رهق الكتابة للفتيان!

مواقع التواصل الاجتماعي

بظني أنّ الكتابة السردية للناشئة إلى جانب اشتراطاتها الإبداعية أسوة ببقية الأجناس الأدبية، فإنّ لها خصوصية تزيد القيود والضوابط التي تسم عملية الكتابة بأسرها ما يجعل إمكانية التزام تلك الضوابط وتحقيق الإمتاع في الآن نفسه أمرًا شاقًّا وغير متيسّر لكل أحد. وكم كان مبهجًا أن أطالع أخيرًا أحد الأعمال التي زاوجت بين الاشتراطات الشاقة للكتابة للفتيان والمتعة الخالصة. أتحدث هنا عن رواية "قصة شمسة" للروائية والمترجمة التونسية وئام غداس التي نالت بها جائزة كتارا للرواية العربية عن فئة الفتيان عام 2018.

يحكي العمل الذي يقع في نحو 130 صفحة قصة الفتاة شمسة التي كانت تعيش هانئة مع أبويها في مدينة قبل أن تهتز حياتها وتنقلب رأسًا على عقب حين يقرّر الوالدان الاغتراب للعمل وتركها لدى جدتها التي تعيش في قرية مجاورة، لتنشأ مشكلات نفسية واجتماعية عدة تتفاقم حتى تخرج عن السيطرة.

اللافت في الكتابة للفتيان حين تُحقّق الإمتاع أيضا للقراء الكبار عبر خيط رفيع يُعيدهم إلى طفولتهم إما عبر ما يجدونه مشابهًا لما عاشوه أو لما افتقدوه في تلك المرحلة المبكرة، فقصة شمسة تُمرّر بهدوء القصص الأولى التي يعايشها الطفل فترافقه مدى الحياة وتصنع منه البالغ الذي هو عليه الآن

لجأت وئام غداس إلى ضمير المتكلم إذ أتاحت للشخصية الرئيسة شمسة أن تسرد قصتها بطريقة الفلاش باك متأخرة عن الحاضر 3 سنوات فقط، وهو أمر استوقفني قليلا لأسأل عن جدوى هذه المدة القصيرة وفرقها عن الحكي الآني لكني خلصت في النهاية إلى أنه خيار موفق كونه يضع الأحداث في إطار الاسترجاع والتذكر لجهة ما يحتاج إليه من وعي يفوق اللحظة الحالية عبر رؤية ما حدث وانقضى، فالفتاة لن تكون مدركة لكل ما وقع منها وممن حولها إذا كانت تحكي عما يجري الآن وهي في غمرة ألمها وضيق وعيها، كما أنه بدا ضروريًّا لجهة حبكة الحكاية التي انطلقت من حدث وعادت لتفسيره في نهاية العمل بأسلوب مشوق، فكان لا بد من الحكي عن الماضي بشكل من الأشكال.

بدت وئام في عملها هذا منتبهة جدًّا إلى أنّ اللغة في أدب الفتيان لا تختلف عنها في الأدب المكتوب للكبار، وأنّ ما يتغيّر هو الموضوع المتناول، ولكنّ هذا الموضوع على أهميته يجب ألا يقود الحكاية، فعلى النص أن ينشغل بالطريقة التي يرى بها الفتيان العالم ويفسّرونه ويتأثرون به أكثر من الصور الأكثر عمومية والفضفاضة. يذهب الاهتمام إلى طريقة تفاعل الشخصية الرئيسة مع موضوعها، أو هو الموضوع ولكن من دواخل الشخصية، وهنا تتبدى صعوبة هذا النوع من الكتابة، فهي ليست عن الفتيان من الخارج وحسب، وإنما كتابة صادرة عن ذواتهم أيضًا. وكانت الكاتبة منتبهة إلى ضرورة أن تكون الشخصية الرئيسة في عمر قراء العمل، وهو متطلّب يبرز في هذا النوع من الأدب لحاجة القارئ ولطبيعته في التفاعل مع نظرائه أكثر من غيرهم.

ولهذا ربما منح العمل مساحة معتبرة للأصوات والروائح والألوان وملمس الأشياء، والعلاقة مع الحيوانات في اقتراب حميم يخدم الإيهام بصدقية القصة وارتباطها بعوالم الناشئة. ومن أجل الإيهام أيضًا وتجنّب خدشه كانت وئام تورد كل ما يمكن أن يفوق إدراك بطلة النص عبر أساليب أخرى، كأن تسمع حديثًا جانبيا أو تقرأ رسالة تشرح حالتها بعبارات متخصصة، وقد فعلت ذلك بالطبع تحت قيد ضمير المتكلم الذي لا يمنح بقية الشخصيات الحرية اللازمة في حركة السرد.

ولكنّ اللافت في الكتابة للفتيان حين تُحقّق الإمتاع أيضا للقراء الكبار عبر خيط رفيع يُعيدهم إلى طفولتهم إما عبر ما يجدونه مشابهًا لما عاشوه أو لما افتقدوه في تلك المرحلة المبكرة، فقصة شمسة تُمرّر بهدوء القصص الأولى التي يعايشها الطفل فترافقه مدى الحياة وتصنع منه البالغ الذي هو عليه الآن، إنها الندوب البكر التي نحفظ أماكنها في أجسادنا دون أن نعرف مصدرها بالضبط. ولعلّ عدم انزلاق النص في السذاجة بغية ملائمة العمر الذي يخاطبه أسهم في هذه المتعة التي يجدها الكبار في عمل مكتوب للناشئة بالأساس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.