جدل المعنى والبناء الحضاريّ

اللغة العربية
المعنى ليس محصورًا في ألفاظ اللّغة، وليس ماثلًا حسبُ فيما نسمع أو نقرأ؛ هو فيما نُلاحظ ونَرى (الجزيرة)

عالج الفكر القديم المعنى في سياق نظرته الثنائية (لفظ – معنى)، وهكذا كان المعنى دلالة اللفظ، سواء أكانت دلالة مباشرة أم غير مباشرة، والمُباشرة دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي، والأخرى دلالتُه على لوازمه أو ملزوماته بالمجاز. واستقرّ في الأذهانِ أن للفظ دلالات؛ فثمة دلالةُ اللّفظ هي معناه، وثمّة دلالةٌ باللّفظ هي معنى معناه.

وإذا كان المعنى في الأولى من باب دلالة اللّفظ على الأشياء في العالم، فهو في الأخرى الدلالة به على العلائق والاقترانات التي يلجأ المرء إلى تكوينها بين الأشياء في الوجود. وعلى ذلك يدل لفظ البحر حقيقة على المسطح العظيم الزَّاخر بالماء، الهادئ حينا، الهائج آخر، المتكسّر الأمواج على الشاطئ، ويدل به على العميق الفكرة، والرَّحْبِ الصدر، والواسع العِلم، والجواد المعطاء من طريق المجاز.

وبسبب من تلك الثنائية (لفظ – معنى) انصرفت معالجة المعنى إلى تقييسه بما يقابل اللفظ في ثنائيات أُخرى، من قبيل: الشكل-المضمون، الجسد – الروح، المادي – المعنويّ، المنطوق – المفهوم، المحسوس – المجرّد، العَرَض – الجوهر… إلى آخر ما هنالك. وانبنت على هذه الثنائيات أفكار أخرى من باب أن كل مادي ملموس زائل، وأن كل معنوي مجرد باق؛ فالطيني متهافت والروحي متأبد لا يزول. وقد ينقاس عليها أيضا أن الألفاظ من باب الدنيوي، والمعاني من باب الأخروي. وهي أفكار قادت إليها تلك الثنائيات لا غير، ولا حقيقة لها خارج الوجود الذهنيّ التّصوّريّ الّذي افترضه القياس.

إنّ وجود اللفظ رهن باكتشاف معنى يقتضيه؛ ليدل عليه، أو اسم يشير إليه في الوجود الموضوعي أو الذهني. وبمثل هذا يمكن تصوّر أن اللغة في حين ما كانت تشتمل على قائمة من الألفاظ قليلة العدد، ثم بدأت تكثر بازدياد حاجة المتكلمين بها للدلالة على معان جديدة اكتشفها أفرادها

بين منطق اللّغة ومنطق العقل

يكادُ القارئ لا يقف عند تصور حقيقيّ للمعنى خارج عمّا افترضته تلك الثنائيات، ولهذا ظل النظر فيه قاصرا على تلك الحدود المفترضة، ولهذا السبب نفسه كان الخلاف عميقا بين تصور أهل اللّغة وتصوُّر أهل المنطق والفلسفة للمعنى، ويمكن للقارئ في المحاورة الشهيرة، الّتي جمعت أبا سعيد السيرافي (إمام أهل زمانه في العربيّة) ومتى بن يونس القنائي مُترجم كتاب أرسطو في الشِّعر، أن يلحظَ عُمق الخلافِ بينهما في تصوُّر المنطقِ: منطقِ النّحاة واللغويّين، ومنطق المناطقة والفلاسفة.

أما زمانُ تلك المناظرة (سنة 320 هـ)، فهو القرن الهجري الرابع الذي مثل انفجارا معرفيًّا في البيئة العربية الإسلامية، ومكانُها (مجلس الوزير ابن الفرات) في بغداد التي حاولت جهدها أن تشتق لنفسها منهجية توفيقية حتى على مستوى النظر اللُّغويّ بين البصريين المتشددين والكُوفيّين المتساهلين. وقد انعقدت بحضور كبار أعلام العصر (الكِنديّ، وقدامة بن جعفر، …) من فلاسفة ومتكلّمين ولغويّين وأهل أدب ونقد وفقه وتفسير.

