كأس العالم حين تخبرنا الكثير عن أنفسنا

اللاعب المغربي سفيان بوفال يحتفل مع والدته بعد تأهل المغرب إلى نصف النهائي (رويترز)

حالٌ من المتعة والإمتاع نعيشها منذ انطلاق كأس العالم في قطر 2022 قبل 3 أسابيع، ومصدر هذه الحال ليس فقط التنظيم المبهر الذي تشهده البطولة حتى الآن، ولا النتائج المفاجئة التي شهدتها أدوار البطولة كافة، سواء المجموعات أو ثمن النهائي أو ربع النهائي، التي قلبت ما هو ثابت وراسخ في عالم "الساحرة المستديرة" بلغة معلقي كرة القدم، وبطريقة أعادت تعريف موازين وأحجام الفرق الكبرى والصغرى في هذه الرياضة؛ بل أيضا الأبعاد الإنسانية والسياسية التي شهدتها البطولة ولا تزال.

 

رأينا الكرم العربي -لا سيما القطري- في التعامل مع المشجعين في أبهى صوره، في جو من المحبة والإخاء الإنساني لا يتكرر كثيرا في وقتنا هذا. كأن البطولة أعادت اكتشاف جزء مهم من تراثنا وحضارتنا وقيمنا العربية التي كانت مدفونة، وقدمته للعالم بشكل يدعو للفخر والاعتزاز

إنسانيًّا، رأينا لوحة مصغرة من البشر وهم مجتمعون ومتآلفون ومبتهجون، رسمتها ألوان وأعلام المشجعين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ليشهدوا أهم حدث رياضي عالمي يجري تنظيمه كل 4 سنوات. وإذا كان الأمر يتكرر في كل نسخة من كأس العالم فإن النسخة الحالية هي الأكثر تعبيرا عن هذه اللوحة المتنوعة الممزوجة بكافة ألوان الثقافات والتقاليد التي شاهدناها تتناغم مع بعضها البعض في احتفالات الجماهير من كافة البلدان المشاركة في البطولة؛ فقد رأينا ذلك المشجع الكرواتي يرتدي زيا خليجيا (الثوب والغطرة والعقال) بألوان علم بلاده، وهو الأمر الذي تكرر مع مشجعي البرازيل والمكسيك وغيرهم.

كذلك رأينا ملامح إنسانية عديدة في التعامل بين المواطنين القطريين والمقيمين من جهة، والمشجعين من جهة أخرى، بل وأحيانا مع بعض المشاركين في مباريات البطولة، كما حدث مع مدرب الفريق البرازيلي (تيتي) الذي كان يبحث عن مشجع عربي حمل حفيده وهو نائم، في لفتة وصفها المدرب بأنها إنسانية؛ فقد ساعد رجل كان يرتدي علم فلسطين عائلة "تيتي" خلال سيرها من الملعب إلى محطة المترو بعد انتهاء مباراة البرازيل وصربيا في الجولة الأولى من المونديال، وتأثر المدرب حينما شاهد صورة الرجل وهو يحمل حفيده، قاطعا به مسافة طويلة.

رأينا أيضا الكرم العربي -لا سيما القطري- في التعامل مع المشجعين في أبهى صوره، سواء من خلال احتفال القطريين والمقيمين مع الجماهير السعيدة بفوز فرقها، أو من خلال تقديم بعض الهدايا والمأكولات للمشجعين بعد المباريات، وذلك في جو من المحبة والإخاء الإنساني لا يتكرر كثيرا في وقتنا هذا. كأن البطولة أعادت اكتشاف جزء مهم من تراثنا وحضارتنا وقيمنا العربية التي كانت مدفونة، وقدمته للعالم بشكل يدعو للفخر والاعتزاز.

