النهضة وقيس سعيد.. الدروس الإستراتجية والسيناريوهات المتوقعة

صورة 6: زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي/مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي/البرلمان/العاصمة تونس/يناير/كانون الثاني 2020
(الجزيرة)

في سياق سلسلة من الأحداث والإجراءات التمهيدية التي توحي بحالة تشنج سياسي وإخفاق كبير في إدارة حكومة المشيشي وبرلمان الغنوشي للبلاد، مع صرخات هستيرية لوزير الصحة بانهيار منظومة الصحة في تونس، التي كان قد سبقها انهيار منظومة الشغل وتهديد حياة الشعب التونسي، في أشبه ما يكون بمحاولة صناعة حالة فشل عام وترهيب للشعب، في ظل استغلال مريب لجائحة كرونا وتسكين الشعب في البيوت، جاءت قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد الحياة السياسية تماما في تونس (البرلمان والحكومة والقضاء)، بل وانتزاع كافة السلطات وجمعها في يد الرئيس.

من الملاحظ -حتى الآن- أن الرئيس التونسي جمد الحياة السياسية وشل الدولة تماما، ولم يقدم أي بديل إصلاحي وهذا ما يظهر سوء النية تجاه الثورة والتحول الديمقراطي، وأنه لا يمثل المصالح الوطنية للشعب التونسي، وكذلك موقفه بالغ الضعف، وإمكانية وقف الانقلاب سريعا، بل ومواجهته ومحاكمته.

جاءت قراراته وهو متحصنا بالفصل 80 من الدستور، الذي قدم له تفسيرا خاصا على خلاف ما تحدث به كل خبراء الدستور والقانون التونسي، متحصنا في قصره بقوات الجيش، ومانعا النواب من الوصول للبرلمان، ومانعا أعضاء وموظفي الحكومة من الوصول إلى مقار عملهم، ومبررا قراراته بإنقاذ البلاد، وعمله على تصحيح الأوضاع، ومحاولا إظهارها في صورة أزمة دستورية تحتمل تعدد التأويلات -حتى تستهلك الوقت وتمرر الانقلاب على الشعب- وإظهار أنه يحاول إنقاذ السفينة التونسية الغارقة.

اتخذ خطوات متسارعة في شكل برنامج عمل منظم معد من قبل، مزود ببرنامج خاص للتمهيد وتهيئة البيئة السياسية في تونس، لاستقبال وتمرير هذه القرارات الانقلابية وتجميد الحياة السياسية والقفز على التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس، وعلى مكتسبات الثورة التونسية، وأعقبها بفرض حظر التجوال، وغلق مكتب الجزيرة.

لا شك أن ما جرى انقلاب متكامل الأركان مدعوم من الجيش والأمن، الذي حاصر مبنى مجلس النواب ومقر الحكومة، ومنع نواب الشعب وحكومة المشيشي من الوصول لمقار عملها ومباشرة واجبها الدستوري.

ومع استمرار سعيد في إدارة البلاد، ومع غياب الشعب عن الخروج ورفض ووقف الانقلاب، بدا أن المرحلة الأولى من الانقلاب نجحت بالفعل، وعلى الجميع ترقب ما سيقوم به صاحب جميع السلطات في تونس.

الرئيس قيس سعيد

من الملاحظ -حتى الآن- أن الرئيس التونسي جمد الحياة السياسية وشل الدولة تماما، ولم يقدم أي بديل إصلاحي وهذا ما يظهر سوء النية تجاه الثورة والتحول الديمقراطي، وأنه لا يمثل المصالح الوطنية للشعب التونسي، وكذلك موقفه بالغ الضعف، وإمكانية وقف الانقلاب سريعا، بل ومواجهته ومحاكمته.

