نحو عقد اقتصادي اجتماعي جديد

فترات الركود لا تدوم إلى الأبد بل تستمر في المتوسط لفترة 11 شهرا
سيطرة الشركات العابرة للقوميات وأباطرة السوق على القرار السياسي تمثل اعتداء متوحشًا على الديمقراطية والكرامة الإنسانية (شترستوك)

الإعصار الاقتصادي الذي يضرب العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه يجعلنا نعيد النظر في النظريات الاقتصادية التي سيطرت على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة؛ إذ ظهر قصورها في تحقيق الرفاهية المزعومة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، الذي كان نظريًا سيؤدي إلى إعادة تخصيص الموارد الطائلة التي كانت تنفق على سباق التسلح إلى التعليم والصحة وبرامج الرعاية الاجتماعية، ولكن مع سيادة الولايات المتحدة وانتهاج سياسة القطب الواحد لم يتغير الوضع، بل ازداد سوءًا.

في تلك الفترة، سادت تنظيرات فرانسيس فوكو ياما عن نهاية التاريخ وسيادة النيوليبرالية، وترويج أكاديميين ومفكرين مثل ميلتون فريدمان -مستشار الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان- ودكتاتور تشيلي الجنرال أوجستو بينوشيه -كبير مفكري الليبرالية الحديثة وتلاميذه أتباع مدرسة شيكاغو- وكذلك فريدريك فون هايم مستشار مارجريت تاتشر لليبرالية الحديثة، وانتشار كتابات صحفية عديدة -منها كتابات توماس فريدمان في نيويورك تايمز- عن فوائد وثمار العولمة ووجوب سيطرة الشركات العابرة للقوميات وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد وتقليل الإنفاق الحكومي حتى نصل إلى درجة عالية من النمو الذي ستتساقط ثماره على الجميع، كل هذه الكتابات والتنظيرات والوعود أثبتت عدم صحتها؛ فثمار هذا النمو سقطت بالفعل في جيوب أباطرة المال والأعمال وكبار المديرين التنفيذيين في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وفي جيوب الفاسدين من السياسيين وأصحاب السلطة والجنرالات في الدول الفقيرة وليس في مصلحة الفقراء والمهمشين وأبناء الطبقة الوسطى.

أزمات وراء أزمات

خلال أقل من 15 عامًا، ضربت العالم عدة أزمات اقتصادية، بدأت بكارثة الرهن العقاري في الولايات المتحدة التي دفع ثمنها دافعو الضرائب الأميركيون البسطاء والعديد من أبناء الطبقة الوسطى في معظم دول العالم، سواء الدول المتقدمة أو الدول النامية والآخذة في النمو. رغم أن هذه الأزمة بدأت واستمرت واستفحلت نتيجة جشع البنوك الاستثمارية وصناديق التحوط وكبرى الشركات المالية في وول ستريت، وفشل شركات التصنيف الائتماني في تحديد المخاطر المرتبطة بهذه الرهون، وكذلك وجود شبهات فساد في عمل هذه الشركات؛ مما دفع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إلى التهديد بمقاضاتهم.

هذه الأزمة عصفت بمدخرات البسطاء في العديد من الدول وبمعاشات التقاعد، بل وبمقدرات دول مثل آيسلندا، ثم تم ضخ تريليونات الدولارات من حزم الإنقاذ (من جيوب الفقراء) حتى يتم تجاوز هذه الأزمة. ثم ظهرت أزمة جائحة كوفيد-19 في نهاية 2019، والإغلاقات التي تلتها خلال 2020، ثم الحرب الروسية الأوكرانية نهاية فبراير/شباط 2022.

إن أزمتي كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية أفرزتا مشاكل كبيرة في سلاسل الإمداد والتوريد والغذاء والحبوب والمستلزمات الطبية ومعدات الوقاية وأجهزة التنفس والسلع الأساسية؛ مما أدى إلى وقوع مئات الملايين في براثن الفقر وفقدان مئات الألوف أرواحهم، وكذلك فقدان عشرات الملايين وظائفهم. هذه الأزمات والكوارث أظهرت هشاشة النظم الاقتصادية وتردي نظم الرعاية الصحية نتيجة خفض موازنات الرعاية الصحية في كثير من دول العالم طبقا لتوصيات منظري العولمة، ومحاولة القضاء على دولة الرفاه في معظم دول العالم.

هذه الأزمات أظهرت عجز النيوليبرالية في بناء اقتصادات مستدامة، وأظهرت عبثية التخصص في الإنتاج والاعتماد على الدول الأخرى في إنتاج السلع الأساسية. فقد أفاد أحدث تقارير الأمم المتحدة (أبريل/نيسان 2022) طبقا لما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن أكثر من خُمس سكان الكوكب (1.7 مليار شخص) فقراء ومعوزون، وكثير منهم يعانون من الجوع.

وطبقا لتصريحات رئيسة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ريبيكا جرينسبان فإن هناك 69 دولة معرضة بشدة لأزمات حادة في الغذاء والطاقة والتمويل مجتمعين جراء أزمتي كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية.

