مآلات الأزمة التونسية

الرئيس التونسي قيس سعيد (وكالات)

أي مراقب للشأن السياسي سيجد ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيّد "انقلابا" من نوع خاص لم يعرف من قبل في علم السياسة؛ إذ إنه انقلاب من رئيس منتخب يتمتع بسلطات محدودة، واستولى على باقي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. فقد تم الاستيلاء على هذه السلطات بالقوة، وبدعم وإقرار من مؤسستي الجيش والأمن؛ وبذلك يكون الرئيس التونسي قام بعمل يمثل كل أركان الانقلاب من حيث الاستيلاء على سلطة لا يتمتع بها، وفي الوقت ذاته استخدام القوة الجبرية في تركيز كل السلطات بيده.

لكن كيف استطاع قيس سعيّد القيام بهذا الانقلاب الخاص؟ وما أهم العقبات في إتمام مشروعه الذي يطمح إليه؟، وما مآلات هذه الأزمة التي تعصف بالحياة السياسية التونسية؟

كان الرئيس التونسي يسعى إلى تعطيل عمل المؤسسات من خلال استخدام تأويلات دستورية، فرفض أن يقسم الوزراء الجدد أمامه القسم القانوني؛ فأصبحت حكومة المشيشي تعمل من دون 11 وزيرا دخلوا في التعديل الوزاري، ورفض المصادقة على قانون المحكمة الدستورية ليحل محلها بعد أن منح نفسه الحق في تأويلات وتفسيرات نصوص الدستور.

التمهيد للانقلاب

الرئيس التونسي منذ اليوم الأول لظهوره السياسي كان ينادي بالنظام الرئاسي ويرفض النظام البرلماني في الحكم وتوزيع السلطات على أكثر من جهة، إلا أن التحول للنظام الرئاسي كان يحتاج قوة شعبية وحزبية وأغلبية برلمانية لا يملكها الرئيس التونسي.

حاول الرئيس التونسي تعويض ذلك من خلال تركيز كل السلطات بيده كرئيس، مستثمرا وجود برلمان معلّق عجزت القوى السياسية عن الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية، وذلك عبر اللجوء إلى ما عُرف بحكومة الرئيس، فجاء بالرئيس الفخفاخ  ليكون يد الرئيس التنفيذية، ويمارس من خلاله السلطات التنفيذية، إلا أن حكومة إلياس الفخفاخ سرعان ما ظهر أنها تعاني من شبهات فساد أطاحت بها بعد أشهر قليلة، فجاء خيار الرئيس بحكومة هشام المشيشي ليكون يد الرئيس التنفيذية، لكن رئيس الحكومة المعين سرعان ما انقلب على رئيس الجمهورية، رافضا أن يكون أداة تنفيذية يمارس الرئيس من خلالها السلطات التنفيذية، فكان ما عرف بأزمة اليمين الدستورية، إذ رفض الرئيس استقبال الوزراء لأداء القسم القانوني بعد تعديل حكومة المشيشي، التي عزلت الوزراء المحسوبين على الرئيس لتستبدلهم بوزراء محسوبين على الأغلبية البرلمانية.

في الوقت نفسه، كانت هناك أطراف داخلية تعمل لإضعاف عمل المؤسسات التي ودلت من رحم الثورة وإفشالها لتشكل حالة استعصاء سياسي، إذ تم استخدام الحزب الدستوري بقيادة عبير موسي لإفشال العمل البرلماني من خلال ما كانت تثيره من شغب وتخريب أثناء انعقاد جلسات المجلس، وتم استخدام إعلام الثورات المضادة في تسليط الضوء على حالة الشغب التي كانت تثيرها رئيسة الحزب الدستوري لإسقاط البرلمان في نفوس الشعب التونسي.

وكان الرئيس التونسي يسعى إلى تعطيل عمل المؤسسات من خلال استخدام تأويلات دستورية، فرفض أن يقسم الوزراء الجدد أمامه القسم القانوني، فأصبحت حكومة المشيشي تعمل من دون 11 وزيرا دخلوا في التعديل الوزاري، ورفض المصادقة على قانون المحكمة الدستورية ليحل محلها بعد أن منح نفسه الحق في تأويلات وتفسيرات نصوص الدستور.

