نشوة انتصار طالبان وحرب الشعارات

قادة طالبان أثناء تسليم القصر الجمهوري (الجزيرة)

هناك قراءات كثيرة لانتصار حركة طالبان في تحريرها أفغانستان من القوات الأجنبية على أراضيها، والانقلاب على حكومة أشرف غني؛ فبعضهم يرى أن هذا الانتصار ليس فقط ضد المستعمر وإنما أيضا ضد المشروع الأميركي والغربي في أوراسيا، وآخرون يروه من منظور حضاري يرفض الخضوع لهيمنة إمبريالية أو غربية. والبعض قام بعمل مقارنات خارج الصندوق مثل النائب اليساري التركي "دوغو بيرينسك" (Dogu Perincek) الذي قارن نجاح حركة طالبان في حرب استقلال أفغانستان مثلما نجح مصطفى أتاتورك في تركيا.

وقد لاحظتُ -بمراقبتي للإعلام المرئي والمكتوب والميديا الاجتماعية- أن كثير من التحليلات قد بقيت على مستوى الشعارات والتي -إن تنبئ عن شيء- تشير إلى أن الخطاب في العالم العربي والإسلامي ما يزال يحمل استقطابات حادة (نحن/هم، شرق/غرب، كونية/محلية، إلخ) مليئة بشعارات تجيشية وهوياتية تُبْهم أكثر مما تُوضح.

هل فعلا أخفقت الديمقراطية كفلسفة (مواطنة، حريات شخصية، حرية التعبير، حرية تشكيل أحزاب)، أو كإجراءات (اختيار الشعب لممثليه، تدوير السلطة، فصل السلطات التنفيذية عن التشريعية عن القضائية)؟ هل هي غربية أم كونية تم إثبات صلاحها (بخطوطها العريضة) في نتائجها الطيبة في كل من الجنوب والشمال الكوني؟ هل النظام الديمقراطي هو دواء لكل علة أم ببساطة آلية لتمثيل الشعب؟

قبل تفكيك بعض هذه الشعارات دعوني أن أوكد على نقطتين منهجيتين؛ الأولى أنني شخصيا ابتعد كثيرا عن إعطاء أحكام قيمة حتى الآن حول سلوك حركة طالبان في الحكم، حيث إن هناك مؤشرات تؤكد أنها تغيرت عن الطريقة التي حكمت بها أفغانستان بالحديد والنار قبل 20 عاما. ولكن تبقى هذه التغيرات في الخطاب كلاما حتى يثبت في الأفعال.

ثانيا، على الرغم من كتاباتي الكثيرة عن سرديات الحركات الإسلامية الجديدة -أو ما يسميها آصف بيات بـ"ما بعد الإسلامية"- التي أظهرت تفاعلا إيجابيا بالخطاب والممارسة مع مفاهيم مثل الديمقراطية/الشورى الملزمة، العلمانية الجزئية أو اللطيفة/الدولة المدنية، والفصل بين الدعوي (للمؤمنين) والقانوني المدني (للمواطنين)، فإنني اعترف أن خطاب الميديا الاجتماعية يظهر الى حد بعيد لحظة انبهارية بانتصار حركة طالبان وإعلانها عن إقامة إمارة إسلامية في أفغانستان، مؤكدا على خطاب هوياتي قديم للإسلاميين فيه ثنائيات حادة تمنعنا من فهم الواقع واستشراف المستقبل وبناء دولة المواطنة وإقامة علاقات سلم مع العالم. لذا فهناك تراجع فكري على الأقل لدى الكثير من الإسلاميين والمسلمين العاديين في فهمم للانتصار الطالباني.