أما أبرز اللقطات الإنسانية التي ستظل محفورة في أذهاننا سنوات طويلة قادمة، فهي صور اللاعبين مع أفراد عائلاتهم عقب المباريات؛ فكم كان مؤثرًا أن نرى آباء وأمهات لاعبي فريق المغرب وهم يحتفلون ويحتضنون أبناءهم عقب كل مباراة خاصة خلال الأدوار الإقصائية. فرأينا اللاعب أشرف حكيمي وهو يقبل رأس أمه بعد مباراة المغرب مع بلجيكا في لقطة أطلقت دموع كثيرين لبهجتها ودلالاتها. كذلك رأينا اللاعب المميز يوسف نصيري وهو يحتضن والده ذا الملامح المغربية البسيطة، وذلك بعد فوز المغرب على إسبانيا في مشهد مؤثر ومعبر عن السعادة والفخر والاعتراف بفضل والده عليه. الأمر نفسه تكرّر بين اللاعب سفيان بوفال وهو يحتضن ويرقص مع والدته عقب فوز المغرب التاريخي على فريق البرتغال والصعود للمرة الأولى في تاريخ بطولات كأس العالم إلى الدور نصف النهائي.

مشاهد لم نألفها أو نراها من قبل في معظم بطولات كأس العالم على مدار العقود الأربعة الماضية، ولعل هذا هو ما يميز النسخة الحالية من كأس العالم التي ترفع شعارات الوحدة والإخاء والإنسانية؛ وهو ما تجسد أيضا بشكل واضح في اللقاء التاريخي بين الشاب القطري غانم المفتاح -وهو من ذوي الهمم- مع الممثل العالمي المعروف مورغان فريمان في حفل افتتاح البطولة، وهو مشهد لن ينساه كل من شاهده عبر البث الحي حول العالم.

"الشاب الملهم" غانم المفتاح مع مورغان فريمان في افتتاح المونديال (الفرنسية)

أما سياسيا، فقد رأينا العديد من المواقف واللقاءات التاريخية غير الاعتيادية على هامش هذه البطولة؛ فقد رأينا زعماء دول يتصافحون للمرة الأولى منذ سنوات، كما حدث بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في حضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وذلك في مشهد تاريخي كان مثار حديث كافة وسائل الإعلام الإقليمية والدولية. كذلك رأينا اللقاء الدافئ بين الشيخ تميم وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في افتتاح البطولة، وذلك بعد أن انقشع غبار الأزمة الخليجية وعادت العلاقات بين الدوحة والرياض إلى حالة جديدة من التفاهم والوفاق والاحترام المتبادل. كذلك زار حاكم الإمارات الشيخ محمد بن زايد قطر للمرة الأولى منذ سنوات، والتقى أمير قطر، في إشارة مهمة إلى تحسّن أجواء العلاقات بين البلدين.

أما الحدث الأبرز في هذه البطولة فقد تمثل في الحضور الطاغي لقضية فلسطين، وهو حضور غير مسبوق ولم نر مثله في أية بطولة من بطولات كأس العالم؛ فقد أكدت البطولة أن فلسطين قضية العرب الأولى، وأنه رغم كل محاولات طمس هذه القضية -سواء عبر التطبيع أو التشويه- فلا تزال الشعوب العربية تحملها داخلها وتعبر عنها كلما جاءت الفرصة لذلك.

وقد رأينا اللاعبين والجماهير يحتفلون بالعلم الفلسطيني في كل مناسبة، كذلك رأينا رفض واستنكار كثير من المشجعين العرب الحديث مع الصحفيين والمراسلين الإسرائيليين، وذلك إلى الدرجة التي اعترف فيها أحد المراسلين الإسرائيليين بأن ما رآه في قطر من التفاف عربي حول فلسطين كان بمثابة صدمة كبيرة له.

وأخيرا، رأينا الفرحة العربية الغامرة بنجاح وتألق الفريق المغربي، وشاهدنا التفاف الجميع -سواء في العالم العربي أو في المهجر- حوله، والجميع يشعر بالفخر والاعتزاز بالأداء البطولي للاعبين، وهي جميعا مشاهد غير عادية تخبرنا الكثير عن أنفسنا وعن طموح وتطلعات شعوبنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.