطرفين حول تحسين العلاقات زخما مصحوبا بتساؤل مفاده: "لماذا الآن؟"

هل هو اختيار أو ضرورة؟

اكتسبت المبادرات الدبلوماسية التي أطلقتها تركيا لإعادة العلاقات مع دول المنطقة -بما في ذلك إسرائيل- زخمًا في العام الماضي، ويمكن القول إن التطورات على الساحة الدولية؛ لا سيّما تولي إدارة بايدن ذات التوجه الليبرالي التعاوني التصالحي مقاليد الحكم في واشنطن، شكّلت حافزًا لهذا التحول في السياسة الخارجية التركية، وإن كان متأخرًا، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه على المدى المتوسط.

توفر التوازنات الجديدة التي تتشكل في الشرق الأوسط أرضية مناسبة لجهود دفع الحوار بين الطرفين. إن التصور بأن الولايات المتحدة تفقد اهتمامها بالشرق الأوسط، في ظل تصاعد الصراع على السلطة مع الصين وروسيا؛ يدفع دول المنطقة إلى تحسين علاقاتها مع كل جيرانها. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن في يناير/كانون الثاني 2021 أدى إلى تسريع الحركة الدبلوماسية في المنطقة؛ لأن إدارة بايدن تؤيد ضمان الاستقرار النسبي والنظام في الشرق الأوسط، وتركّز اهتمامها في السياسة الخارجية ومواردها على منافسة الصين واحتوائها، وبدرجةٍ أقل روسيا.

في هذا السياق، بينما دعمت إدارة بايدن اتفاقيات "أبراهام" التطبيعية، التي تم توقيعها عام 2020 بهدف تطبيع العلاقات بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل (انضمت إليها لاحقًا البحرين والسودان والمغرب) من جهة، عادت لإحياء المفاوضات النووية مع إيران من جهةٍ أخرى. وتتواصل المفاوضات مع إيران للعودة إلى الاتفاق، لكن في المقابل تقترب إيران من القدرة على إنتاج أسلحة نووية من حيث قدرة اليورانيوم المخصب، وبذلك يعد احتمال تملك إيران سلاحا متطورا عاملا آخر يدفع دول المنطقة إلى التعاون في القضايا الأمنية، ويتبع ذلك انفتاح إيران المُطلق على سوق الطاقة؛ إذ تعدّها واشنطن بديلا للطاقة الروسية بعد تدهور العلاقات بين الغرب وروسيا بسبب اعتداء الأخيرة على أوكرانيا.

من ناحية أخرى، فإن حقيقة بقاء نظام الأسد في السلطة في سوريا بدعم من روسيا وإيران بعد 11 عامًا من الأزمة هو تطور آخر يدفع دول المنطقة نحو التحرك بواقعية لإعادة التموضع ضد التنامي المُحتمل للنفوذ الإيراني. وفي ذات السياق، يُقرأ قيام الولايات المتحدة الأميركية بإعفاء الاتفاقية التي تنص على إيصال الغاز المصري من سوريا والكهرباء من الأردن إلى لبنان، من العقوبات المفروضة عليها بموجب "قانون قيصر" وحصولها على الضوء الأخضر لإعادة تفعيل الاتفاقية مجددا؛ على أنه مؤشر آخر على توجه واشنطن نحو إحلال معادلة التعاون المؤسسي الاقتصادي المتداخل بين الحلفاء والخصوم على نحوٍ يرسم معادلة أقرب لما تكون بمعادلة عام 2011، وهذا ما يدفع جميع الدول -وليس أنقرة وتل أبيب فقط- لإعادة رسم ملامح خريطة علاقاتها الدبلوماسية على الخريطة.

في طور التغيرات الجارية، وفي سياق الواقعية، اتجهت أنقرة وتل أبيب للنظر في المصالح المشتركة التي تدفعهم نحو التعاون ورعاية مصالحهما المشتركة بصيغة "زواج المصلحة" أمام المحاور التي تتشكّل حاليًا في المنطقة.

إن المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة تشجع الطرفين على التقارب في ظل مسار التوازنات المتغيرة وحالة عدم اليقين في المعادلة الحالية لمنطقة الشرق الأوسط.

كذلك حقيقة أن إدارة بايدن تبنت نهجًا أكثر إنصافًا وتوازنًا تجاه القضية الإسرائيلية الفلسطينية مقارنة بسابقتها قد وفرت أرضية مناسبة لتركيا لإصلاح علاقاتها مع إسرائيل. وبالمثل، فإن الانتخابات العامة التي أجريت في مارس/آذار 2021 في إسرائيل أنهت حكم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي دام 12 عامًا، وذلك أدى إلى تشكيل حكومة ائتلافية أكثر اعتدالا بما كانت عليه حكومة نتنياهو. بالإضافة إلى كل ذلك، في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية داخل تركيا، أصبحت هناك حالة مُجبرة على إصلاح العلاقات مع دول المنطقة، من إمارات وإسرائيل وسعودية.

وعليه، تعد أنقرة مُضطرةً لتحسين علاقاتها مع دول المنطقة لما تقتضيه المعادلة الدولية والتوازنات الإقليمية ومصالحها الداخلية.

