الأرشيف العثماني (2) | كيف يلعب دورًا كبيرًا في حلّ مشكلات العصر الاجتماعية والحضارية؟

Market of Eminou Square and New Mosque Yeni Cami, with store signs in Ottoman Turkish, Armenian, Greek and French, 1884–1900, Sébah & Joaillier. Pierre de Gigord Collection of Photographs of the Ottoman Empire and the Republic of Turkey. The Getty Research Institute, 96.R.14. Digital image courtesy of the Getty’s Open Content Program
سوق ساحة إيمينونو والمسجد الجديد، مع لافتات المحلات بالتركية العثمانية والأرمنية واليونانية والفرنسية في 1884-1900 (غيتي إيميجز)

تناولت الحلقة الأولى الرقعة الجغرافية والاجتماعية والمعرفية للأرشيف العثماني، وطريقة نشأته ووظيفته تحت النظام السياسي للدولة العثمانية، وصفته الجديدة بعد زوالها، وعلاقته بمجتمعات الدول التي نجمت عن تقسيمها، وتتناول هذه الحلقة الأصول الحضارية للأرشيف العثماني ورصيده الاجتماعي المحلي والأممي، وعلاقتها (مجتمعة) بحلول لمشاكل عصرنا.

الحضارة الإسلامية أممية تراكمية، تعاقبت على حكمها شعوب إسلامية اشتركت في الغاية (الإسلام) وتمايزت في الوسيلة بحسب المرحلة، وجاءت الحقبة العثمانية لتكون حقبة التوثيق التي اتحدت فيها نظم الحضارة الإسلامية بنظم الإدارة الحديثة

فكرة الأرشيف العثماني

وراء كل عمل كبير فكرة تتجاوز أهميتها العمل ذاته، فما هي فكرة مؤسسة الأرشيف العثماني، وما أصلها وغايتها؟ سؤال عن مؤسسة بهذا الحجم لا يمكن أن يبقى من دون إجابة وإلا غدت تلك المؤسسة مجرد خزانة للوثائق الخام. مقارنة سريعة مع نظائر الأرشيف العثماني بما عند إمبراطوريات الأمم الأخرى (عملا بقاعدة بضدها تتبين الأشياء)، تدل على كثير من الاختلافات في المنهجية بينها وبين الأرشيف العثماني، بل قد نجد إذكاء الخلافات بين الشعوب، وأن أول شيء تقدم عليه الجيوش الغازية هو سلب حقوق الناس وليس حمايتها، هذه المقارنة كافية لنستيقن أننا أمام مؤسسة على غير النمط الذي عهدته البشرية، وأننا أمام دور شاغر تحتاجه مجتمعاتها.

ولم تتمكن المقارنة من العثور على تفسير لمفهوم أرشيف يبدأ بتوثيق حقوق الناس والأقليات لحظة دخول جيش (العثماني) لبلد لا يشترك مع الدولة (العثمانية) في القومية أو الحضارة أو الديانة، (مثال: بولندا، ورومانيا، وصربيا، وجورجيا، واليونان التي لا يزال أهلها يحتكمون إلى الأرشيف العثماني في النزاعات القضائية)، سوى مفهوم المواطنة الذي يصاحب جغرافية الدولة حيثما امتدت، والذي سبق بقرون عديدة مفهوم المواطنة المعاصرة في الغرب الذي يمنح المهاجر نفس حقوق مواطنيه، وأن مفهوم الدولة والمواطنة الذي يوثقه الأرشيف العثماني هو نقيض مفهوم اللادولة (المليشيات) الذي يسلب الحقوق، حيثما امتد نفوذ المليشيات، وهما طرفا المعادلة المختلة اليوم والتي بسببها تتفكك المجتمعات.

أصل الأرشيف العثماني

يرجع أصل الأرشيف العثماني إلى عاملين: حضاري وإداري؛ أما الحضاري فأسس حماية الحقوق التي قام عليها الأرشيف هي نفسها التي أرساها سيدنا عمر رضي الله عنه في المدينة المنورة، وكانت قائمة في المجتمعات التي سبقت العهد العثماني (الراشدية والأموية والعباسية ثم العباسية/السلجوقية)، وبلغت نقطة السمت في المجتمع الأندلسي الذي كان ثغرا مندسا بين كتلتين مختلفتين: كتلة شمال أفريقيا المسلمة وكتلة أوروبا المسيحية، وكان مجتمع  الثغر قبلة للمهاجرين مثلما هي أوروبا اليوم، لكن العقد الاجتماعي في جميع تلك العهود بقي (بشكل أو بآخر) تحت حماية الأخلاق العامة للمجتمع وتحت إشراف الشهود في التعاملات من بيع وشراء.

