فلسطين في قلب مونديال قطر.. والشعوب تقول لا للتطبيع

الجماهير ترفع علم فلسطين خلال مباراة بكأس العالم في قطر (رويترز)

لست من عشاق الرياضة ولا أنا من متابعي أحداثها وفرقها ونجومها الكرويين، ولكنني وجدت نفسي منجذبا لمتابعة المباريات التي اشتركت فيها الدول العربية في كأس العالم في قطر، ويبدو أن هذا كان حال كثيرين أمثالي من الجماهير غير الكروية التي انحازت للفرق العربية بحكم الانتماء والشعور بالتحدي، ورغبة في تجربة شعور النصر ولو كان كرويا، في ظل واقع الهزيمة الذي تعيشه الأمة!

اشترك الجميع هذه المرة من كرويين وغيرهم في متابعة تفاصيل المباريات والفائزين والخاسرين فيها، والأهداف الجميلة والفرص الضائعة ونجوم المستديرة المشهورين، غير أن هذا الاهتمام تركز في الفرق العربية الأربع المشاركة، التي خاضت منافسات ضد فرق أجنبية أخرى. ولعله من محاسن القرعة أنها لم تضع أي فريق عربي في مواجهة فريق عربي آخر، الأمر الذي وحد الجماهير العربية في دعم كل الفرق العربية بدون استثناء.

يأتي ذلك لأن هذا المونديال كانت له نكهة عربية خاصة ميزته عن غيره، لا سيما أن قطر تمكنت بجدارة من إثبات تفوقها وكفاءتها في إدارة حدث كبير كهذا، ما جعلها في دائرة حسد الآخرين.

لا شك أن الدوحة تمكنت بذكاء من التصدي للهجمة الغربية الشرسة عليها في ملفي الشواذ وحقوق الإنسان، وتمكنت من تعرية النفاق الغربي، وتأكيد الثقافة العربية والإسلامية في مواجهة ثقافة الرذيلة الغربية، وذلك في نجاح باهر أضاف للمونديال نكهته الخاصة، وحقق وحدة جمعت الشعوب العربية في الدفاع عن ثقافتها ودينها.

وقد تطرق كثيرون لما حققته قطر على صعيد حماية الهوية الثقافية وتكريسها في المونديال، ولذلك سأركز في هذا المقال على الكيفية التي فرضت فيها القضية الفلسطينية حضورها المميز في كأس العالم.

أبدعت جماهير تونس والمغرب برفع أعلام فلسطينية كبيرة في المباريات، كما صدحت حناجر الجمهور المغربي بالغناء لفلسطين ومقاومتها في مناطق المشجعين، في حين حمل أحد مشجعي تونس العلم الفلسطيني مرتديا القبعة التونسية المعروفة، وطاف به في الملعب بعد انتهاء مباراة تونس وفرنسا

"مونديال فلسطين"

لطالما ارتبطت ذكريات كأس العالم بشن إسرائيل حربين على المقاومتين الفلسطينية واللبنانية في 1982 و2006، فإن مونديال 2022 جاء في وقت تشهد فيه الأراضي الفلسطينية ملاحم بطولية في الضفة الغربية ضد قوات الاحتلال التي صعدت من قمعها وإرهابها للفلسطينيين بالتزامن مع قدوم حكومة صهيونية هي الأكثر يمينية في تاريخ الاحتلال.

كان لانعقاد كأس العالم على أراضي دولة عربية عرفت بدعمها الدائم للفلسطينيين كبير الأثر على التفاعل الفلسطيني والعربي مع القضية الفلسطينية، وهو أمر لم يحصل في أي بطولة سابقة لكأس العالم. لا، بل إن بعض البطولات السابقة شغلت الجماهير عن متابعة العدوان الإسرائيلي، وشكلت غطاء لجرائم الكيان بحق الفلسطينيين واللبنانيين.

على نحو مختلف عن الدورات السابقة وجد الفلسطينيون هذه المرة دعما كبيرا لهم من الجماهير العربية برفع الأعلام الفلسطينية، ليس فقط في المدرجات والهتاف لفلسطين، بل من خلال التوشح بالعلم الفلسطيني وإقامة الفعاليات الداعمة لفلسطين في مناطق المشجعين أيضا، لدرجة دفعت البعض للقول إن فلسطين هي الحاضر الغائب في اللعبة وإنها الفريق الـ33 المشارك في البطولة.

