انعكاسات إستراتيجية للربيع الفلسطيني على حراك التضامن أوروبيا

بسبب الكوفية والهتاف لفلسطين.. الأمن البريطاني يحقق مع شرطية تضامنت مع مظاهرات فلسطين
(الجزيرة)

برغم المعاناة والتضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني خلال شهر مايو/أيار 2021 في عموم الأرض المحتلة، وخصوصا غزة، التي تعرضت لهجوم همجي طال البشر والحجر ومناحي الحياة واستهدف البنى التحتية. وهو الاعتداء الرابع من نوعه خلال 15 سنة من حصار ظالم؛ مما يراكم المعاناة ويعمق الجرح ويزيد الألم، إلا أن عوامل عديدة ساهمت في تحويل ذلك إلى مكتسبات إستراتيجية بامتياز للقضية والشعب ومستقبله المنعتق من المحتل، وذلك بعدة مجالات ومستويات منوعة وعلى أصعدة وطنية وإقليمية ودولية فاجأت صانعي القرار من قادة الكيان الصهيوني، الذي لم يكن متوقعا بكافة الاحتمالات للتخطيط الحربي والسياسي لديهم، رغم ما يملكون من أجهزة رصد وترقب إستراتيجي، وإلا لما أقدموا على فعلهم الإجرامي بحق القدس ودرتها المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وغزة وعموم فلسطين.

لم تكن أوروبا بالحراك التضامني الممتد والمتنامي في دولها المختلفة استثناء في مظاهر تعكس تحولات مهمة وحيوية ونافذة، وظهر ذلك جليا في التفاعل مع أحداث ربيع فلسطين وسياسيات الاحتلال المخالفة للقانون الدولي. وهنا نتكلم عن الفعاليات والأنشطة على المستوى الشعبي، وعن أصوات تتعالى داعمة في أروقة السياسة والقانون، وكذلك الأوساط النقابية والأكاديمية والثقافية ومجالات أخرى؛ مما يبشر بمشهد مستقبلي واعد وداعم ونافذ للقضية الفلسطينية وعدالتها بمقاييس عديدة، ويأتي هذا مع اتساع القارة جغرافيا، وتنوع ثقافات شعوبها والفروقات النوعية بينها في السياسة المحلية والدولية. ستتناول السطور التالية تفصيلا وشرحا في هذا العنوان؛ من واقع المعايشة الميدانية واطلاع الكاتب على عموم القارة.

يأتي مشهد التفاعل الشعبي والميداني الفوري والمستمر والممتد والمثابر في عموم القارة، والذي وصلت رسالته للشعب الفلسطيني في الداخل ليعضد من صموده، ووصلت رسائله لكل المعنيين باتخاذ القرار في العواصم الأوروبية

نثبت حقيقة -بموضوعية- أن دولة الاحتلال ونفوذها في القارة الأوروبية متجذران وممتدان في التاريخ، وهي حاضرة من جهة دعمها في كافة مناحي الحياة هناك، فهي صنيعة هذه الدول وحبل الحياة ممتد لها بشكل مستمر، منذ قيامها قبل ما يزيد على 7 عقود، وهو أحد أهم أسباب قوتها.

وعندما نتكلم ونبرز ونرصد حراك دعم القضية الفلسطينية، فهو بالمقابل جديد نسبيا؛ ولكنه متنامٍ ومتصاعد في وتيرة أدائه من فترة لأخرى، وله ميزات مهمة، ويكتسب عناصر قوة باستمرار تؤثر فيه، منها ما نعيش أجواءه الآن من إسناد وتضامن خلال الاعتداءات الأخيرة.

وفي مقارنة سريعة لتفاعل الشارع الأوروبي المتضامن بشقه الفلسطيني والعربي والإسلامي، والأحرار المتضامنين خلال الحروب الأربعة على غزة فترة الحصار الممتد؛ سواء شتاء 2008 وخريف 2012 وصيف 2014 وأخيرا ربيع 2021، نجد عناوين جديدة مهمة برزت خلال أسابيع العدوان الأخيرة، وإذا ما تم استثمارها سريعا وبشكل عملي، فمن الممكن أن تحدث فارقا في مناحٍ عديدة في أوروبا؛ بل سيمتد أثرها إلى الساحات الأخرى لصالح دعم القضية، وفي مقدمتها المجال السياسي والتأثير في صناعة القرار على المستوى القاري وفي الجانب القطري على حد سواء.