كان للدولة العثمانية السبق بين البلاد الإسلامية في إصدار قانون مدني مستمد من الفقه على المذهب الحنفي، عرف "بمجلة الأحكام العدلية"، وهي تعتبر أول تدوين للفقه الإسلامي في المجال المدني في إطار بنود قانونية، وقد فعلت الدولة العثمانية الشيء نفسه مع جميع الأديان والمذاهب في مجتمعها، وأمّنت لهم حق التحاكم في قضايا الأحوال الشخصية لما ورد في أديانهم أو طوائفهم

أما الشق الإداري، فإن الحضارة الإسلامية أممية تراكمية تعاقبت على حكمها شعوب إسلامية اشتركت في الغاية (الإسلام) وتمايزت في الوسيلة بحسب المرحلة (إبلاغ رسالة الإسلام، بناء المؤسسات العلمية، الفتوحات، ترجمة العلوم، النهضة العلمية، تحرير المقدسات). وجاءت الحقبة العثمانية لتكون حقبة التوثيق التي اتحدت فيها نظم الحضارة الإسلامية بنظم الإدارة الحديثة، ولما كانت الحقبة الأقرب إلى زمننا المعاصر فقد استطاعت تقديم النظام الاجتماعي الإسلامي بقوالب إدارية، وبرزت كأنموذج إداري حديث بمضمون إسلامي.

ثمة عامل آخر يكمن وراء هذا الأرشيف، هو السبق الفقهي للمذهب الحنفي (الذي اتبعته الدولة العثمانية) بدخوله مؤسسة القضاء التابعة للدولة (العباسية)، وهيكلة الأحكام الشرعية. فكان أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله هو أول من تقلد وتولى منصب قاضي القضاة في الإسلام إبان خلافة هارون الرشيد، وتبعه محمد بن الحسن. وكان للدولة العثمانية السبق بين البلاد الإسلامية في إصدار قانون مدني مستمد من الفقه على المذهب الحنفي، عرف "بمجلة الأحكام العدلية" التي بدأ العمل بها في 1869 ولأعوام سبعة، ووضعت قيد التنفيذ في عام 1877، وهي تعتبر أول تدوين للفقه الإسلامي في المجال المدني في إطار بنود قانونية، وقد فعلت الدولة العثمانية الشيء نفسه مع جميع الأديان والمذاهب في مجتمعها وأمّنت لهم حق التحاكم في قضايا الأحوال الشخصية لما ورد في أديانهم أو طوائفهم.

في المؤتمر الدولي للأرشيف العثماني الذي انعقد في إسطنبول عام 2012 بحضور وفود من معظم دول العالم، نهض كاتب هذه السطور ليقول للمؤتمر: "الأرشيف العثماني إبداع حضاري يحق للأتراك الافتخار به، لأنه أنجز إبان حقبة من تاريخ الحضارة الإسلامية كان الأتراك فيها هم سدنة الأمة، وهو محفوظ على ترابهم، هذه حقيقة. الحقيقة الأخرى: يمثل الأرشيف الطور التوثيقي للأسس التي وضعها سيدنا عمر رضي الله عنه في المدنية المنورة، وبذلك يكون مصبا لروافد الحضارة القادمة من مجتمعاتها المتعددة". علق مدير مؤتمر بالقول: "نعم هي الأسس التي وضعها حضرة عمر رضي الله عنه".

مكانة الأرشيف العثماني عند شعوب العالم

كلمات مدير المؤتمر نقلت المؤتمر من ضيق الإدارة إلى سعة الحضارة، وقدمت فائدتين حضاريتين لضيوف جاؤوا بالأساس لحضور مؤتمر فني (طابو)، أولاهما: أن هذا الأرشيف ليس عملاً إدارياً من إبداع شخص أو مجموعة أشخاص فحسب، وإنما هو قوالب حضارية ثابتة يعزى إليها النسق الاجتماعي على امتداد رقعة الحضارة الإسلامية في 3 قارات وعلى مر العهود السياسية، وقدرتها على حماية الحقوق في حين تضعف الدولة أو تغيب بالكامل وتغيب معها مؤسسات القضاء والأمن، وهذا السبب وراء بقاء الأقليات مكونا أساسيا في مجتمع الحضارة الإسلامية، وهذا أخطر ما تفتقده البشرية اليوم والعامل الأهم في الحد من الهجرات الجماعية. يقول المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي: "جميع الفئات الدينية التي كانت حاضرة عند قيام الإمبراطورية الإسلامية العثمانية، كانت موجودة عند زوالها بعد ستة قرون".

الأرشيف العثماني مؤسسة صامتة (وهذه طبيعة مؤسسات الأرشيف في وجود الدولة)، لكن انهيار الدولة والمجتمع يشعلان معركة اجتماعية وثقافية بين معسكر التزييف ومعسكر الحقائق، ولا بد للأرشيفات حينها من رفع الصوت

 

الفائدة الأخرى هي أن تركيا ليست فقط حاضنة للأرشيف، وإنما هي سادنة للنظام الاجتماعي للحضارة الإسلامية الذي يمثله، أي أن هناك لعبة واضحة المعالم ولاعبا ماهرا في حالة جاهزية وبانتظار البدء باللعب. لم يكن الفكر على جدول أعمال المؤتمر، لكن ثمة دلالات فكرية وإستراتيجية كانت مستترة يجدر إظهارها والتعريف بها:

اختلال الأمن على رقعة الأرشيف العثماني (الشرق الأوسط) لا ينفصل عن ظاهرة اختلال النظام الاجتماعي والأمني العالميين. الحضور إلى منزل صديق إعجابا بذوقه والاقتباس من أفكاره هو إقرار بتفوقه الذوقي، وحضور مؤتمر حول النظام الإداري لتفرده الحضاري هو إقرار بالتفوق الحضاري لمنظميه. الإعجاب بنظام ما تتبعه عادة رغبة في معرفة تاريخه وظروف نشأته، فالمعجبون بالاقتصاد الشيوعي يمتد إعجابهم بأدبياتها وظروف نشأتها وسير شخوصها، وذات الشيء ينطبق على الأرشيف العثماني في حال توفر أفكاره وأدبياته وظروف نشأته. ضيوف المؤتمر هم أفضل من يحمل الرسالة الفكرية للأرشيف العثماني إلى العالم، لتصبح أرضية لمؤتمرات عالمية عن الفكرة الاجتماعية التي أوجدت الأرشيف والمسؤولة عن أطول تجربة للتعدد الثقافي والعرقي في تاريخ الإنسانية.

ولكن ما علاقة الأرشيف العثماني بحلول مشاكل عصرنا؟

هذا السؤال يجيب عنه الذين فقدوا كل شيء في حياتهم (مدنهم ومجتمعاتهم وأمنهم وممتلكاتهم)، والذين يلجؤون إلى الأرشيف العثماني لإثبات حقوقهم. هؤلاء بسلوكهم هذا ينشدون مفهوم الدولة وحكم القانون غير مدركين أن حماية الحقوق هي ثقافة، وأن هدمها هو ثقافة أخرى بالاتجاه المعاكس، وأن هدر الحقوق سيستمر ما دام أن حمايتها تأخذ شكل استنساخ وثائق الأرشيف العثماني لاستخدامها في النزاعات القضائية، ولا تأخذ شكل عصبية ثقافية يتبلور حولها المجتمع ويصونها كما فعل المجتمع الأول. الأرشيف العثماني مؤسسة صامتة (وهذه طبيعة مؤسسات الأرشيف في وجود الدولة)، لكن انهيار الدولة والمجتمع يشعلان معركة اجتماعية وثقافية بين معسكر التزييف (المليشيات) ومعسكر الحقائق (المجتمع والدولة)، ولا بد للأرشيفات حينها من رفع الصوت.

هل ذهب المجتمع الذي أوجد الأرشيف العثماني؟

لهذا السؤال أكثر من إجابة: نعم ذهب، بمعنى أنه تفكك إلى دول مستقلة تتبع مراكز متعددة وليس مركزاً واحداً، وبمعنى زوال شكل النظام السياسي الذي كان يحميه (الدولة الكبيرة أو الإمبراطورية). العالم ودع عصر الامبراطوريات في مطلع القرن 20، وأورثها للدولة القومية التي ودعها في نهاياته، ويستقبل في القرن 21 عصر الدولة الحضارية (Civilisational State) التي هي دولة هجينة بخصوصيات قومية محلية وهوية حضارية تشترك بها معها محيطها وتقوم عليها كتلة اقتصادية وأمنية واقتصادية تكون أكثر ثباتًا بوجه العواصف من الدول منفردة.

في نفس الوقت، هو لم يذهب بل تطور باتجاه صيغة تعوضه الخسائر الاجتماعية لزوال النظام السياسي السابق، فزوال الدولة العثمانية ونشوء العلاقة المتبادلة بين الأرشيف العثماني وبين مجتمعات الدول المستقلة (الولايات العثمانية سابقا) أوجد واقعاً اجتماعياً إقليمياً، وهو ما تحاول دول مثل روسيا إنتاجه تحت اسم هوية إقليمية هي "أوراسيا" في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، والصين تحت اسم "الكونفوشية" مع الشعوب التي تشترك معها في قيم الحضارة الصينية. لكنها التفافات سياسية من إمبراطوريات سابقة لاستعادة مجد غابر. منطقتنا (العربية التركية) هي الأقدر على تفعيل ثقافة الحلف الحضاري، نظرا لاشتراكها بمفهوم المجتمع في الحضارة الإسلامية الذي تتحد فيه أوامر السماء مع وسائل الأرض، وتتماهى العادة في العبادة فيدوم بدوامها وهذه خاصية له وحده.

إنشاء الحلف الحضاري الذي يقوم على الفكرة يختلف عن الأحلاف العسكرية (ناتو ووارسو) التي تقوم على الغريزة (الخوف من خطر مشترك)، وعن الأحلاف الاقتصادية (الاتحاد الأوروبي) التي تقوم على غريزة المنفعة الاقتصادية والانسحاب منها عند الخسارة. وبينما يستدام الحلف العسكري باستفزاز غريزة الخوف وتحديث السلاح، ويستدام التحالف الاقتصادي بجذب رؤوس الأموال، فإن التحالف الحضاري يستدام بالتغذية المستمرة للمفاهيم واستحداث تطبيقات لها في الحياة اليومية، وبسد الثغرات. بهذا المعنى تصبح الإجابة: لا، لم يذهب ذلك المجتمع، وهو قادر على استئناف مسيرة 5 قرون بروح مشابهة ونمط مختلف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.