أما معقدها، فقد تمثل في سؤال السيرافي: "حدثني عن المنطق؛ ما تعني به؟ فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سنن مرضي، وعلى طريقة معروفة". وإجابة متى: "أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه"، ورد السيرافي: "أخطأت؛ لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلّم بالعربيّة؛ وفاسد المعنى من صالحه يُعرف بالعقل إن كنّا نبحث بالعقل"، بما يدل على أنّ المعنى كان في لُبّ المحاورة.

ولعل ذلك كله يفتح الباب مشرعًا على تمثل الفارق بين تصورين انسربا بعد في مؤلفات الفريقين، ومثلا اتجاهين في النظر والتفكير أخذا يتباعَدان مع الزّمن حتى جسد كلاهما مسارا مباينا للآخر في الغاية: هذا مسار من التقليد تحكمه مواضعات اللغة ومنطقها، وذاك مسار من التجديد يحكمه المنطق العقلاني. مسار متكؤه النصوصُ ينظر فيها الناظر، فيشرح أو يفسر أو يعلق أو يحشي أو يختصر أو يستنبط حكما، وآخر مستنده العقل ينظر ويتأمل ويتدبر ويتفكر ويقيس ويقيم وينقد وينتج نصوصًا.

والقارئ لا بد يلحظ، هنا، منزلة المعنى بين هذين المسارين؛ فالناظر في الأول عبد للمعنى المتضمن في النصوص، وهو في الآخر منتج للمعنى في نصوص جديدة. في الأول يتملكه المعنى بما هو فيض اللفظ، وفي الآخر يمتلك المعنى بما يبحث له عن لفظ يضمنه إياه. في المسار الأول يكون المعنى وجبة جاهزة متحققة، ومستقلا موضوعيا، وفي الآخر يُحضَّر المعنى بصِفَتِه اكتشافًا يُسعى إلى تحقيقه… وهكذا يكون النظر في المسار الأول مسارَ عبودية للمعاني، والنظر في المسار الآخر حرية إبداعيّة لمعان لم يكن لها وجود من قبل. المسار الأول استهلاكي، والآخر إنتاجي. الأول غرق في الناجز المتحقق، والثاني إبحار في خضم الممكن. ويمكن للمرء القول بشيء من المجاز: إن نظر المستهلك هُو نظر العبيد، وإن نظر المنتج هو نظر العباد.

العبيد لا يُنتجون المعنى

إن وجود اللفظ رهن باكتشاف معنى يقتضيه؛ ليدل عليه، أو اسم يشير إليه في الوجود الموضوعي أو الذهني. وبمثل هذا يمكن تصوّر أن اللغة في حين ما كانت تشتمل على قائمة من الألفاظ قليلة العدد، ثم بدأت تكثر بازدياد حاجة المتكلمين بها للدلالة على معان جديدة اكتشفها أفرادها، أو أشياء جديدة ظهرت في معاشهم فاحتاجوا إلى الإشارة إليها. وهذا هو المسار الطبيعيّ لتطور اللغة في أبسط صوره. اللفظ يقتضيه المعنى، والاسم يستدعيه المسمى، لا العكس.

أما المسار المناقض، فهو مسار التعلم والتعليم، وذلك حين نستعمل اللفظ نفسه للدلالة على معناه/ مسماه بالتشخيص والرسم والتجسيم والاستحضارِ المباشر ونحوها، كمن يشير إلى جهاز أمام الطفل وينطق: "هذا حاسوب/ كمبيوتر/ حاسب آلي". وثمة فارق شاسع بين المسار المضني الذي اخترع فيه ذلك الجهاز ثم تفكر مخترعوه في تسميته فقالوا: (Computer)، وبين المسار "الترفي" الذي ينشغل فيه عدد من الناس في إيجاد كلمة بديلة عن (Computer) في العربية، فيشرقوا ويغربوا بين: حاسوب، وحاسبٍ آلي، وكُمبيوتر.