يأتي مشهد التفاعل الشعبي والميداني الفوري والمستمر والممتد والمثابر في عموم القارة، الذي وصلت رسالته للشعب الفلسطيني في الداخل ليعضد من صموده، ووصلت رسائله لكل المعنيين باتخاذ القرار في العواصم الأوروبية، وخلال أحداث فلسطين، التي بدأت مع محاولة إخلاء حي الشيخ جراح من سكانه واقتحام المسجد الأقصى وانتهاك حرمته، وكانت الذروة بالعدوان على قطاع غزة، والذي استمر 11 يوما، وقد فاقت الاحتجاجات والاعتصامات الألف فعالية بالحد الأدنى في عموم الدول الأوروبية ومدنها، ويأتي هذا رغم منع التظاهر في باريس الفرنسية والنمسا لأسباب غير مبررة -من وجهة نظرنا- مما يعد انحيازا لدولة الاحتلال. وكذا السويد بسبب إجراءات جائحة كورونا في منع التجمعات العامة.

وميّز هذا التفاعل أنه كان حاشدا وممتدا وبشكل يومي طوال الأحداث وبدون انقطاع، وبلغ حد أكثر من مظاهرة في المدينة الواحدة في اليوم الواحد. ونوعت المظاهرات في أشكالها بين المسيرات الراجلة وسط الشوارع، وبين الوقفات أمام أماكن سياسية مهمة وذات دلالة؛ كسفارات العدو، ومكاتب رئاسة الوزارات ووزارات الخارجية والسفارات للدول النافذة كالأميركية منها في العواصم الأوروبية. ونذكر في هذا السياق مظاهرة لندن الجماهيرية النوعية، وكذا مظاهرات عواصم القارة في برلين وكوبنهاغن وبروكسل وأمستردام ودبلن وروما وفيينا، وكذا مدن رئيسة كان لها حضور بارز في المظاهرات الحاشدة كمانشستر وميلانو وروتردام وفرانكفورت، ونذكر الحضور المتقدم والمتفوق لشبكة التواصل والتنسيق في المدن الفرنسية -خلاف باريس- بشكل وصل للعشرات من المظاهرات في اليوم، ومدن سويسرا الرئيسية، ونذكر أيضا اعتصام الأكفان في العاصمة الدانماركية (كوبنهاغن)، التي ترمز للضحايا الفلسطينيين من الأطفال بصورهم وأسمائهم وأعمارهم.

ومن الجديد والمهم في الأحداث الحالية، تعميق الوحدة الفلسطينية بين مكونات المؤسسات العاملة في القارة بشكل لافت في أغلبيتها الواضحة، وخروج المظاهرات بشكل وحدوي واضح، وبروز مؤسسات واعدة في أدائها في السياق ذاته؛ كمبادرة فلسطينيي أوروبا للعمل الوطني والالتحام المؤسساتي المحلي في الأقطار، وفي إدارة مشهد الإسناد أثناء العدوان الأخير في عموم الأقطار وبدون استثناء.

ولا بد أن نذكر عودة القضية الفلسطينية إلى مكانتها في الدعم لدى الأقليات العربية والإسلامية في أوروبا، بعد تراجعها في السنوات الماضية لأسباب عديدة، نذكر منها الاهتمام في القضايا المحلية، التي تعمّق الجرح النازف فيها كاليمن وسوريا وليبيا؛ لكن ثبتت حقيقة مدى المكانة الراسخة للقدس والمسجد الأقصى وفلسطين في الضمير الجمعي العربي والإسلامي، وانعكاس هذا في مشاهد نادرة في اجتماع الفرقاء؛ بل والمتنازعين والمتناحرين محليا في الدول المختلفة، حيث إنهم اصطفوا كتفا بكتف إسنادا للقضية الفلسطينية وهبة المقدسيين ومقاومة الغزيين وانتفاضة شعبنا في الضفة وأراضي الـ48.