وجدت الجماهير العربية في هذه المناسبة الرياضية على أرض عربية فسحة متاحة للتعبير عن أشواقها وحبها ودعمها لمقاومة الشعب الفلسطيني، وأبدعت جماهير تونس والمغرب برفع أعلام فلسطينية كبيرة في المباريات، كما صدحت حناجر الجمهور المغربي بالغناء لفلسطين ومقاومتها في مناطق المشجعين، في حين حمل أحد مشجعي تونس العلم الفلسطيني مرتديا القبعة التونسية المعروفة، وطاف به في الملعب بعد انتهاء مباراة تونس وفرنسا.

واللافت أن جماهير المغرب، التي توسعت حكومتها في علاقاتها مع الاحتلال والتطبيع معه، كانت الأبرز في التفاعل مع فلسطين، الأمر الذي يؤكد أن الشعوب في واد وحكوماتها المطبعة في واد آخر.

ولم يكن هذا أمرا رمزيا ولا تفاعلا عابرا، ولكنه تعبير حقيقي عن مكانة فلسطين في الأمة، كما أنه مرتبط بما يسطره الشعب الفلسطيني يوميا من بطولات وتضحيات وتصدٍ للاحتلال يجعل جماهير الأمة على تماس وتفاعل معه، لا سيما أنها ترى حجم البطش والقتل الصهيوني وانتهاك المقدسات.

هذا يؤكد من جديد أن قضية الشعب الفلسطيني تفرض حضورها في قلوب ووجدان شعوب الأمة، على الرغم من الجراحات والآلام التي تتعرض لها في ظل أنظمة فاسدة مستبدة، فحتى في المناسبات الكروية التي تحضرها الناس للمتعة والتسلية، كانت قضية فلسطين في قلب المشهد، حتى قيل إن هذا المونديال هو "مونديال فلسطين" بحق.

لا شك أن الشعب الفلسطيني، الذي يلهم الشعوب العربية بمقاومته، يستمد الدعم والمؤازرة من الشعوب العربية، ويدرك أن أمته تقف معه ولن تخذله، مما يعزز من صموده ويزيد من دافعيته لمواجهة الاحتلال والتصدي له.

كيان منبوذ وتطبيع مرفوض

ولا ينفك هذا الدعم عن الرفض الواسع من جماهير الأمة للتطبيع مع الكيان الصهيوني. فرغم أن الدوحة وبحكم إكراهات الفيفا سمحت للإسرائيليين وإعلامهم بحضور المونديال، فإن هؤلاء لم يكونوا سعداء بتاتا بحالة الرفض الشعبية العارمة لهم، وهي التي عبّر عنها صحفيوهم بشكل واضح ولافت.

فقد وجد الصحفيون الإسرائيليون أنفسهم منبوذين من الجماهير العربية، وحفلت وسائط التواصل وعلى رأسها "تيك توك" (TikTok) بالمواقف المشرفة للعرب الذين لم يرفضوا فقط إجراء المقابلات مع الصحفيين الإسرائيليين، بل بادروا كذلك باحتقارهم وازدرائهم وتحديهم بالهتافات المؤيدة لفلسطين ورفع الأعلام الفلسطينية أمام كاميراتهم.

أكاد أجزم أنه لولا حساب العواقب، وعدم الرغبة في إحراج الدول المضيفة لفرغ فيهم المواطنون العرب شحنة الغضب والكراهية، بسبب استمرار البطش والقمع الصهيوني للشعب الفلسطيني، الذي لم يتوقف في المونديال أبدا.

لقد حاول مراسلو الصحافة الإسرائيلية الاحتكاك بالجماهير لأن هذا جزء من وظيفتهم التي أرسلوا إليها للمونديال، ولا يبدو أن معظمهم كانوا متفاجئين من الرفض العربي الشعبي لهم، غير أنهم ربما اعتقدوا أن "اتفاقات أبراهام" ستقلص حجم الرفض لهم، غير مدركين أنه حيثما تتاح للمواطن العربي حريته في إبداء رأيه فلن يتورع عن إدانة كيان الاحتلال، وليس مجرد رفض التعامل معه في سلوك الحد الأدنى، وذلك ببساطة لأن نجاحهم في التطبيع مع 4 دول عربية مؤخرا لا يعني أبدا تغيير نظرة الشارع العربي لهم.

