البطل الحقيقي يلهو بعيدا.. وسائل التواصل وتآكل الهوية الفردية

من أعداء الهوية زرع الجوع النفسي داخل العقل بالبحث دوما عن إعجاب الناس وجعله الوقود الذي يرضيه عن ذاته (الأوروبية)

هناك من لا يستطيع اللهو إلا وهو في قطيع.. البطل الحقيقي يلهو بعيدا. هذا ما قاله بودلير.

وقال أيضا "لا تحتقروا حساسية أحد؛ حساسية كل منا هي عبقريته. إبداع القالب هو العبقرية؛ يجب أن أبدع قالبا". فلنحرص على قالبنا الخاص ولا نذيب أنفسنا في القوالب الرائجة على وسائل التواصل.

تنازل كثيرون من الجنسين وبكل الأعمار عما يميزهم: من آراء وتصرفات وذابوا بما أسموه اندماج مع الغير عبر وسائل التواصل؛ فتشابهوا معهم طلبًا للقبول والانتشار والإعجاب وسيرًا وراء القطيع.

ندعو للتحرر من سلطان وسائل التواصل واحتضان حرية الذات، ونتفق مع الطرح البديع الذي قدمه وليم جيمس للهوية؛ فقال إنها مجموع كلي لما يمكن أن ينسبه الفرد لنفسه. ولا نتكلم بالطبع عمن يؤمنون "بخالف تعرف"؛ فهذه مراهقة فكرية لن نتوقف عندها.

تعني الهوية الذاتية أن نكون كما نفكر وننسجم مع أنفسنا ونحترم تميزنا وتفردنا الإنساني؛ فكما تختلف بصمات الأصابع فلكل منا الحق في هويته الخاصة الناتجة عن عقله وتطورات تفكيره والتجارب التي خاضها سلبا وإيجابا، ومن واجبه على نفسه ألا يسمح بأن تشاركه بعمره هوية غير هويته التي يقتنع بها ويحترمها ويحبها ولا يخون نفسه؛ ودوما أبشع الخيانة هي خيانة النفس.

عبد الوهاب المسيري: "الهوية حلبة الصراع الحقيقية بيننا وبين العدو"

لا تتكون الهوية عبر سنوات ثم يصيبها الجماد كما يعتقد البعض؛ فهي تتسم بالحيوية والمراجعة و"الفلترة" من آن لآخر، وبالتفرد والخصوصية والتخلص من شوائب الآخرين التي يحاولون إلقاءها علينا في الواقع وتكثر في وسائل التواصل؛ حيث الإلحاح وتواجد المريدين "والدراويش" المروجين لأفكار من يتابعونهم، والتعامل معهم بتقديس، والتسرع في الدفاع عنهم ولو قالوا عكس معتقداتهم؛ ويسارعون إلى التخلص من هوياتهم وارتداء ما يلقيه عليهم هؤلاء من هويات بالية كالخرق المهترئة، ويرددون أقوالهم كالمجاذيب "ويردمون" بأيديهم هوياتهم الخاصة تحتها، ويفقدون فرصهم التي يستحقونها كبشر في تنفس احترام الهوية "والسماح" بنموها طوال العمر.

الهوية هي ما يميزنا ونختاره ونقرر احتضانه ونسعد أنه يشكل جزءا حيويا من أعمارنا؛ فكيف نتنازل عنها؟ ومن يقررون التنازل عنها ماذا يجنون في المقابل؟ أم أنه الكسل العقلي وتراجع الثقة في النفس والرغبة في رؤية ذواتنا في مرآة الآخرين؟ كأننا دولًا صغيرة تعيش على فتات الدول العظمى!

الهوية كالبيت الخاص نرفض السماح بالإقامة فيه لمن سينازعنا ملكيته، ويتحول ولو بعد حين للسيد المتحكم بنا، فلنحافظ على تفرد هويتنا عند التفاعل عبر وسائل التواصل، ولا نجامل ولا نهادن ونقبل أو نروج ما يخالف هذه الهوية، وأن يكون الإنسان نفسه بعيدا عن "اللايكات" وبلا اهتمام بعدد المتابعين.

نأتي للحياة وحدنا وسنغادرها وحدنا ومن حقنا ومن واجبنا نحو أنفسنا احترام هويتنا الخاصة التي نشكلها وفقا لرؤيتنا الخاصة؛ فلا نكون كمن ينظر للحياة بعيون غيره، وهو ما يحدث عبر وسائل التواصل؛ فيسمح البعض بتآكل هوياتهم بدعوى الانفتاح على الجديد.

كريستينا نجار (30 عامًا) مقدمة محتوى على منصة تيك توك (مواقع التواصل الاجتماعي)

تتآكل الهوية عند البحث عن الإعجاب والتفتيش عمن يناله، وتقليده في أسلوب الكلام والمظهر والتصرفات، وتدريجيا يتحول لصورة مقلدة، لكن الأصلي يفوز دوما ويلهث المقلد باستمرار وراءه؛ فالتقليد كالرمال المتحركة يضعف من يقترب منه ويبتلعه ولو لاحقا، والأسوأ جعله يشعر بعدم الجدارة وعدم استحقاق هوية خاصة.