وإنّ الوقوف بالمعنى عند حُدود ما يتضمّنه اللّفظ ويدل عليه، يحصر المعاني في اللغة؛ وهو ما يجعل اللغة عالمًا بديلًا عن الوجود الذي نشأت/ أنشئت أصلًا لتكون دالة عليه، أي: إن المعاني التي تتضمنها ألفاظ اللغة ستظل دومًا قاصرة عن أن تكون بديلة عن الأشياء المدلول عليها في الوجود، ولا يمكن أن نقيم علاقة تساو بين اللغة والوجود، فالموجوداتُ أكثر من ألفاظ اللغات كلِّها، هذا فضلًا عن العلاقات التي يمكن أن تقام بينها.

بمثل هذا الفهمِ تظل أي لغة قاصرة عن الوفاء بأسماء الموجودات القائمة والممكنة، وبمثله أيضا تظل اللغة قابلة للنمو والتجدد ما اشتملت على آلياتها الذاتية لإبداع ألفاظ تدل بها على الجديد المكتشف والمخترع والمبتدع، وإلا فإنها ستنحسر بالتّدريج إذا سبقها الواقع وعجزت هي عن مجاراته.

المعنى ليس محصورًا في ألفاظ اللغة، ولا في العلاقات القائمة بين تلك الألفاظ بما تجسِّدُها التّراكيب، وليس ماثلًا حسبُ فيما نسمع أو نقرأ؛ هو فيما نُلاحظ ونَرى، وفيما نكتشفُ ونخترع ونبتدع، وفي الأحلامِ كما هو في المشاهد التمثيلية والرّقص والموسيقى، هو فيما يقال وفيما يسكت عنه، فيما نقرأ مسطورا وفي الخف بين السُّطور، في الإشارة والرمز كما في اللّفظ الصريح، في المخطوط كما في العادات والتقاليد والأزياء والألوان، في طريقة المشي والسعي وركوب الحافلة كما في نظم العلاقات الاجتماعية والهياكل الوظيفية كما في القوانين والتشريعات والدّساتير.

وإقامة اللغة بديلا عن الوجود تحجير للعقل، وتجميد للواقع، وتوقيف لمسار الحياة الذي يتسع ويمتد كل لحظة، هذا مع أن وجودها أساسي للتّعامل مع كل مستجد ليستدخل في الذهن ويبنى عنه تصور ما، ويصبح قابلًا للتّفكّر والتّفكير، أي: يتملك العقل عنه صورة ما يستطيع بها أن يضمه إلى الموجودات الأخرى في (خزانة صُوره – وفق تعبير السكاكي في مفتاح العلوم).

إذا شاء القارئ أن يقفَ عند هذه المسألة، فله أن يتأمل في القولة: إن من يمتلك القدرة على تسمية الأشياء هو الذي يمتلكها، أو يتمكن له أن يمتلكها ذات حين. ويتأمل في القولة المناظرة: إن الذي يمتلك المعنى هو نفسه الذي يمتلك الحق في التّسمية، ويظل غيره تبعا له، يستمد منه، ويتكئ عليه، مع ضرورة ملاحظة أنّ انتقال الأسماء بمسمياتها والأفكار بمفاهيمها، بين الحضارات، قد يتيح لها بيئات جديدة تبدع في التشقيق منها، وإبداع تطويرات على هامشها، ذات أهمية بالغة، بما يكسبُ الحضارة الإنسانية مفهوما كليا أسهمت سائر الأمم في بنائه.

وللقارئ هنا أيضا أن يتأمل اضطرار مجامع اللغة العربية منذ نشأتها حتى اليوم إلى (التعريب)؛ تعريب المصطلحات في سائر العلوم، وأسماء المكتشفات والمخترعات، وما أحاط بهذه الحركة من إشكالات ستبقى حاضرة ما استمرت حالتنا على حالها: لا نصنع، ولا نكتشف، ولا نسهم في العلوم، فنظل نستورد كل شيء، ونستورد معه اسمه أو مصطلحه الدال عليه، فإذا حاولنا إنتاج شيء فرحنا بإيجاد البديل العربي له (Remote Control: حاكوم/ جهاز تحكم) بغض النظر عن نجاعته وسيرورته في الاستعمال.