كل تلك الأجواء والممارسات كانت تضغط من أجل إقناع الشارع التونسي بأن الثورة والديمقراطية البرلمانية عجزتا عن أن تُخرج قيادات سياسية ومؤسسات قادرة على إنقاذ تونس والشعب التونسي من الأوضاع الاقتصادية والصحية المتردية.

في كل ذلك السياق، بدأ يظهر تجمع المجلس الأعلى للشباب التونسي، وهو تجمع لا يُعلم مصدر تمويله، ولا من يدعمه، وفي الوقت ذاته كان يلقى تغطية إعلامية لكل تحركاته في الإعلام الخارجي المناهض للثورات العربية والربيع العربي.

وتمت المناداة من قبل المجلس الأعلى للشباب للمظاهرات في 25 يوليو/تموز الفائت، فخرج الشباب والشعب التونسي الغاضب إلا أنه كان خروجا ضعيفا، رغم كل الزخم الإعلامي الكبير الذي كان يرافق تلك الحشود.

بعد كل الذي تم عمله، خرج الرئيس التونسي في خطاب -وإلى جانبه قيادات الجيش والأمن التونسي- وأعلن تجميد عمل البرلمان، وتعليق عمل الحكومة؛ معتمدا على الفصل 80 من الدستور التونسي، وتم تأويل النص بطريقة تخالف منطوق النص بشكل واضح بخصوص تجميد البرلمان وتعليق عمل الحكومة ومنح نفسه سلطة قضائية.

بين قوة الانقلاب وعناصر ضعفه

لا يمكن الجزم بأن الانقلاب حقق كل عناصر النجاح، وأن خصومه قد هزموا، كما لا يمكن القول إن الانقلاب سقط وإنه أصبح عاجزا؛ إذ إن ما قام به قيس سعيّد لا زال يملك الكثير من عناصر القوة، وأهمها:

  • تسلحه بحالة من الدعم الشعبي المحمول على حالة السخط على النخبة السياسية التي تحكم، واستغراقها في صراعاتها ومناكفاتها الحزبية والأيديولوجية.
  • عجز الأحزاب الحاكمة طيلة سنوات الثورة الماضية عن مكافحة الفساد، وتقديم الرئيس نفسه كمخلص وخصم لحالة الفساد القائمة.
  • عجز الأحزاب الحاكمة عن إحداث أي أثر في التحسن الاقتصادي والتعليمي والصحي، التي كانت المحركات الأساسية لثورة الياسمين.
  • دعم سخي من دول الثورات المضادة، وتقديم كل أشكال الدعم في كل المجالات الطبية والاقتصادية، والدعم السياسي.

ورغم كل عناصر القوة بيد الرئيس التونسي، فإن الانقلاب أو الإجراءات المتخذة من قبله ما زالت تعاني من عدة وجوه:

  • خروج الشيخ راشد الغنوشي ووقوفه أمام البرلمان المقفل بسلاسل الحديد وفي مواجهة الدبابة تلك الصورة التي استطاعت أن تجسد حقيقة المشهد الذي جرى بعد إعلان وقرارات الرئيس التونسي بوصفه انقلابا على الشرعية الشعبية بالقوة.
  • انسحاب حركة النهضة من الشارع ودعوة أنصارها لعدم الخروج، وفي ذلك تفويت الفرصة على المصادمات بين أنصار الرئيس وأنصار النهضة. وهذه الخطوة استطاعت نزع فتيل نقل الأزمة إلى الشارع، واستطاعت وضع كل القوى السياسية -خاصة العلمانية ليبرالية ويسارية- في صف واحد مع النهضة كخاسر من استهداف الديمقراطية، كما أنها استطاعت تفويت الفرصة على استخدام العنف ونزع أي مبرر يمكن أن يستخدمه الرئيس ذريعة في استكمال الانقلاب حتى آخر خطواته.
  • انحياز اتحاد الشغل العام التونسي إلى الثورة ومطالبته الرئيس بضرورة الإسراع في عودة الشرعية الديمقراطية رغم مهاجمته حزب النهضة.
  • رفض 45 قاضيا الإجراءات المتخذة من قبل الرئيس التونسي، خاصة المتعلقة بعمل القضاة، كما أعلن محامون لحماية الحقوق والحريات رفضهم الانقلاب ومساندتهم القضاة.
  • خروج الفقيه الدستوري عياض بن عاشور ووصفه ما حدث بإنه انقلاب على الدستور وانقلاب بأتم معنى الكلمة، وكذلك الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي.
  • رفض جميع القوى السياسية الفاعلة من كل الأطياف السياسية -إسلامية وعلمانية، بشقيها الليبرالي واليساري- ما قام به الرئيس، ووصفه بالانقلاب، ويستثنى من ذلك حزب "تحيا تونس" بقيادة يوسف الشاهد رئيس الوزراء في عهد الباجي السبسي، وحركة الشعب التونسي ذات التوجه القومي الناصري، والحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي، قبل أن تنقلب على إجراءات الرئيس بعد عدم أخذها شيئا من كعكة الانقلاب.
  • عجز الرئيس حتى الآن عن القيام بأي محاربة للفساد في تونس، وعجزه عن فتح تلك الملفات؛ إذ لم يقدم أيا من رجال الأعمال المتهمين بالفساد إلى المحكمة منذ إعلانه الإجراءات الاستثنائية.
  • افتقار الانقلاب إلى الدعم الخارجي الصريح من أهم الأطراف المؤثرة في المشهد التونسي، إذ كان الموقف الأميركي أكثر وضوحا في مطالبة الرئيس التونسي بالإسراع في العودة للشرعية الديمقراطية، وإبقاء الحوار مفتوحا بين الجميع، والتقيد بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وإن كان البعض يقرأ الموقف الأميركي في سياق صراعها مع الصين على النفوذ في بوابة القارة الأفريقية، إذ لم تصف الخارجية الأميركية ما جرى بأنه انقلاب صراحة، حيث يحتم عليها القانون الأميركي قطع المساعدات الأميركية عن الأنظمة الانقلابية.
  • في الوقت ذاته، رفضت الجزائر -الشقيقة الكبرى للدولة التونسية، وصاحبة أكبر خط حدودي بري مع الدولة التونسية- الانحياز لأي من أطراف الصراع السياسي، وأبدت موقفها على الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة التونسية، كما صدرت مؤخرا مؤشرات على دور للوساطة قد تلعبه الجزائر بين فرقاء العملية السياسية في تونس. أما ليبيا -الجارة الحدودية الثانية لتونس- فقد رفضت إجراءات الرئيس، وطالبت بعودة الشرعية الديمقراطية خشية أن تصبح تونس بعد ذلك بوابة للثورات المضادة في المغرب العربي، وعودتها كذلك في ليبيا.
  • دعا الناطق باسم الاتحاد الأوروبي كل الأطراف الفاعلة إلى احترام الدستور والمؤسسات الدستورية وسيادة القانون، في حين أبدت إيطاليا وفرنسا موقفا متحفظا على ما جرى، من دون أن تصدر مواقف إدانة واضحة أو تأييد واضح.

وهناك مآلات للأزمة يمكن إجمالها في ما يلي:

السيناريو الأول:

استكمال قيس سعيّد ما بدأه في 25 يوليو/تموز الماضي، والذهاب إلى إلغاء البرلمان وحله، وإنهاء الحياة الديمقراطية، وإجراء تعديلات دستورية بقوة الجيش والأمن تبقيه في السلطة إلى أجل غير محدد، وبديمقراطية صورية.

السيناريو الثاني:

التراجع عن كل الإجراءات التي قام بها بعد انتهاء مدة الشهر وعودة عمل البرلمان وتشكيل حكومة جديدة باختيار الرئيس، وأخذ الثقة عليها برلمانيا، وفتح حوار مع الفرقاء السياسيين، وإعادة رسم خارطة طريق بالتوافق مع البرلمان والأحزاب تعيد بناء النظام السياسي في تونس.

