الموصل وأخواتها.. اختفاء الحواضر العربية

الموصل شهدت دمارا كبيرا بسبب المعارك العنيفة التي استمرت نحو 9 أشهر (رويترز)

يشكل اختفاء الحواضر أحد أكبر التحديات التي تواجه العالم اليوم؛ فبعد أن رفدت الاستقرار الإقليمي والعالمي وأثرت العلوم والفنون وكانت مقصدا للباحثين عن الأمان لقرون طويلة، تتحول اليوم إلى مصدر لعدم الاستقرار وللهجرات الجماعية التي تحدث اختلالات اجتماعية في البلد الأصلي وفي المهجر.

خرائط سكانية جديدة

تعيش الحواضر العربية التي دمرتها الحروب تدهورا أمنيا ينذر بالخطر، ويقدم سكانها الأصليون على بيع منازلهم والهجرة إلى تركيا أو دول أوروبا، تاركين وراءهم فراغًا سكانيًّا تملؤه وبشكل منظم كتل بشرية قادمة من خارج المنطقة، بل من خارج ثقافتها، وهو الأخطر؛ والنتيجة هي ظهور خرائط سكانية جديدة وتجمعات سكانية غير متماسكة اجتماعيا وغير منسجمة ثقافيًّا، وهو ما تحتاجه التيارات المتطرفة للانتشار.

يبلغ تعداد سكان منطقة الجزيرة الفراتية ما يقارب الـ 15 مليون (مواقع التواصل الاجتماعي)

يعيشون وضع انهيار للمجتمع، بعد أن كان التعدد الديني والعرقي والثقافي سمة لمجتمعاتها منذ مئات السنين، وأصبحت الثقافة الأحادية سمتها اليوم، ولن يمضي زمن طويل في عصر السرعة قبل أن تصل الفوضى الاجتماعية إلى باقي المنطقة، وإلى أهم دولها المتبقية (تركيا) وتليها أوروبا.

 

ذهاب الدولة

تحدث هذه الظاهرة تحت التأثير المزدوج لصعود المليشيات وتراجع الدولة؛ فالاحتلال الأميركي والنفوذ الإقليمي الإيراني المصاحب عام 2003؛ دشنا عصرًا جديدًا في الشرق الأوسط مكّن للمليشيات (قوى شعبوية من غير المتعلمين) أن تأخذ مكان الدولة، وفي الوقت ذاته مكّن لوجود مليشيات معاكسة (داعش)، وتسببت حروب الكر والفر بينهما في طحن الحواضر؛ لتُحسم لصالح مليشيات تشكل عمليًا جزءًا عضويًّا في الحكومة وفي ميزانيتها (الحشد الشعبي)، والنتيجة أن الحواضر فقدت حس الانتماء لدولة غير موجودة، وتراجع حس المواطنة أمام المد الطائفي الرسمي، وأصبحت الأجيال الشابة ضحية للفراغ الثقافي الوطني والغزو الفكري.

صراع مفتوح

الصراع بين النظام الحضري والمليشيات (أو بين الدولة وقوى اللادولة) ليست فيه هدنة أو وقف إطلاق النار أو حدود جغرافية، ويزحف كالصدأ إلى أقصى نقطة ممكنة، ولا خيار للمجتمع فيه إلا الانتصار أو الزوال، لكن الدولة التي تحمي النظام الحضري في الظروف الاعتيادية غير موجودة اليوم، وهذا يقلب المعادلة ويصبح تعويض دور الدولة (بحماية إقليمية أو تدويل) مسؤولية المجتمع، وهو جوهر الصراع ومن دونه تتحول مجتمعات المنطقة إلى كتل بشرية تتبع قوى خارجية (فارس والروم)؛ وبذلك يكون سقوط الدولة وتدمير الحواضر الحدث المعاكس للفتح العربي الإسلامي الذي أسس الدولة وأنشأ الحواضر.