والتأمل والتدبر والتفكر والنظر كلها يستوعب اللغة ويفيض عنها، يستعملها ولا يتوقف عند حدودها وحدود افتراضاتها، يوظفها ولا يكون موظفا عندها. اللغة أداة من أدوات التأمل والتدبر والتفكر، لكنها ليست الأداة الوحيدة لذلك، وهي في الغاية شرط للتعبير عن نتائج ذلك كله؛ إن أطاقت بما فيها، وإلا أنتج ذلك إضافات إليها من صميمها، أو من سواها بالاقتراض.

في نظام الرق، يفقد العبد معنى وجوده ليصبح السيد بديلًا عنه في كل شؤونه، ويصبح العبد أداة يصرفها السيد كيف شاء متى شاء وأنى شاء. وهذه البدلية قوامها استيلاء السيد على عقل العبد، وحرمان الأخير من استعماله في أي شأن من شؤون وجوده، ولهذا يمتلكه امتلاكا بالأصالة، لا امتلاكا بالنيابة. يصبح العبد في هذه الحال في منزلة الثور، والساقية، والدّلو… بل لعله أقل منزلة منها بما هو مسخر للمحافظة عليها، وصيانتها، وعدم التفريط في استعمالها حتى لو اقتضى ذلك منه أن يضحي بنفسه. ويسمح للعبد باستهلاك ما يراه سيده دون أن يتجاوز الحد المسموح به. العبد تفرض عليه الأشياء بمسمياتها، والعلاقات بأسمائها، أي: تفرض عليه معانيها، ولا يملك حيال ذلك إلا التسليم بما يملى عليه منها.

والبناء على ما تقدم يقضي بأن العبيد لا يمكنهم إنتاج المعنى؛ إذ إنتاج المعنى يقتضي امتلاك الأداة الأساسية لذلك وهي العقل، وامتلاك الحرية لاستعمال هذه الأداة، وارتفاع كل الضوابط والحدود من حواليها لتمارس التفكر والتدبر والتأمل في الذات والوجود أشياء وعلاقات بينها. وللقارئ هنا أن يقيم علاقة استبدالية بين السيد واللغة، وبين العبد والناطق باللغة، ويستنتج بنفسِه النتائج المترتبة على تلك الاستبدالية.

لعل أبسط الأمثلة لمثل هذه العبودية شروع من يؤلف كتابا في التاريخ، فتجده يضع المصادر أمامه ليقتبس ما قاله مؤلفوها، ويجمع هذا في صعيد واحد، دون أن يعمل عقله في المقارنة بين أقوالهم، والبحث فيما وراءها، واستقصاء ما سكتوا عنه، والتأمل في انسجامها من تناقضها، وصدقيتها من كذبها، وانتماءات المؤلفين ومقاصدهم، واستقراء ما كتب الآخر على تعدده عن الموضوع، والخروج بخلاصات لم يسبقه إليها أحد… بين أن تكون عقلا، وأن تكون نقلا، بين أن تكون ناقدا وأن تكون ناقلا… هنا مكمن الداء، ومكمن الدواء أيضا.

للعرب 3 لحظات تنوير على مدار وجودهم؛ أولاها كانت القرآن الكريم بما اشتمل عليه من منظومات إيمانية وقيمية وأخلاقية، وما أسسه في حياتهم من إحساس بالقوة وكسره فيهم من اعتقاد بالفناء بعد الموت، وأخرجهم من جزيرة العرب ليختلطوا بالأمم الأخرى. ثمّ كانت اللحظة الثانية التي بدأت مع عصر التدوين وتأسيس دار الحكمة في بغداد، وبدء حركة الترجمة الواسعة عن الأمم الأخرى.. والأخيرة كانت في عصر النهضة مع البعثات العلمية الّتي أرسلها محمد علي إلى أوروبا.

المعنى والحضارة

ينبئنا التاريخ صراحة أن البناء الحضاري -في أي أمة من الأمم- كان رهين انفتاحها على المعنى، وللتدقيق: انفتاحها على تعددية المعنى فيما تنتجه ذاتيا، وفيما تتماس به مع غيرها من الحضارات، أي: قابليتها العقلية لتعدد الرؤى والتصورات والأنظار، فضلا عن توفير مظلة من الأمان والمشروعية لكل تلك الرؤى والتصورات والأنظار في الوجود والتجاور والتعايش في المجتمع، إضافة إلى رفع القيود والضوابط والحدود التي تحول دون الشروع في التأمل والتدبر والتفكر، ولا يحول دون تحقق ذلك إلا الاستبداد.

