المستقبل السياسي في السودان والخيارات الممكنة

Sudanese general blames politicians for military coups in Sudan
جنرال سوداني يلوم السياسيين على الانقلابات العسكرية في السودان (الجزيرة)

على أقل تقدير، إن آخر ما تحتاجه البلاد هو هذا العراك الأحمق والهرولة العمياء نحو الخيارات العدمية.

️ليس من الممكن، بل ومن المستحيل، استدعاء خيار الانقلاب العسكري لحسم خيارات المستقبل السياسي في السودان، فلقد مرت 3 نُظم انقلابية وعشرات المحاولات للانقلاب على السلطة وكان حصادها ضعف الدولة وتكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد، هذا قبل أن يكون في السودان أكثر من 8 جيوش لا تجمع بينها هيئة قيادة مشتركة، ولا يحكمها قانون أو عقيدة قتالية موحدة، وبالطبع ليست لديها قيادة موحدة. فمجرد التفكير في انقلاب عسكري هو جهل بالواقع ومغامرة حالمة لن تنجح مطلقا في بلد أنجز أعظم ثورة قبل أقل من 30 شهرًا ليكتب نهاية لهذا الخيار الأحمق وغير المسؤول.

لا يمكن، بل ومن المستحيل، إجراء انتخابات مبكرة في البلاد قبل تنفيذ بند الترتيبات الأمنية وهيكلة وبناء المنظومة الأمنية، وإكمال ملف السلام مع من لم يكتمل معهم الحوار، ومن دون كتابة دستور دائم متفق عليه، وتمكين النازحين واللاجئين من العودة إلى مناطقهم الأصلية وغيرها.

ليس من الممكن الانقلاب على الشراكة السياسية القائمة، فالصيغة السياسية التي أفرزتها تداعيات الاتفاق السياسي لم تكن مقبولة للغالبية العظمى من السودانيين الذين صنعوا الثورة، ولم تكن محل إعجاب لمعظم من هم على رأس هذه الحكومة نفسها، وأنا واحد منهم. ظروف سياسية معلومة اقتضتها هذه الشراكة أدت إلى قبول معظم من اعترض عليها ابتداء، لذا يجب أن تستمر وتُحترم لتنتهي إلى غايات متفق عليها من دون ردة من أي طرف من أطرافها. التراجع عن الصيغة السياسية القائمة سيولد مناخا سياسيا يستحيل معه تحقيق الاستقرار، وأقل سيناريو متوقع هو مواجهات داخلية وخارجية عالية الكُلفة سوف تورث هذه البلاد هشاشة على هشاشتها القائمة، ومواجهات مفتوحة ونيران لن ينجو منها -أو يتحكم فيها- أحد حتى من أشعلها.

الوثيقة الدستورية هي المترجم القانوني للاتفاق السياسي، وهي القانون الأعلى الذي يحكم البلاد إلى جانب "اتفاقية جوبا للسلام" التي تم إدراجها أصلًا في الدستور، والتي لم تغير كثيرًا في الميثاق السياسي والاستحقاقات الدستورية المرتبطة به، بما في ذلك انتقال رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين -وفق ما هو منصوص عليه- قبل وبعد إدماج اتفاقية جوبا في الوثيقة الدستورية، وهو أمر معلوم بالضرورة. فليس هناك أي مشكلة دستورية أو قانونية حول متي وكيف يتم الانتقال، إن انتقال الرئاسة للمدنيين في مجلس السيادة هو اختبار مهم لجدية الشراكة وللانتقال المدني الكامل لأول انتخابات قادمة.

من لم يستطع أن ينظر إلى أن هذه الفترة الانتقالية يجب أن تنتهي إلى انتخابات حرة ونزيهة بعد تحقيق سلام شامل مع كل المجموعات المسلحة وكتابة دستور دائم يحدد شكل ونظام الحكم في هذه البلاد، عليه أن يبحث عن حكومة غير حكومة ديسمبر/كانون الأول، ويلزمه تحديد أسباب دعمه للفترة الانتقالية بدون ما تواثقنا عليها في الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي واتفاق جوبا لسلام السودان.

لا يمكن، بل ومن المستحيل، إجراء انتخابات مبكرة في البلاد قبل تنفيذ بند الترتيبات الأمنية وهيكلة وبناء المنظومة الأمنية، وإكمال ملف السلام مع من لم يكتمل معهم الحوار، ومن دون كتابة دستور دائم متفق عليه، وتمكين النازحين واللاجئين من العودة إلى مناطقهم الأصلية، وغيرها من التزامات التأسيس في الفترة الانتقالية التي تقوم على بناء نظام جديد على أنقاض الدولة القديمة. وبدون تحقيق هذه الأولويات، تكون الانتخابات المبكرة تكرارا أعمى لتجارب لم تورث هذه البلاد سوي مزيد من عدم الاستقرار السياسي والمزيد من الحروب الأهلية والتظلمات الجديدة.

من غير الممكن -ومن المستحيل- أن نحقق نجاحا والتفافا عريضا حول أجندة الفترة الانتقالية من دون الالتزام الصارم والعمل الجاد والمستمر تجاه قضايا معاش الناس وحاجياتهم الأساسية، وبناء قاعدة حوار مفتوح في كل قرى ومدن السودان تقوده قيادة الدولة بشقيها السيادي والتنفيذي. إن استمرار إدارة البلاد من الخرطوم يشكك في السمات المطلوبة لقادة فترات الانتقال التي نحتاج فيها إلى إلهام وتبصير المجتمعات بالأهداف الكلية للانتقال.