ثاني أسوأ الرؤساء التنفيذيين في الولايات المتحدة حصل في الفترة بين 1998 و2000 -طبقا "لبيزنس ويك"- في عام واحد على 699 مليون دولار، بينما أكثر من 50 مليون أميركي ليس لديهم تأمين طبي إلا "أوباما كير"

إنه عالم متوحش

حينما يتحول العالم إلى دولة كبيرة تسودها اللامساواة، وتسكن نخب ثرية أحياء مقفلة عليهم والسواد الأعظم من السكان يعانون من التهميش والبطالة، وتزداد معدلات الفقر بشكل غير مسبوق؛ فإن هذا ينذر بمشاكل اجتماعية اقتصادية أمنية خطيرة.

العالم في حاجة ماسة الآن إلى إعادة تعريف معايير الرفاهية والتقدم الاقتصادي؛ هل هو فقط زيادة الإنتاج ثم زيادة الإنتاج بغض النظر عن احتياج كل قطاع من قطاعات هذا الاقتصاد؟ وماذا عن معدلات التشغيل وتنويع الاقتصاد وهيكلية الضرائب العادلة؟ وهل استقلال القرار الوطني وتحقيق الأمن القومي بمفهومه الإنساني قبل السياسي والعسكري تم أخذه في الحسبان؟

إن سيطرة الشركات العابرة للقوميات وأباطرة السوق على القرار السياسي واختفاء دولة الرفاه تمثل اعتداء متوحشًا على الديمقراطية والكرامة الإنسانية والرفاهية؛ فالنموذج النيوليبرالي يتحالف مع كل صنوف الدكتاتوريات الملكية والعسكرية، ويعادي فكرة العدالة الاجتماعية رغم أنها صمام الأمان الأهم للأمن والسلم الدوليين والضمانة الحقيقية لمقاومة التيارات الراديكالية والهجرة غير النظامية.

تاريخ غير مشرف للنيوليبرالية

التاريخ غير المشرف لليبرالية المتوحشة في دعم الدكتاتورية ومعاداة الديمقراطية تمثل -على سبيل المثال- في دعم العديد من الانقلابات العسكرية؛ منها الانقلاب على محمد مصدق في إيران 1953، وانقلاب بينوشيه على سلفادور الليندي في تشيلي 1973، وانقلاب خورخي فيدالا في الأرجنتين 1976، وانقلاب الجنرال كنعان إيفرين في تركيا 1980، وانقلاب مصر 2013.

هذه الانقلابات تمت حتى تظل الثروة/السلطة في يد من يتماشى مع النيوليبرالية وضد الإرادات الوطنية التي تتبنى نماذج تنموية مغايرة تحاول فقط تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء والسلاح؛ مما يكفل لهذه الدول حدا أدنى من الاستقلال والكرامة الوطنية.

اللامعقول من الغرب إلى الشرق

حينما نقارن بين ما حصل عليه ثاني أسوأ الرؤساء التنفيذيين في الولايات المتحدة في الفترة بين 1998 و2000 طبقا "لبيزنس ويك" سنجد أن الرئيس التنفيذي "لديزني" مايكل إيزنير جمع في عام واحد 699 مليون دولار، في وقت نجد فيه أن أكثر من 50 مليون أميركي ليس لديهم تأمين طبي إلا "أوباما كير" (التي تغطي بالكاد الحد الأدنى من الرعاية الطبية) التي حاول دونالد ترامب (أحد أشد المقتنعين بمدرسة شيكاغو، وواحد من أكبر معارضي التوسع في الإنفاق الحكومي على الخدمات المجانية للمواطنين) إلغاءها بكل الطرق، ونجد أننا أمام اللامعقول بعينه في أغنى دول العالم، حيث يبلغ متوسط ما يحصل عليه معظم الرؤساء التنفيذين نحو 500 ضعف ما يحصل عليه مرؤوسيه في معظم كبريات الشركات هناك.

ومن الولايات المتحدة إلى مصر (كبرى دول الربيع العربي، التي يعد أكثر من 60% من سكانها فقراء طبقا للبنك الدولي) نجد بها العديد من القصور الرئاسية المليارية وكذلك عاصمة جديدة -غير ذات الجدوى اقتصادية- تتجاوز كلفتها 58 مليار دولار مع ديون تتجاوز 450 مليار دولار وأكثر من 30 مليون مصري تحت خط الفقر، وللأسف أكثر من 7 ملايين مصري لا يجدون ما يأكلون ويعانون من الفقر المدقع؛ فهذا هو اللامعقول في أسوأ صوره.

نحو عقد جديد

العالم من شرقه إلى غربه في حاجة لعقد اقتصادي-اجتماعي جديد، تتقشف فيه الحكومات ويرفه فيه المواطن (ويزداد الاستثمار في رأس المال البشري من رعاية صحية وتعليم وبحث علمي)، وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية. فقد آن الأوان لكي يعيد العالم النظر في النظريات الاقتصادية السائدة التي تتبنى أفكار آدم سميث وميلتون فريدمان، وتبني الديمقراطية الاجتماعية وأفكار جون ماينرد كينز التي أنقذت العالم من عثراته الاقتصادية بعد أزمتي الكساد الكبير 1929 والرهون العقارية 2008.

فقد أثبتت النظرية الكينزية والديمقراطية الاجتماعية -من خلال نجاحها في معالجة الأزمتين السابقتين- أنها من أنجح النظم الاقتصادية الاجتماعية التي تضع المواطن في قمة الأولويات ومكافحة البطالة والإنفاق الحكومي الرشيد الذي يقود قاطرة التنمية قبل مصلحة الشركات الكبرى العابرة للقوميات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.