يمكن تكثيف هذا كله في قولة بسيطة أساسية: "حرية المعنى؛ توليدا ونظرا ونقدا وإنتاجا وتداولا، مكفولة ومشروعة". وبغير ذلك تجمد أي أمة وتتيبس عروقها، وتجف منابع وجودها، ويتقلص امتدادها في الزمان والمكان، وتصبح مهددة في كل شيء، وتابعة في كل جانب، ومعها فكرها وثقافتها ولغتها وتاريخها ومنظومتها القيمية ومعتقداتها، وقد تظل شكلا أجوف فيه بعض التقاليد والعادات تتمسك بها كأنما هي معنى وجودها تماما، فتكثر فيها المتاحف الخاصة بالتراث، والأزياء التقليدية، وأدوات العيش، والتآليف في التربية الوطنية، وتكتسب بعض الأشياء فيها رمزية عليا بما تحفظُ الشّكل الأجوف المُتداعِي؛ ليصبح الشّكل أقدسَ من المضمون.

والانفتاح على المعنى رهين بالإمساك بلحظة تنويرية تمثل محور النهوض في أمة بلغت مرحلة من التكلس والجمود، وصارت حركتها دورانا في الفراغ؛ تأكل ذاتها وتتآكل بُناها ومنظومتها القيميّة معها، تخبو وتذوب في نرجسية ذاتِها كما لو ابتلعها ثقب دودي. وبما أن اللبّ في العادة يتصلب نتيجة لضغط الركام عليه عبر الزمن، فإن الانفتاح لا يكون إلا في السطح حيث يمكن للتماس أن يولد جيوبا بعضها يلفظ فورًا، وبعضها مشتبه يحاصر حتى ينحسر تأثيره بالتّدريج، وقد يُؤدّي إلى تشوُّهاتٍ في بُنْيَةِ ثقافتِها، وبعضُها لصيقٌ بالمعنى الحقيقيّ لوجودِها، يكتسب بفضلِ التّأمل والتدبر أصالة ليعيد حركة الأمة من جديد إلى طبيعتها، ويمنحها نفسا تُجدد به طاقاتِها، وتنفتح به رؤاها وتصوراتها على آفاقٍ أرحب.

وأسوق هنا، للتمثيل حسب لا غير، ما لعله يصف بعض تلك اللحظات التنويرية في حياة بعض الأمم، من العرب وسواهم:

لحظة التّنوير عند الفرس: وصف كتاب "كليلة ودمنة" تلك اللحظة، وهي التي تنبه فيها كسرى أنوشروان إلى ما تحتاجه مملكة الفرس من التجدد، فحين علم أن في الهند كتابا هُو "أصل كل أدب، ورأس كل علم، والدليل على كل منفعة"، طلب من وزيره "بزرجمِهر" أن يسعى في الحصول عليه، فكانت بعثة "برزوَيْهِ" الأديب العاقل، العارف بالفارسيّة ولسان أهل الهند، الحريص على الحكمة، ليحصل على ذلك الكتاب، ومعه ما يستطيعُ الحصول عليه من كُتب أهل الهِند وعلومهم.

حين عاد برْزَوَيْهِ ومَعَهُ أحمال من تلك الكتب، صارت له منزلة عظيمة في بلاده، وكانت تلك الكتب مصادر أساسية انفتحت عليها الحضارة الفارسية، وصارت جزءًا من علومها وتأسّست عليها حركتها في العلم والحكمة والعمران. لحظة التّنوير عند يونان: تحدّثنا أسطورة البحث عن "أوروبا"، الابنة المفقودة، ومسير إخوتها في البحث عنها، أنّ أمة يونان كانت أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، وأن لغتها كانت لغة مشافهة، ولم يكُن لها أن تعرفَ الكتابة إلا حين علمها قدموس (القادم/ القديم) الأبجديّة الّتي حملها من فينيقيا (بلاد الفينيقيين)، ومع الأبجديّة كانت الهندسة والحكمة وسائر العلوم، وتمكّنت اليونان من مراكمة ما لديها بالتّدوين، وتطويره حتّى بلغت الحضارة الإغريقيّة أوجَها. لحظة التّنوير في أوروبا: كانت ظلامية العصور الوسطى في أوروبا قاهرةً لكلّ محاولة للنّهوض والتّنوير، وقد اجتمعت عناصر عديدة أثَّرت في جُمود حركة الفكر والعلوم، حتّى كانت الثّورة على سلطة الكنيسة، وكانت ترجمة مسكويه، والخوارزمي، وخاصة ابن رشد من عوامل التّنوير الفاعلة في النّهضة الأوروبية، وقد دلَّت جهود محمّد فؤاد سزكين رحمه الله على كثير من مفاصل التّأثُّر العلميّ الأوروبي بما أنتجه العرب والمسلمون من علوم، واخترعوه من آلاتٍ.