طبيعة المسار الجديد

لا شك أن لدى الجانبين بعض التوقعات في ما يتعلق بتطبيع العلاقات الثنائية. بالنسبة لتركيا، فإن إعادة إقامة حوار دبلوماسي مع إسرائيل بشكل صحي سيقلل أولاً وقبل كل شيء عزلة الدولة الإقليمية، ويزيد قدرتها على المناورة في سياستها الخارجية. من منظور أوسع، تهدف أنقرة إلى استعادة النفوذ الذي فقدته أمام منافسيها الإقليميين -اليونان ومصر- في حوض المتوسط تحديدا.

في هذا الصدد، لم ولن يتم التخلي عن أهداف مثل إعادة رسم الحدود البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​ومراجعة الاتفاقيات الدولية المُبرمة مع حكومة التوافق الليبية، كذلك لا يبدو أن إسرائيل مستعدة للتضحية بحلفائها الجدد في المنطقة مقابل تحسين العلاقات مع تركيا.

أدى قرار وزارة الخارجية الأميركية وقف دعم مشروع خط أنابيب الغاز شرق المتوسط (إيست ميد)، الذي يهدف إلى نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا إلى توفير فرصة جيواقتصادية ذهبية في صالح أنقرة التي رأت ضرورة تقييمها بالتقارب من تل أبيب. لقد كانت تل أبيب تُدرك أنه كان من الصعب مد الخط من دون حل مشكلة قبرص؛ وبذلك فإن التعاون بين البلدين قد يسهل تحقيق مشاريع بديلة من شأنها أن تقلل حاجة تركيا للغاز واعتماد أوروبا على روسيا في مجال الطاقة.

في العقد الماضي، تغير المشهد الجيوإستراتيجي للشرق الأوسط بشكل جذري، لا سيما في أعقاب اتفاقية "أبراهام"، التي غيرت أيضًا ديناميكيات القوة في العلاقات التركية الإسرائيلية إلى حد ما لصالح إسرائيل. ومع ذلك، فإن تركيا وإسرائيل لديهما مصالح واسعة في إقامة نظام يقوم على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.

ستمهد خطوات إعادة العلاقة بين الطرفين الطريق لتركيا للانضمام إلى المحور الأمني ​​المدعوم من الولايات المتحدة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​على المدى المتوسط، وهنا ستحظى أنقرة بدعم الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

إمكانية تطوير التعاون

ستستفيد تركيا وإسرائيل من تطوير التعاون في العديد من المجالات مثل التجارة وتبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون في مجال الطاقة والدفاع. في واقع الأمر، نجح البلدان في تجزئة علاقاتهما خلال السنوات العشر الماضية، وبالتالي استمر حجم التجارة الثنائية في النمو رغم الأزمات السياسية، حيث زادت معدلات التجارة بين إسرائيل وتركيا لتبلغ 6 مليارات دولار، وفقًا لغرفة التجارة الإسرائيلية.

بالنسبةِ لتركيا، قد تكون أنقرة تنتظر دعم "اللوبيات" (مجموعات الضغط) الموالية لإسرائيل في واشنطن لإزالة المزاج المعادي لتركيا في الكونغرس، كما في السنوات السابقة. وهنا يجب أن نضيف أن تطوير العلاقات المتوازنة مع إسرائيل يجعل من الممكن لتركيا القيام بدور بناء وفاعل في القضية الفلسطينية كوسيط أكثر من كونها طرفا خصما ضد إسرائيل.

ربما تكون اتفاقية "أبراهام " أضعفت دور تركيا كمزود للحوار بين إسرائيل والعالم العربي، ومكانتها المتميزة. ومع ذلك، فإن سكانها الذين يشكلون الأغلبية المسلمة وعضوية "الناتو"، فضلا عن موقعها الجغرافي السياسي؛ سيجعلان تركيا مستمرة في كونها حليفًا مهمًا في نظر إسرائيل. وهذا يفسر سبب إبقاء إسرائيل على الدوام قنوات الحوار مفتوحة، حتى لو وصلت العلاقات إلى الحضيض، واستجابت بالطريقة نفسها للرسائل المعتدلة الأخيرة من أنقرة، رغم التحفظات المختلفة.

ومع ذلك، يبدو أن الجانب الإسرائيلي أيضًا على دراية بحدود التعاون الذي يتعين تطويره بين البلدين ما دامت أنقرة لن تتخلى عن نهجها المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني ومسار علاقاتها السياسية مع حركة حماس الفلسطينية.

في هذا الصدد، سيتم اتخاذ بعض الإجراءات النسبية لتقييد نشاط حماس في تركيا، بهدف إكساب عملية تحسين العلاقات سرعةً ملموسة، لكن ذلك لن يقابله القطيعة الكاملة بين أنقرة وحركة حماس.

خلاصة القول: إن إحراز تقدم حقيقي في عملية المصالحة يعتمد على اتساق مصالح الجانبين في الاجتماع على أرضية مشتركة. إن تطوير التعاون على أساس المصالح المشتركة سيجعل العلاقات الثنائية مقاومة للأزمات نسبيا، وهذا ما سيفتح باب تعاون إستراتيجي ملموس في حوض المتوسط تحديدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.