السيناريو الثالث:

تمديد الفترة المحددة للإجراءات الاستثنائية، وتشكيل حكومة الرئيس، والذهاب إلى تعديل النظام السياسي وعرضه على استفتاء شعبي وتهميش الأحزاب السياسية من أي دور في الخارطة السياسية الجديدة.

على أنه يمكن الترجيح بين هذه السيناريوهات على النحو التالي:

السيناريو الأول:

استكمال الرئيس التونسي جميع الإجراءات وحل البرلمان وتعليق الحياة السياسية:

بلا شك أن الرئيس لا يؤمن بالأحزاب السياسية، ولا يؤمن بالبرلمان ولا بالحكومات البرلمانية، إذ إنه لم يزر البرلمان ولا مرة منذ توليه سلطاته الدستورية، لكن هناك فرقا بين الرغبة والقدرة؛ إذ يبدو أن قيس سعيد لا يملك كل الوسائل لتعطيل الحياة السياسية والحكم المفرد من عدة وجوه:

  • تعطيل الحياة السياسية يستلزم استخدام القوة، وهو الأمر الذي يبدو أنه غير متوفر لقيس سعيد من قبل الجيش التونسي، إذ إن الجيش لم ينتشر بعد إعلان قيس سعيد في الشارع والأمن لم يعتقل أيا من خصوم قيس سعيد، وإن كان اقتصر دور الجيش على حماية مقرات الأحزاب ومنع النواب من الوصول للمجلس من دون استخدام القوة، وفي ذلك مؤشر على أن الجيش لن يذهب مع الرئيس إلى آخر نقطة يريدها.
  • الرفض الدولي، خاصة ما عبر عنه الموقف الأميركي صراحة.
  • اتساع جبهة الرفض للانقلاب من معظم القوة السياسية داخليا في كل يوم يتأخر فيه الرئيس عن إعلان خارطة الطريق.

السيناريو الثاني:

التراجع عن كل الإجراءات التي قام بها واستئناف الحياة السياسية وعودة عمل البرلمان، هذا السيناريو يبدو مستبعدا من عدة وجوه:

  • تراجع الرئيس يعني حرجا سياسيا كبيرا أمام أنصاره، والظهور بمظهر المنهزم أمام تحالف الأحزاب السياسية، وانكشاف حالة الخطاب الشعبوي اللاواقعية التي يقدمها الرئيس.
  • ظهور الرئيس بأنه عجز عن محاربة الفساد وتحسين حياة الناس التي اتكأ عليها في كل ما قام به من قرارات، والتي في الأساس كانت رافعته الانتخابية.

السيناريو الثالث:

تمديد المدة المحددة للإجراءات الاستثنائية وتشكيل حكومة الرئيس والذهاب إلى تعديل النظام السياسي والتحول للنظام الرئاسي بمفرده وعرضه على استفتاء شعبي وتهميش الأحزاب السياسية من أي دور في الخارطة السياسية الجديدة.

هذا السيناريو هو الأقرب إلى الواقع، ومن خلال خطوات الرئيس على الأرض وتصريحاته المعادية للأحزاب والنظام الذي تولد بعد الثورة؛ إذ وصف تلك القوة بالميكروبات السياسية التي تحتاج مكافحة ومواجهة.

هذا السيناريو الذي يمكن أن يخرج الرئيس منتصرا على خصومه، وفي الوقت ذاته يتخلص من الضغط الخارجي والدولي، ويفكك الجبهة الداخلية التي تعارض الانقلاب، ويمنحه الفرصة للحكم المطلق طيلة فترة الحكم الانتقالي، ويعطيه فرصة العودة إلى الحكم من خلال الصندوق في أول انتخابات على النظام الرئاسي الذي ينوي الذهاب إليه باعتباره المخلص.

لكن يبقى السيناريوان الثاني والثالث -أيهما أقرب للحدوث- محكومين بعامل توحد الأحزاب السياسية في وجه الرئيس وقدرتها على استخدام ورقة الضغط الشعبي بطريقة لا تفضي إلى صدامات مع الجيش والأمن، وعلاقاتها الخارجية في الضغط الدولي على الرئيس، والأهم من كل ذلك دعم الجيش والأمن للرئيس أو رفع الغطاء عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.