دور الحواضر في الهندسة الاجتماعية الإقليمية

الحواضر ليست مدنًا فحسب؛ بل هي مراكز اجتماعية وثقافية واقتصادية يمتد نفوذها خارج حدودها الإدارية ولا يقف عند الحدود السياسية، وتمثل هذه الخاصية عاملا حيويا شديد الأهمية في المنطقة العربية، حيث تتأثر البلدات الصغيرة والمناطق الريفية (التي تشكل المساحة العظمى) بالمناخ الثقافي والفكري للحواضر القليلة نسبيا، فتوفر الحاضرة غطاء ثقافيًّا واجتماعيًّا "سجاديا" لكامل المنطقة.

عملت هذه الخاصية في أعقاب سقوط دول المنطقة -كالعراق وسوريا- وتدمير حواضرها لنزوح كبير صوب الحواضر المتعافية في الشمال (تركيا)، وهي شديدة الشبه الاجتماعي بالحواضر الجنوبية العربية المدمرة، وأوجدت الحواضر المدمرة والمتعافية معًا مجتمعًا جديدًا قادرًا على الصمود لم يخل من العثرات.

بهذه الخاصية نفسها، وضعت الموصل وحلب طابعيهما الاجتماعي والثقافي المشترك عبر القرون كعاصمتين لدول إقليمية على رقعة واسعة صمدت في وجه الأعاصير الفكرية والعسكرية، وقلبت المعادلات الدولية كما في الحروب الصليبية.

الحاضرة مرساة ثقافية واجتماعية تمسك محيطها كما تفعل المرساة البحرية للسفينة لتمنعها من الانفلات في عرض البحر، ولم يتبق اليوم على الرقعة الممتدة ما بين شواطئ المتوسط والحدود الشرقية للعراق من الحواضر غير المدمرة ما يكفي لحماية المحيط؛ فانكشف وتحول إلى أهداف ثقافية رخوة للتنظيمات المتطرفة وقواعد ما لبثت أن سيطرت على الحواضر كما حدث في الموصل وحلب وحمص وغيرها.

إعادة بناء الحواضر

إعادة بناء الحواضر التي طحنتها الحروب ذات النزعة الفكرية أكبر من إعادة حجارتها إلى مواضعها الأصلية، هي عملية يشترك فيها الخبراء من كافة المجالات التي أعطبها الدمار:

  • المجتمع: وتخليصه من أمراء الحروب
  • الاقتصاد: وتطهيره من المافيات
  • الثقافة: وإعادة كتابة المناهج الدراسية
  • التراث: بربط إعادة بناء المدينة القديمة بالهوية
  • الثقة الجمعية: بإعادة التأهيل النفسي
  • الهندسة العمرانية: التي تتوج ذلك كله، لتتمكن الحاضرة من الإقلاع بعيدًا عن المطبات الهوائية ومزاولة مهمتها التي هي: تنشئة الأجيال والحفاظ على طراز الحياة، وهي مهمة لصيقة بمكان الحاضرة لا تتغير حتى وإن سويت بالأرض؛ فالحاضرة المدمرة كالأرض الهامدة اليابسة التي إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، لأن المعادن محفوظة في تربتها، وتربة الحواضر هي مقوماتها الاجتماعية التي تنهض منها كالعنقاء بإذن ربها وتعود إليها فرص التاريخ ويتخذها القادة العظام عواصم لدولهم، وهو ما تُحرم منه الموصل اليوم فتكون مدينة تنبع فيها "المولات" والمتنزهات كالفطريات وتنخر المليشيات في كل مرفق من مرافقها الحيوية.

الموصل عاصمة إقليمية وإحدى أهم حواضر الشرق الأوسط، وتشكل عودتها كحاضرة مكتملة الأدوار ترياقا للتطرف، ولقاحا للأوبئة الفكرية المستقبلية، وضمانا للاستقرار الاجتماعي، وصمامًا للأمن الإقليمي والعالمي، وقضيتها عالمية فلا نجعلها محلية، ولن تأمن حواضر الغرب قبل أن تتعافى حواضر الشرق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.