لا شك أننا أمام كثير من الدروس الكبيرة التي يجب أن تتعلمها الشعوب الساعية للتحرر، وسأحاول أن أوجزها فيما يلي:

  • التنظيمات الدينية العربية -وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون- ثبت وتأكد فشلها سياسيا وعدم جاهزيتها، وغياب قدرتها على القيام بأدوار سياسية غير التي تمرست عليها على مدار ما يقارب 90 عاما ماضية من ممارسة الدور الوظيفي -وهو دور "الكومبارس"- في مسرحة النظم الاستبدادية، بالمشاركة في العملية السياسية لشرعنة النظم الاستبدادية، مع ممارسة دور الضحية في كل العقود. لا شك أن لها أدوارا دعوية وتربوية واجتماعية متميزة لكنها لا تصلح تماما لممارسة مهام سياسية، وذلك لغياب أهليتهم النفسية والعلمية والمهنية والخبرات السياسية، مع إصراراهم الشديد على عدم الاعتراف بذلك، والتقدم بكل عشوائية لرئاسة وقيادة البلاد سياسيا، وتضييع ثورات شعوبها، وإعادة تسليمها فريسة سهلة طيعة لينة ليد مستبديها.
  • ببساطة شديدة جدا، تمكن قيس سعيد من إحداث انقسام مجتمعي كبير، عبر حالة تشف في الإسلاميين، وهذا ما دعا الشعب التونسي للغياب عن الشارع.
  • الشعوب العربية حتى الآن غير جاهزة للتحول الديمقراطي، هذا ما تأكد أكثر من مرة بسبب غياب وعيها الاجتماعي والسياسي، نتيجة تعرضها لقرن كامل من الاستبداد وتزييف الحقائق وتغييب الوعي والغسيل المنظم للأدمغة. فهي تحتاج إلى عملية إعادة وعي منظم ودقيق، لتطهير العقل العربي الجمعي مما اعتراه من خلل في التفكير، ومسلمات خاطئة ومفاهيم مغلوطة وتصورات غير صحيحة عن الدين ورسالته في الحياة، ناهيك عن غياب الثقافة المعبرة عن العصر والعابرة للمستقبل.
  • غياب الكتلة الحرجة من النخب السياسية والثقافية والإعلامية والدينية القوية المؤهلة لمجابهة الاستبداد ودولته العميقة ومغالبته والانتصار عليه.
  • لا بد من تحديد البوصلة الواحدة التي يجب أن تتجه إليها جهود كل الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية، وهي استكمال الثورة لتحقيق التحول الديمقراطي وتعاون الجميع على ذلك، بعيدا عن التقاطعات الأيديولوجية، والمصالح الخاصة، وتصفية الحسابات القديمة التي عملت عليها الدولة العميقة ونجحت في ذلك نجاحا كبيرا.
  • الثورة لا بد أن تكون كاملة، ولا مجال فيها لنصف ثورة أو ثلاثة أرباع ثورة، أو مجرد التجربة، وإلا أصبحت مغامرة إلى الجحيم. ولكي تكون الثورة كاملة، لا بد أن تكون مجهزة بعدة عناصر:
  1. عقيدة ثورية واحدة وراسخة بالتحرر من الاستبداد والتحول الديمقراطي.
  2. نخبة ثقافية وسياسية ناضجة وجاهزة لقيادة وإدارة الثورة حتى نهايتها.
  3. قيادات وطنية بديلة لتولي مهام إدارة مفاصل السلطة في البلاد بكفاءة بديلا عن أركان الدولة العميقة.
  4. مشروع وطني بديل يتضمن الهوية الوطنية العامة للدولة والجامعة لكافة المكونات، ومشروع اقتصادي.
  5. بديل يخرج الدولة من أزمتها تدريجيا، ومشروع سياسي واضح ومحدد داخليا للتحول الديمقراطي والمشاركة في استقرار المنطقة.
  6. قوة شعبية مؤقتة لحراسة الثورة حتى نهايتها، على أن تعود لمواقعها وأعمالها المهنية العادية بعد نجاح الثورة.
  7. لا ثورة إلا بمحاكمة رموز الاستبداد ولصوص أعمار ومصائر الشعب وثروات البلاد لعقود متتالية، على الأقل الصف الأول والثاني ليكون ذلك رادعا لبقية أركان الدولة العميقة، ومانعا من عودتهم ثانيا.
  8. الانقلابات لا بد أن تحسم في ساعاتها الأولى ووفق خطط معدة مسبقا، وذلك ما تغافلت عنه حركة النهضة.
  • فلم تبد النهضة أي ردود فعل، غير ما اعتادت عليه لعقود طويلة من ممارسة دور الضحية والمطالبة والمناشدة والتسول على الأبواب، متناسية أنها بذلك -الضعف والخذلان والتيه- تدمر مصير الأمة التونسية، وتعيدها للوراء إلى عقود طويلة، وما ذلك إلا نتيجة للفهم الخاطئ للدين ودوره في صناعة الشخصية الحضارية القادرة على تبعات التغيير والبناء، لا الشخصية الضعيفة القدرية الهزيلة التي لا تمثل الشخصية الحقيقية التي تعرفنا عليها في سير الصحابة والمسلمين الأوائل صانعي الحضارة وبناة الأمم.
  • ما حدث يتحمله الجميع -النهضة وكل الأحزاب والقوى الوطنية والمجتمع المدني والشعب- فجميعهم شاركوا في صناعة الفشل على مدار 10 سنوات متتالية، وشاركوا في يأس الشعب من الإصلاح ومنهم جميعا، ومنحوا الثورة المضادة فرصة العودة للحكم والسيطرة على البلاد والعباد مرة ثانية، ليس هذا هو المهم؛ لكن المهم الآن هو الاعتراف والانتقال إلى البحث في كيفية مواجهة الجولة الثانية من الانقلاب ومحاولة وقفه.
  • أهمية الشفافية ومصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع، والتعاون في تحمل مسؤولية التحول الديمقراطي وولوج طريق التنمية، مع التخفيف من سقف التطلعات خاصة في المراحل الأولى بعد قيام الثورة.
  • لا بد من اطلاع الشعب على العقيدة العسكرية للجيش، ومشاركة الشعب عبر مجلس النواب في اختيار قادة الجيش، حتى لا تتم سرقة الجيش في كل مرة لصالح المستبدين وتتحول الدولة إلى دولة الجيش، بدلا من جيش الدولة الذي يحافظ على مصالح الشعب.