وكان لأئمة المساجد والعلماء دور بارز في حضور مظاهر الدعم بما يتلاءم مع القوانين الأوروبية. وظهر التنافس المحمود بين مكونات الجاليات، والحرص على بروز الهوية المحلية في الإسناد، فكانت أعلام الدول المختلفة ترفرف إلى جانب العلم الفلسطيني مما يعطي زخما للتظاهرات.

ويأتي انخراط عنصر الشباب وتسيده للمشهد بمختلف أصوله الفلسطينية والعربية والإسلامية والأوروبيين بشكل مكثف ومنوع ومستمر وبجانب إبداعي؛ علامة فارقة في التفاعل مع الأحداث خلال الأسابيع الماضية. ومع امتلاك الشباب قوة اللغات الأجنبية والتحصيل العلمي ومعرفتهم بالتكنولوجيا الحديثة؛ خاصة منصات التواصل الاجتماعي، وامتلاكهم مهارات التعامل معها، والتنويع بمستويات متقدمة، وانخراطهم بشكل معقول بالنسيج الثقافي والاجتماعي ومناحي الحياة، شكّل كل ذلك علامة فارقة في التأثير وحضور المظلمة والرواية والسردية الفلسطينية.

فقد كان المكون الشبابي جزءا مهما ومعتبرا عددا وطبيعة وإسهاما في المظاهرات والاعتصامات ومظاهر الدعم، التي عمت القارة شرقها وغربها، وبشكل فيه حيوية وجرأة سواء كان ذلك بالشعارات والكلمات وقيادة المشهد وجموع المحتشدين.

ومن الأمثلة العديدة والمنوعة قيام الشباب في مدينة آرهوس الدانماركية بتأليف كلمات أغنية باللغة المحلية بعنوان "الحرية لفلسطين" وتلحينها، واستخدامها في المظاهرات، وأداها المغني والملحن المشهور راسموس بوس هناك.

ومثال آخر استخدام شباب فرنسي لمنصات ألعاب الفيديو المنتشرة بينهم بكثرة، لجمع التبرعات لفلسطين في حملة مرخصة قانونا تحت عنوان "حملة 72 ساعة من أجل غزة"، وتم جمع 90 ألف يورو في هذه الحملة.

ومن العلامات الفارقة والجديدة سرعة التفاعل مع مفردات القانون والتنسيق الفوري لتقديم قضية ضد دولة الاحتلال وقادتها ومحاسبتهم على جرائمهم، وكان ذلك لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي الهولندية قادتها مؤسسة "العدالة واحد" الفرنسية.

وفي المجال السياسي، نجد الحضور السريع، خاصة من جيل الشباب، للضغط على صانعي القرار السياسي على المستوى الرسمي والبرلمانات والتواصل الفوري معهم، ومطالبتهم باتخاذ قرارات إدانة بحق الجرائم.

ونَدَّعي أن ما انعكس من مواقف السياسيين، ومواقف الدول الأوروبية، مواقف جديدة وغير مسبوقة يعود جزء مهم منها لهذا التفاعل من الاعتصامات والتظاهرات والمجموعات الضاغطة. نذكر مواقف برزت من سياسيين على امتداد القارة بدون استثناء مما لو تم استثمارها ستصنع فارقا لصالح دعم القضية، والوقوف في وجه دولة الاحتلال.

ولعل مؤشر التصويت للدول الأوروبية، التي لديها عضوية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي انعقد يوم الخميس 27 مايو/أيار المنصرم في جنيف للتداول في قرار تشكيل لجنة تحقيق في الاعتداء الصهيوني الأخير، أفرز امتناع هولندا وإيطاليا وفرنسا والدانمارك وبولندا وأوكرانيا؛ مما يمكن اعتباره عدم ارتياح من تلك الدول ورفض لسياسة العدوان الإسرائيلية.

