التناقضات بين الاعتبارات الدينية والسياسية في ممارسة مفهوم العالم الإسلامي في القرن الـ19

Omran Abdullah - حصار العثمانيين لفيينا، لوحة الفنان الألماني يوهان بيتر كرافت ، 1825، ويكبيديا - غياب الانتصارات الكبرى عن القرن ال21.. كذبة النصر الحاسم في الحروب المعاصرة
(الجزيرة)

نواصل تناول كتاب الدكتور جميل أيدن "فكرة العالم الإسلامي: تاريخ فكري عالمي"، الذي يطرح فيه أن العالم الإسلامي مفهوم كولونيالي علماني. ويجادل أيدن بأن العالم الإسلامي لم يستمد مفاهيميا وتاريخيا من مفهوم الأمة القرآني، وإنما هو مفهوم مفارق له، إذ ثمة انقطاعات بين كلا الكلمتين؛ فالأمة تشير إلى جماعة من المؤمنين. أما العالم الإسلامي فهو وحدة تحليل جيوسياسية، وهو يشير إلى جماعة عالمية تتشارك العادات والاهتمامات والخبرة السياسية على نحو مختلف عن الآخر غير المسلم. والعالم الإٍسلامي كمفهوم هو مقابل الغرب المسيحي، وفي صراع أبدي معه. وهو مفهوم يقوم على فكرة الإسلام المجرد الجامد المنزوع من سياقاته التاريخية الاجتماعية والثقافية، وهو مفهوم يقتضي وحدة سياسية شاملة ويشهد سيولة في ترتيب كلٍ من الأولويات الدينية والإستراتيجية عبر الزمن، وهو في النهاية يؤشر على فئة عرقية وحضارية لا جماعة من المؤمنين. وهو مفهوم يعيش دائما عملية مستمرة -من الخلق والانقطاعات والطفرات وإعادة الخلق- تدور حول الخلافة والأمة والحراك الأممي الإسلامي. وهو في النهاية ليس أكثر من مجرد وهم لا يزال مستمرا.

فالإسلاميون والغربيون على السواء يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن أيدن يعتبر هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطيرة، ويبني حججه عبر سردية تاريخية جينالوجية نقدية عابرة للقرون ليبين حداثة فكرة العالم الإسلامي وكيفية تشكلها وتطورها، والجهود الدائمة لاستغلال هذه الفكرة لأغراض سياسية من قبل القوى الإسلامية والغربية على السواء. وينتهي أيدن إلى أن مفهوم العالم الإسلامي ذاته مفهوم علماني مخترع. وليس ثمة دليل أفضل على ذلك من حقيقة أن مفهوم "العالم الإسلامي" أُنتج خطابيا في إطار الفعل ورد الفعل بين حملات التبشير والاستشراق من ناحية وناشطي الحراك الأممي الإسلامي والحداثيين/الإصلاحيين الإسلاميين في الـ150 سنة الأخيرة. وفيما يلي نتناول أفكار وحجج أيدن الرئيسية والمحطات التاريخية التي توقف عندها.

تناقض الاعتبارات الدينية والسياسية

شهد العالم الإسلامي الحديث تناقضات بين الاعتبارات الدينية والسياسية في ممارسة مفهوم العالم الإسلامي. ويروي أيدن قصصا عديدة للدلالة على ذلك. أولها قصة السلطان تيبو الذي كان يحكم سلطنة ميسور في جنوب الهند في أواخر الـ18. وكان يعاني من تغول شركة الهند الشرقية على أراضيه فاستنجد في عام 1798 بالسلطان العثماني سليم الثالث باسم التضامن الإٍسلامي كي يتمكن من دفع البريطانيين خارج حدوده، كما حاول تيبو تأمين المساندة الفرنسية. لكن السلطان سليم لم يغثه أو يساعده، فالدولة العثمانية وقتها كانت في تحالف مع بريطانيا وروسيا ضد نابليون الذي غزا لتوه مصر العثمانية. وكانت المحصلة أن استباحت القوات البريطانية إقليم ميسور في السنة التالية ونهبتها بالتعاون مع ملوك مسلمين هنود آخرين منافسين لتيبو كالملك نظام في حيدر آباد. لقد كانت فكرة التضامن الإسلامي عاجزة سياسيا.