السيناريوهات المتوقعة:

السيناريو الأول

استفاقة الأحزاب السياسة من سكرة الانقلاب وغشاوة التشفي في النهضة -المفككة من داخلها والضعيفة العاجزة سياسيا والمصرة على تصدر المشهد- ومن المصالح الحزبية الخاصة، والتحول إلى أهمية المحافظة على الحرية والمسار الديمقراطي ومكتسبات الثورة، وإعلان وحدة الأحزاب ضد الانقلاب ودعوة الشعب للخروج لوقف الانقلاب ومحاسبة الرئيس، والدعوة إلى حكومة وحدة وطنية، وانتخابات رئاسية جديدة، تتبعها خطة محددة وإجراءات حاسمة لمواجهة وتفكيك الدولة العميقة.

السيناريو الثاني

بطء النهضة والأحزاب، واستمرار حالة الإمساك بالعصا من المنتصف، والمناورة، وترك المساحة للرئيس لاستكمال برنامجه المجهول -حتى الآن- يستكمل إجراءات الانقلاب والعودة بتونس إلى ما قبل 2011.

السيناريو الثالث

في ظل حالة التراجع والإحباط الحالية، تصبح البيئة مناسبة لتقدم أصحاب خيار العنف سواء من الإسلاميين، أو من غيرهم من شباب الثورة الذي فقد حلمه ولم يعد أمامه أي خيار، وعندها تبدأ سلسلة من العنف والعنف المضاد، وستكون فرصة ذهبية للنظام في تأديب خصومه، وترهيب الشعب وإحكام قبضته على تونس كاملة، في أشبه ما يكون بسيناريو عشرية الجزائر.

تونس الآن تحتاج إلى حكماء مغامرين ومبادرين لتحويل الانقلاب إلى فرصة للتخلص منه ومن الدولة العميقة وتطهير البلاد ووضعها على المسار الديمقراطي والتنموي الصحيح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.