وسأكتفي هنا بتناول شعارين:

"إخفاق الديمقراطية الغربية في أفغانستان"

الشعار الأول هو "إخفاق الديمقراطية الغربية في أفغانستان". هل فعلا أخفقت الديمقراطية كفلسفة (مواطنة، حريات شخصية، حرية التعبير، حرية تشكيل أحزاب)، أو كإجراءات (اختيار الشعب لممثليه، تدوير السلطة، فصل السلطات التنفيذية عن التشريعية عن القضائية)؟ هل هي غربية أم كونية تم إثبات صلاحها (بخطوطها العريضة) في نتائجها الطيبة في كل من الجنوب والشمال الكوني؟ هل النظام الديمقراطي هو دواء لكل علة أم ببساطة آلية لتمثيل الشعب؟

طبعا هناك خلط بين النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، حيث تتطلب هذه الأخيرة أنظمة اقتصادية واجتماعية لتوزيع الثروة. ولا ينبغي تحميل الديمقراطية وزر السياسات الرأسمالية والنيوليبرالية الجشعة. وإذا كان الحلفاء الغربيون قد مكنوا أفغانستان من التأسيس لنظام ديمقراطي فإخفاقه هناك مرتبط أكثر بعدم اعتراف الخصم السياسي بنتائج صناديق الاقتراع وانتشار الفساد المالي والسياسي من كل حدب وصوب.

لم يتم الانخداع بالعناوين البراقة كالديمقراطية والانتخابات، ولا بالوعود الزائفة. فهل فعلا الديمقراطية والانتخابات هي عناوين براقة؟ هل كان من الممكن أن تنجح حماس في الانتخابات لولا الديمقراطية؟ إذا كان من الطبيعي والعقلاني أن تقوم حركة طالبان بالبحث عن توافقات قبلية ومناطقية وبين الفرقاء السياسيين لتشكل حكومة أشبه بحكومة وحدة وطنية لفترة انتقالية، فالسؤال الذي يُوضع أمامنا هو شكل النظام السياسي الذي ستتبناه هذه الحركة بعد ذلك. هل العودة إلى حكم "أهل الحل والعقد" هو منظور الإمارة الإسلامية الأمثل؟ إن من ينادي بإخفاق النظام الديمقراطي بسبب فشل إجراءاته بتحقيق تمثيل حقيقي للشعب، فمن السهل استخدام نفس القياس الذهني واعتبار أغلب الدول العربية أنها تحكم بمفهوم "أهل الحل والعقد" والذي لم يجلب لهذه الدول إلا الاستبداد والتخلف وقمع الحريات لأفرادها.

إقامة إمارة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية

أما الشعار الثاني فهو إقامة إمارة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية. وتأتي الكثير من التغريدات بهذا الاتجاه، مثل "حريتك الشخصية تنتهي عند حدود الله". أو ليس خطابا كهذا يؤسس للتراجع عن خطاب التمايز بين السياسي والدعوي؟ وماذا عن الآية الكريمة "ادْعُ إِلَى سبيلِ ربِّكَ بالحِكمةِ والمَوعظةِ الحَسنة ۖ وجادلْهم بالتي هيَ أحسنُ ۚ إنَّ ربّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سَبيلهِ ۖ وهو أعلمُ بالمُهتدِين"؟ فلمن الدعوة إلى ضبط الحرية الشخصية؟ للمؤمن أم للمواطن؟ نعرف جيدا أن في خيال كثير من الناس -مؤمنين أم غير ذلك- هو رهان "فرض" الحجاب على كل النساء باسم "تطبيق الشريعة الإسلامية". ولكن ماذا يعني تطبيق الشريعة؟ هل هو فرض البرقع أم الحجاب أم الحشمة؟ وهل سيطبق على المؤمنين تفسير فقهي ما؟ وماذا عن غيرهم من المسلمين أو أهل العقائد الأخرى؟ هل رفض بعض النساء الأفغان لبس الحجاب "الكامل" هو نتيجة الانبهار بالثقافة الغربية؟ أم أن ذلك هو خيارهم في القرن الـ21 بتبني منظومات ثقافية مختلفة؟ نفس الكلام ينطبق على هؤلاء الذين تبنوا لبس البرقع؛ هل فعلوا ذلك نتيجة الانبهار بالثقافة السلفية الوهابية؟ لم يعد له معنى الحديث عن الأفغان ذو الثقافة الأصيلة وأولئك "المتغربون" أو "المتوهبنون". من حق كل فرد فهم ما هو الخير العام ويكون دور الدولة بتمكين هؤلاء الأفراد بممارساتهم لحرياتهم بدون التعدي على حقوق الآخرين (مفهوم العدالة).