ونشير أيضاً لمواقف متقدمة في البرلمان الأيرلندي والدانماركي، وحضور ميداني في المظاهرات لسياسيين بارزين على امتداد القارة، وتصريحات نوعية متعددة لسياسيين في السويد والنمسا وفرنسا وبريطانيا وأيرلندا وهولندا والدانمارك.

وفي الجانب الإعلامي، وهنا نتوقف باهتمام أمام عدة أبعاد نعتبرها مهمة وإستراتيجية، ويأتي في مقدمتها الإعلام الجديد والامتدادات الشعبية له، والبعد الفردي الإبداعي فيه، خاصة عند جيل الشباب. أضف إلى ذلك بروز مؤسسات إعلامية مختصة بقضايا الشرق الأوسط، وخاصة بالقضية الفلسطينية، ومنصات إعلامية وقنوات فضائية سواء رسمية أو خاصة وباللغات الأجنبية، اهتمت بالحراك الممتد ورصدته؛ مما جعل أثره يمتد في الرأي العام الأوروبي.

كل ما تقدم تأثر بعوامل عديدة كانت سببا في تفاعله، وغذت استمراره؛ أهمها فيما نرى هو نقل الأحداث لحظة حدوثها عبر الإعلام الفضائي، والتنافس بين تلك الوسائل وبلغات العالم. وتأتي أهمية هذا بنقله لوحشية دولة الاحتلال، وعدم اكتراثها بالعواقب، كما نقلت الكاميرات التدمير، الذي حصل في قطاع غزة. ونذكر أيضا نقل مظاهر مقاومة الشعب الفلسطيني الأعزل ووحدته في كل أماكن وجوده. ونقل صورة المسجد الأقصى وأحداثه بما يحمل من معاني القداسة عند مسلمي العالم، ومنهم ملايين في أوروبا. وهنا جاء نقل القصص الإنسانية، والمآسي التي حلت، ومظاهر التماسك والإرادة الصلبة لشعبنا الفلسطيني، والإصرار على التجذر بالأرض. وهذا كان أيضا في حي الشيخ جراح، الذي أصبح أيقونة الأحياء في العالم، ورمزا للتمسك بالحقوق.

ونشير إلى حادثة قصف برج الجلاء، الذي يحوي مكاتب صحفية عالمية؛ كقناة الجزيرة و"أسوشيتد برس" (Associated Press)، وكيف خدم هذا باستعداء الصحافة العالمية على دولة الاحتلال. ونشير إلى مظاهر الوحدة الوطنية الفلسطينية سواء في الميدان أو على المستوى السياسي في الداخل والخارج، وانعكاس ذلك إيجابا على الشارع الداعم للقضية في أوروبا.

ونشير أيضا إلى تراكم الجهد المتضامن عبر السنين، ووجود بنى تحتية لشبكة المؤسسات، التي ربطت نفسها بفلسطين، والتنسيق بينها قاريا ومحليا، وكان لتزامن الأحداث مع إحياء ذكرى النكبة، وهي الأهم في الروزنامة الوطنية الفلسطينية، قد خدم تعاظم المسيرات والاعتصامات وغذى زخمها، ذلك أن المؤسسات الداعمة للقضية تحضر لأسابيع وأشهر سابقة لذكرى النكبة. فاجتمعت القدس ومكانتها، واقتحامات المسجد الأقصى، ومحاولة تهجير أهالي حي الشيخ جراح، وحصار قطاع غزة، والاعتداء على شعبنا ببشاعة، وذكرى النكبة وإحيائها؛ لتشكل محركا للشارع الداعم للقضية في أوروبا.

وأخيرا، نرى أنه من الأهمية الإستراتيجية استثمار الفرص التي سنحت من زخم دعم القضية، وذلك في المجال السياسي والقانوني والشعبي والإعلامي والخيري، وفي القطاعات الشبابية والنقابية والأكاديمية والثقافية، وهذا يأتي في الوسط الفلسطيني والعربي والإسلامي والأوروبي في جنبات القارة. ونرى أن أجواء جديدة داعمة للقضية تتبلور في القارة الأوروبية، والزمن القادم يقترب أكثر من الحقوق الفلسطينية ويناوئ دولة الاحتلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.