لا يمكن لاتفاقات أبراهام، رغم الجهود التي بذلت من أجلها، أن تقنع طفلا عربيا بأنه يمكن إنجاز سلام مع كيان يسوم الفلسطينيين ليل نهار سوء العذاب ويقتل أبناءهم ويستبيح مقدساتهم وممتلكاتهم وأرضهم.

ولا يمكن للجماهير أن تتجاهل خطابات العنف والكراهية والعنصرية التي يطلقها الصهاينة، ومنها هتاف "الموت للعرب"، والهتاف ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والانتهاك المتواصل لحرمة المسجد الأقصى وتدنيسه ببساطير جنود الاحتلال.

ولا يمكن أيضا لبطش الحكومات العربية -مهما بلغ مداه- أن يغير قناعة جماهير ترى أن فلسطين أرض محتلة، وترتبط بالقدس وتقدس المسجد الأقصى الذي يستبيحه الكيان كل يوم، وتنقله شاشات التلفاز ووسائل التواصل.

لماذا يتفاجأ الإسرائيليون؟!

لقد بدا بعض الصحفيين الإسرائيليين في مقاطع "تيك توك" المنتشرة متفاجئين من حجم الرفض والاحتقار لهم، وروى بعضهم عن تجربة يوم مرير مر به بدءا من رفض سائق التاكسي توصيله، وصولا لصاحب المطعم الذي طرده، في حين تواقح آخرون في جدالهم مع الجماهير حتى سمعوا كلمات قاطعة مانعة ألجمتهم.

الصحيح أنه ليس الرفض في حد ذاته هو الذي فاجأ الإسرائيليين، بل حجمه ومستواه، وهو ما أحرجهم وأذهلهم ودفعهم في بعض الأحيان للكذب بشأن جنسيتهم. غير أن الصحافة الإسرائيلية حاولت استثمار هذا الرفض العربي الشامل للكيان، لمحاولة استعطاف الغرب، والأخطر من هذا تحريض الحكومات على الشعوب العربية، وتنبيهها لضرورة كبت وضبط هذا الشعور العروبي القومي الإسلامي، والتنبيه إلى أن اتفاقات أبراهام لا يمكن أن تؤتي ثمارها ما لم تصل إلى الشعوب.

لا يقلل هذا من الدلالات العميقة التي كرسها المونديال بخصوص الرفض الشعبي العربي للتطبيع مع الكيان، وهو رفض يؤشر إلى فشل كل مشاريع التطبيع في زعزعة التزام العرب بقضيتهم وارتباطهم بمقدساتهم، لا سيما أن الكيان يؤكد بشكل يومي أنه لا يسعى لسلام أو تطبيع.

مونديال مميز

لقد نظمت قطر نسخة مميزة لكأس العالم لم يقتصر نجاحها على المقاييس التنظيمية والفنية، ولكن أيضا في مقاييس القيم والأخلاق والحضارة. لم يكن الحضور الفلسطيني ليعبر عن نفسه بهذه الطريقة اللافتة لولا مساحة الحرية والدعم الذي منحته الجهة المنظمة للجماهير للتعبير عن مواقفها وأشواقها من فلسطين وقضيتها.

وقد أسفر المونديال عن رسالة سياسية واضحة وجلية، مفادها أنه لا يمكن نزع القضية الفلسطينية من عقول ونفوس الأمة، وأنه لو أتيح لهذه الجماهير للتعبير عن موقفها لشهدنا وضعا مختلفا في البلدان العربية، ودعما لا حدود له لفلسطين وللمقاومة.

أما موضوع التطبيع، فسيظل محصورا في الإطار الرسمي ولا يبدو أنه توجد له أي فرصة للقبول في الأوساط الشعبية، ومهما بلغت مساحة التضيق على الرأي في الدول العربية، فلن يؤدي هذا إلى موافقة هذه الشعوب على التطبيع أو السير في ركابه.

وربما كانت دعوة سفير الاحتلال الأسبق في القاهرة إسحاق ليفانون لعقد اتفاقات سلام مع الشعوب العربية، لا مع الأنظمة، دلالة واضحة في هذا الإطار، وربما تحريضا مبطنا على الشعوب العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.