لم تكن ثمة حدود قاطعة بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي حتى في القرن التاسع. ففي عام 1867 زار السلطان عبد العزيز أوروبا في جولة موسعة وتم استقباله بحفاوة في الإمبراطورية الفرنسية والبريطانية والنمساوية-المجرية وممالك بلجيكا وبروسيا، وكانت هذه الزيارة -مثلها مثل مؤشرات كثيرة أخرى- علامة على التعاون الإمبراطوري البيني وعلى أولوية الهوية الإمبراطورية على الهوية الدينية.

لم يكن ثمة رد أممي إسلامي على الغزو النابليوني؛ فوصول نابليون إلى مصر -مثله مثل كل أشكال غزو الإمبراطوريات الغربية للمجتمعات الإسلامية في أواخر القرن الـ18- لم يؤدِ لظهور أية رؤى عن هوية عالمية إسلامية. لكن رغم هذا ينبغي القول إن حملة نابليون على مصر تجاوزت الأنشطة الإمبريالية الأوروبية الأولى؛ إذ كان نابليون -وليس المصريون أو العثمانيون- هو من حاول أن يبني مفهوما مجردا للإسلام، حيث كان نابليون نفسه يفكر في اعتناق الإسلام، ولم يكن يرى أي تناقض بين الأدوار التي تطلع إليها كحامٍ للمسلمين في القاهرة وكونه ثوري جمهوري في باريس. من جهته، كان الرد العثماني على الغزو الفرنسي لمصر نابعا من الإستراتيجية الإمبراطورية الكلاسيكية البريئة من أية نزاعات دينية أو حضارية من جهة، والتي ترحب بأية مساعدة من القوى المسيحية من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يمكن فهم الرفض العثماني لمساعدة تيبو في حربه ضد البريطانيين في ميسور.

وقد ساعد البريطانيون العثمانيين في طرد الفرنسيين من مصر؛ حيث دمروا الأسطول الفرنسي أمام السواحل المصرية. وبعد المساعدة البريطانية للعثمانيين في طرد الفرنسيين، أنشأ السلطان سليم الثالث تكريما جديدا وهو "أخوية الهلال"، ومنح الميدالية الأولى لقائد القوات البحرية البريطانية الأدميرال نيلسون، والذي بدوره ارتدى الميدالية بفخر واستخدم اللقب في المراسلات الدبلوماسية. إن عضوية نيلسون في "أخوية الهلال" مكتوبة حتى على شاهد قبره، وهو ما يظهر نوعا من العالمية الإمبراطورية التي تتجاوز الهويات الدينية المسيحية والإسلامية.

ولم تكن ثمة حدود قاطعة بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي حتى في القرن التاسع. ففي عام 1867 زار السلطان عبد العزيز أوروبا في جولة موسعة وتم استقباله بحفاوة في الإمبراطورية الفرنسية والبريطانية والنمساوية-المجرية وممالك بلجيكا وبروسيا، وكانت هذه الزيارة -مثلها مثل مؤشرات كثيرة أخرى- علامة على التعاون الإمبراطوري البيني وعلى أولوية الهوية الإمبراطورية على الهوية الدينية. وعندما كتب الرحالة والفقيه العثماني عبد الرحمن أفندي عن السمة العالمية للإطار الإمبراطوري كان العالم بالنسبة له مقسما ليس وفقا للإيمان الديني ولا اللغة ولا التقاليد والجغرافيا، بل وفق الإمبراطوريات التي تحكم مساحات شاسعة تضم رعايا في غاية التنوع. ولم تكن الإصلاحات الإمبراطورية ينظر إليها بالضرورة باعتبارها علمنة وتغريبا.