يُعرف الفرد بأنه كائن مستقل لا يقبل التجزئة؛ فكيف يسمح بتجزئة هويته وبعثرتها ولملمة أشلائها عبر ما تلقيه في وجهه وسائل التواصل من أساليب حياة وأفكار تختلف مع ما يتوق إليه في أعماقه كنسخة لا تتكرر من غيره!

قال دوستويفسكي "إذا كنت تريد حقًا معرفة شخص ما فشاهد كيف يضحك". ونضيف: وكيف يتفاعل مع وسائل التواصل؛ هل يتعرى نفسيًا واجتماعيًا ليزيد المتابعين؟ هل ينشر ما يتعارض مع معتقداته التي يمارسها في الواقع؟ هل يبدو حريصا على أن يبدو ذكيا وفذا وبالغ الثقافة وشديد المعرفة ويتعامل بعصبية مع من يعارضونه؟، هل يتأله على الآخرين ويعاملهم بصلف؟ هل يفتش بضراوة عن الإعجاب ويهدد كل فترة أصدقاءه بالحذف من صفحته إذا لم يتفاعلوا مع منشوراته؟

هل يبالغ في مدح نفسه ونشر صوره الخاصة؟ هل يسرف في ذكر الأماكن التي يتنزه بها؟ أم ينسب منشورات الآخرين لنفسه، ويدمن التصوير بلقطات غريبة لجذب الانتباه بلا تفكير في ما يناسب الشخصية والعمر والوضع الاجتماعي، وينشر الصور بإفراط كأنها تعزيز لوجوده؟ ومن ثم يتسبب في تآكل الهوية الذاتية، ونقول تآكل وليس ضياعها؛ فالتآكل يحدث ببطء وبلا وعي ويتنبه من يضيع منه أي شيء.

من أعداء الهوية الذاتية زرع الجوع النفسي داخل العقل والقلب؛ بالبحث دوما عن إعجاب الناس وجعله الوقود الذي يرضيه عن ذاته، بدلا أن يكون رضاه مرتبطا بإنجازاته وبتصالحه الذكي والإيجابي مع نفسه برفض فعل ما يتنافى مع تفرده الإنساني، مهما كانت الإغراءات والإغواءات وما أكثرها في وسائل التواصل! ولسنا مضطرين للانحناء أمامها، ومن يخضع لها فإنما يختار هذا بملء إرادته.

يقول عبد الوهاب المسيري "الهوية هي حلبة الصراع الحقيقية بيننا وبين العدو". ونضيف: عدو الذات كل ما يتعارض مع ما نؤمن ونعتقد ونثق أنه يخصم منا ومن أنفسنا التقدير والاحترام للذات.

يُعرف الفرد بأنه كائن مستقل لا يقبل التجزئة؛ فكيف يسمح بتجزئة هويته وبعثرتها ولملمة أشلائها عبر ما تلقيه في وجهه وسائل التواصل من أساليب حياة وأفكار تختلف مع ما يتوق إليه في أعماقه كنسخة لا تتكرر من غيره؟!

والفرد في الفلسفة واحد أمام التعددية؛ فلماذا يلغي بيديه تفرده؟ هل يستحق ما يحصل عليه من اهتمام زائف عبر وسائل التواصل بترديده وبنشره من كلام وصور شخصية وتعرية أحيانا لحياته الخاصة؟ هل يعوضه ذلك عن خسائر فقدانه تميزه؟ ولا يهم هنا إن كان قليلًا أم كثيرًا، ولا يعني التميز الإبداع أو العبقرية بل تفاصيله البسيطة التي تسعده وتخبره أنه ليس شيئا معروضًا للبيع؛ ولا يهتم بنيل إعجاب أحد غيره ويستمتع بمذاقه وعبيره المتفرد الذي تنتعش به روحه وتنقذه من الذوبان مع الآخرين؛ حتى لا تتلاشى خطوطه الخاصة ولو بعد حين، التي تمده بطاقات ناعمة وقوية في الوقت نفسه على تجاوز الصعوبات التي توجد بكل حياة في الكون وفي كل زمان ومكان بنفس راضية وبروح لا يمكن أن يقترب منها الانكسار وباعتزاز كله عذوبة بأنه ذات لن تتكرر، ولا يتعارض مع عيوبه؛ فهو بشر والبشر لا يكتمل أبدا وإن سعى دوما برفق بالنفس وبتدرج وبحب ذكي لذاته لتقليص نقائصه لأنه يستحق الأفضل.

للنبيل تشيخوف موقف راق مثله؛ فقد التقى بعض سيدات المجتمع الراقي فتنافسن بمعاناة شديدة للتحدث في السياسة والثقافة، وكان واضحًا شعورهن بالرغبة في جذب انتباهه وأنهن لسن أقل منه؛ فاستمع قليلًا ثم بدأ يسألهن عن أمور عادية جدا؛ فارتحن وكانت الجلسة لطيفة للجميع.

ونؤيد قول كارل يونغ: ستكون رؤيتك واضحة فقط عندما يمكنك النظر إلى قلبك؛ من ينظر للخارج يحلم، من ينظر للداخل يستيقظ.

ولا نجد أقوى وأصدق وأكثر دعوة للاستفاقة واحتضان الهوية الذاتية في الواقع وعبر وسائل التواصل من القول البديع لفيكتور هوجو "هناك لحظات تكون فيها النفس جاثية على ركبتيها مهما كان وضع الجسد"؛ فلنحرص على أن تكون رؤوسنا مرفوعة دوما أمام أنفسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.