ومن متابعتي للجدل الدائر اليوم حول الحريات الشخصية في المجال العام خلال سنوات الربيع العربي؛ وجدتُ أن هناك خطابا واضحا من قبل كثير من الإسلاميين الجدد في ضرورة احترام مثل هذه الحريات على الرغم من عدم اقتناع بعض اليساريين بـ"صدق" هذا الخطاب. هذا الخطاب الذي تأسس على التمييز بين الفعل السياسي التعددي والفعل الدعوي للمؤمنين. وآمل أن يكون هذا التراجع لحظيا من جراء نشوة النصر. ولكن إذا استمر هذا التراجع فسيكون لذلك تبعات كثيرة على استمرار الاستقطابات الحادة في المجتمعات العربية والإسلامية، ولن يولد ذلك إلا المزيد من الصراع بين النخب وسيكون الحَكم والحُكم للعسكر بكل مخيالهم الاستبدادي وتحالفاتهم مع القوي، إن كانت أميركا أم إيران، أم غيرهم.

ولهؤلاء الذين ينشرون صدى "نشوتهم الانتصارية" على مجموعات "الوتساب" (WhatsApp) المغلقة والفيسبوك بخطاب "مريح" (comfortable)، حيث تزدهر المزاودات بين من يريد أن يكون أكثر راديكالية ومحافظة اجتماعية وسياسية، هل يمكن أن يفكروا باتساق خطابي؟ أي بخطاب واحد موجهه بنفس الوقت لمجموعة الوتساب المغلقة ومجتمع المواطنة ومجتمعات التعددية. وبكلام أوضح، هل يمكن لمن يدافع عن حق الإمارة الإسلامية بفرض لباس للمرأة في أفغانستان أن ينتقد فرنسا -مثلا- لمنعها لمحجبات من التعلم والعمل؟ كيف يمكن الدفاع عن فرض شكل معين من الحشمة في لباس المرأة من دون الاستفادة من منتجات العلوم الاجتماعية والتي أظهرت بوضوح أن أقل مدينة ذات أكثرية مسلمة تلبس النساء الحجاب فيها هي طهران، وذلك بعد أكثر من نصف قرن على فرض الحجاب في الشارع هناك. ففي هذه المدينة يمارس معظم النساء سياسة قرض هيبة الدولة الاستبدادية بوضع الحجاب وكأنه شال مغطيا جزءا يسيرا من الشعر.

إذن، في زحمة النشوة والانبهار حاولت الحث على التفكير بما يتجاوز الشعارات الاختزالية والتبسيطية والدعوة للاتساق الفكري والعودة لمفاهيم الدولة المدنية والتفكر بتبعات ما يسمى "تطبيق الشريعة الإسلامية"، وكأن الأمر هو تطبيقات فقهية من دون المرور عبر التفكر بالمعضلات الأخلاقية الناتجة عن تطبيق أي شرعة. كما دعت هذه المقالة لـ"عدم رمي الطفل مع ماء الاستحمام" (not to throw the baby out with the bathwater) أي لا ترمِ الصالح مع الطالح، فالعداء لهيمنة الإمبراطوريات واستعماريتها يجب أن يمنعنا من الاستفادة من أنظمة حكم كالديمقراطية والتي أثبتت صلاحها مقارنة مع أي نظام آخر في عصرنا الحديث.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.