كذلك الصحفي والمصلح التركي نامق كمال -وغيره- لم يكن يميز تمييزا قاطعا بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي. وكانت النخب العثمانية تؤمن أن بإمكانها الحفاظ على درجة من التمايز بينما تقوم بتمكين إمبراطوريتها عبر النموذج الحضاري الغربي. في عام 1848 منح السلطان العثماني الحماية للثوار المجريين والبولنديين، كما استفاد العثمانيون من تحالفهم مع بريطانيا في حرب القرم (1853-1856)، وقد دعمت النخبة العثمانية البريطانيين ضد المقاتلين المسلمين والهنود خلال الثورة الهندية عام 1857.

ولذلك من منظور كل من النخب المسلمة والمسيحية، فإن قسما كبيرا من القرن الـ19 كان حقبة للدبلوماسية والإستراتيجية والتوسع الإمبراطوري. وقد واصل العثمانيون احترام تحالفاتهم؛ فمثلا في أربعينيات وخمسينات القرن الـ19، عندما كان القوقازيون -وهم على مرمى حجر من الحدود العثمانية- يقاومون التوسع الروسي الإمبريالي لم يقدم العثمانيون أي دعم لأشقائهم المسلمين، حتى برغم أن الروس كانوا أعداء للعثمانيين لفترة طويلة. كذلك شارك الكثير من المسلمين في الجيوش البريطانية والفرنسية والروسية، بل ودعم ناشطون أمميون إسلاميون هنود بارزون توسعَ الحكم البريطاني ليشمل مسلمين في شرق أفريقيا والشرق الأوسط. وتبنى الحلفاء خطابا دعائيا يتحدى فكرة الجهاد بل وشرعية الادعاء العثماني حيال الخلافة. وكانت ثورة الشريف حسين إنجازا كبيرا للسياسات البريطانية المعادية للجهاد، ودمرت صدمة الحرب، وإضافة إلى الصراع الداخلي بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، انتصرت بريطانيا في الحرب لكنها خسرت ولاء رعاياها المسلمين.

وقد دفع يأس المسلمين المستعمَرين من الوعود الكبرى بالتحرر -مثل مبادئ ويلسون والبلشفية العالمية- إلى التمسك أكثر بالتضامن الإسلامي العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. واندلعت حرب التحرير التركية بقيادة أتاتورك، وسعى القادة الأتراك المسلمون لطلب المساعدة من العالم الإسلامي الموجود في الإمبراطورية البريطانية المنتصرة من دون استخدام كلمة جهاد. وتحركت حركة الخلافة الهندية الناشطة في مجال الحراك الأممي الإسلامي. وكان دعم حركة الخلافة حاسما بالنسبة لتركيا في مؤتمر لوزان؛ إذ لعب المسلمون الهنود دورا مباشرا وحاسما في دفع بريطانيا إلى طاولة المفاوضات. ولكن كان فحوى الصفقة الكامنة في لوزان أن بإمكان تركيا أن تصبح دولة قومية طالما أقصت الإمبراطورية العثمانية وجعلتها جزءا من الماضي.

ومن ثم -بينما تحرك جسد العالم الإسلامي لنجدة تركيا- بدت تركيا مستعدة لقطع رأس ذلك الجسد. وجعلت اعتبارات السياسة الواقعية الاحتفاظ حتى بالسلطة الروحية للخلافة أمرا غير ممكن أبدا. وكان الكثير من القادة الأتراك في العهد الجمهوري يعتقدون أن الضرر سوف يحيق بتركيا إذا بدت كقائدة للعالم الإسلامي.  وفضلوا بحزم تبني الحضارة الغربية، وهو ما كان مستحيلا في ظل وجود الخلافة بإسطنبول. وهكذا فإن إعلان الجهاد في الحرب العالمية الأولى -جنبا إلى جنب مع الثورة العربية الكبرى- دمر بلا رجعة العصر الذهبي للحراك الأممي الإسلامي القائم على التحالف العثماني-البريطاني. وأنهى إلغاء الخلافة نصف قرن من الفكر السياسي الإسلامي العالمي المرتبط بنموذج الحداثة العثمانية. وربما لم يكن للخلافة نفس المعنى عبر التاريخ، ولكن بين عام 1880 وعشرينيات القرن الـ20 كان واضحا أنها أصبحت ملجأ لمطالب المسلمين الواقعين تحت الاستعمار الأوروبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.