من غير الممكن بناء نموذج سوداني مستقل وقابل للحياة والتطور إلا إذا تعاملنا مع التحالفات الإقليمية التي من حولنا بمسؤولية واستقلالية ووعي وطني كبير، فالبلاد التي من حولنا والمحاور التي تتنافس وتتصارع شكلتها عوامل عديدة وممتدة إلى ما وراء البحار والمحيطات، نمت في مناخات سياسية مختلفة عن مناخاتنا وفي تربة مختلفة عن تربتنا وتنازعات تاريخية واجتماعية وأيديولوجية لا تمت إلى توجهنا الوطني الأصيل بصلة، إلا الحقبة الاستثنائية المنبتة خلال الـ30 عاما الماضية. ثم إن الثورة السودانية تختلف في كثير من منطلقاتها ووعيها وطاقاتها الذاتية عن تلك التي وقعت في الربيع العربي، فثورة ديسمبر/كانون الأول ثورة تحرر من التبعية والاستعمار الداخلي، ومن التبعية للنماذج الاقتصادية والسياسية والجاهزة. وبناء على ذلك، فإن تعريف المصالح الوطنية والاتفاق عليها والاتفاق على إستراتيجية للعلاقات الخارجية الإقليمية والدولية ضرورة لبناء نموذج وطني قابل للحياة والتطور.

الطاقة التي نهدرها في التشفي والتشظي يجب أن تُستغل لبناء أسس القيادة الجماعية التي تقود المجتمع السوداني نحو التحول والانتقال الذي يفتح تاريخا جديدا لهذا البلد العظيم ويحدد بوضوح أجندة ومطلوبات الانتقال. من الممكن جدا قيادة الانتقال عبر منصة يوفرها تحالف سياسي عريض قائم على أجندة وطنية خالصة تحمي مصالح الشعب ويعمل على إنفاذ مهام الانتقال ومطلوباته المحددة في الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي. ورغم قصر فترة الانتقال مقارنة مع كثرة المهام التي يجب إنجازها، واتساع طموحات الجماهير، وتعقيد وهشاشة ظروف الانتقال السياسية والاجتماعية نتيجة سياسات التقسيم التي عمل عليها نظام العهد البائد، وضعف أداء المنظومة السياسية نتيجة للأسباب السابقة ذاتها، فإنه تصبح هناك ضرورة أن تضطلع القيادة بدورها الروحي والوطني والوظيفي في توحيد الوجدان السوداني وتشكيل الوعي الجمعي وبناء طاقة -بل طاقات- إيجابية تحوِّل هذا الاستياء العام إلى أمل يزيل الفجوة بين مجتمعات الريف الذي يشعر بالاستبعاد والتهميش مقارنة بالمجتمعات المدنية التي نالت قدرا كبيرا من الاهتمام بقضاياها رغم المعاناة التي ما زالت تسيطر على طبقات كبيرة منها. تسعي هذه القيادة لبلورة اتفاق وتماسك مطلوب ومهم بين أطراف العملية السياسية، يعتمد تغيير أدوات الاتصال الجماهيري وتغيير طريقة موظفي الخدمة العامة إلى نموذج القادة الملهمين وما أكثر نماذجهم في القارة والإقليم. إن كان من غير الممكن تحقيق الكفاية الاقتصادية في الوقت الراهن وتلبية كل حاجيات مجتمعاتنا، فليس من المبرر أن لا نصنع الأمل والثقة في المستقبل وسط السودانيين.

بعد متابعة ومراقبة أداء مؤسسة الدولة البيروقراطية والإشراف عليه على المستوى المركزي والإقليمي/الولائي، ومراقبة الأداء العام لولاة الولايات، يتبين أن ضعف الاستجابة للحاجيات الضرورية للمواطن السوداني البسيط ليس ناتج عن ضعف الموارد المالية للدولة فقط، بقدر ما هو ناتج عن الضعف الإداري وانعدام الإشراف المباشر على مؤسسات الدولة الخدمية والإيرادية. معظم السخط على الحكومة الانتقالية وتعثر ظروف السودانيين العاديين ناتج عن الضعف البائن في الأداء الإداري، وانعدام المحاسبة، والإشراف على المؤسسات خاصة الإيرادية والخدمية. وهو ما نتج عنه هذا السخط السياسي الذي أوشك أن يخلط بين واجبات الدولة تجاه شعبها وواجبات الشعب تجاه مبادئ ثورته وقضايا الانتقال الكبرى.

لكل ذلك، أصبحت هناك ضرورة موضوعية وعاجلة لإنجاز ما يلي:

  1. تشكيل المجلس التشريعي وإكمال مؤتمر نظام الحكم الذي يتيح للمجتمعات المحلية الاصطفاف في حكومات محلية محددة الصلاحيات والسلطات ومحددة الموارد تمثل الحصن الآمن لفترة الانتقال والديمقراطية القادمة.
  2. استعجال تنفيذ اتفاقية جوبا، خاصة بند الترتيبات الأمنية، وبدء هيكلة وبناء المنظومة الأمنية بحيث تستكمل كل مراحلها قبل الانتخابات العامة.
  3. استكمال ملف السلام مع القوى التي لم توقع بعد.
  4. استكمال ملف تفكيك التمكين السياسي والاقتصادي الذي مارسه النظام السابق ومعالجة آثاره.
  5. استكمال تشكيل المفوضيات المستقلة، ولا سيما مفوضية الانتخابات، وإصلاح الخدمة المدنية، والعدالة الانتقالية ومفوضية مكافحة الفساد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.