لحظة التنوير العربيّة: للعرب 3 لحظات تنوير على مدار وجودهم؛ أولاها كانت القرآن الكريم بما اشتمل عليه من منظومات إيمانية وقيمية وأخلاقية، وما أسسه في حياتهم من إحساس بالقوة وكسره فيهم من اعتقاد بالفناء بعد الموت، وأخرجهم من جزيرة العرب ليختلطوا بالأمم الأخرى. ثمّ كانت اللحظة الثانية التي بدأت مع عصر التدوين وتأسيس دار الحكمة في بغداد، وبدء حركة الترجمة الواسعة عن الأمم الأخرى.. والأخيرة كانت في عصر النهضة مع البعثات العلمية الّتي أرسلها محمد علي إلى أوروبا.

امتدت اللحظة الأولى في الفكر والثقافة والوجدان إلى اليوم، لكن الحركة التي أثارتها ذات حين من الزمن أخذت في الضّعف الذي آل إلى ما يشبه الجمود، وضمرت آثار اللحظة الثانية في جسد الدولة مع امتدادها على استحياء في بعض العلوم كالفلك والطب، ووئدت اللحظة الثالثة مع منتصف القرن العشرين تقريبا بظهور الإسلام السياسي.

ويمكن لمتتبع الحركة العلمية في الصين الحديثة أن ينظر في حجم البعثات التعليمية الّتي أرسلتها إلى أوروبا والولايات المتحدة، ويمكن النظر في حركة مماثلة كانت لدى اليابان ذات حين من التّخلف حين أجمعت العائلات الخمس الكبرى فيها مع نهاية حكم الساموراي وبدء إدارة مييجي (1868- 1912م، وهو عصر الحكم المستنير)، بالاتفاق مع الإمبراطور، على إرسال بعثات تعليمية مشابهة، حتى إن بعثة منها حلَّت في مصر لدراسة أسباب تقدّمها يوما ما على اليابان.. وهكذا كان الأمر في الأندلس حين أراد الأمويون بناء حضارة تضاهي حضارة بغداد، فاستقدموا أبا عليّ القالي ومع أحمال من الكُتب، ومكّنوه من صحن المسجد الجامع بقرطبة ليُملي دُروسَه..

كل لحظة تنويرية من تلك اللحظات مثلت خروجًا من ثنائية الأنا-الآخر، وثنائية الشكل-المضمون، والمادي-المعنوي، فما هو مادي في هذه الحضارة يمكن أن يكون معنويا في تلك، وبمجرد اتّصال الذات بالآخر وتقبلها حكمته وتأثرها بعلومه، يصبح الآخر في هذه الجوانب جزءا من الذات. وتبعا لذلك تكونت معان جديدة، انضافت إلى الماثل ذاتيا، وحاورته واشتبكت مع القار عميقا، حتى تكشف لكل أمة منها معنى جديد للوجود، ورؤية جديدة للذات والآخر، وتصور جديد للكون والحياة. تداخلت الثقافات والأفكار والمفاهيم والتصورات، وغنيت البيئة الجامدة بما يعيد إليها الحركة. خرجت أجيال جديدة في ظل ذلك الحوار والتداخل، وبدأت تمارس نقدا عقلانيا واعيا للذات ومفاهيمها وتصوراتها، وكانت نتائج ذلك كله بنيانا حضاريا جديدا، لا ينبت من أصله، ولكنه لا يقف عند حدوده وافتراضاته وضوابطه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.