الإخوان فوبيا في مصر بين نزع الإنسانية وأيديولوجيا الأمن القومي

تأجيل محاكمة مرشد الإخوان المسلمين محمد بديع
تأجيل محاكمة مرشد الإخوان المسلمين محمد بديع (الجزيرة)

لم يحظ، بالتحليل الكافي، المشروعُ المقدم بتعديل قانون الخدمة المدنية في مصر الذي يقضي بفصل العاملين بالجهات التابعة للدولة، والذين يثبت انتماؤهم لجماعة الإخوان المسلمين أو المتعاطفين معها أو الذين يعتنقون أفكارًا مناهضة للدولة، ولم تتم مناقشته في علاقته بظواهر أخري لا يبدو للوهلة الأولى أن هناك رابطا بينها.

ففي نفس التوقيت صدرت أحكام الإعدام في قضية "فض رابعة" وهو توجه عام متصاعد من قبل النظام. كما صدر قرار بقصر بيع الأراضي على المطورين العقاريين، وضُم كثير من أصول الدولة للصندوق السيادي الذي يتمتع بشخصية اعتبارية محصنة من القيود القانونية التي كانت تحكم مؤسسات الدولة المختلفة في تعاملها المالي. ويمكن أن نضيف قائمة طويلة من القرارات والقوانين التي صدرت، مثل التصالح (في قضايا) المباني العقارية وتعديلات قانون الشهر العقاري، وتصاعد استخدام تكنولوجيا المعلومات في عديد المجالات.

لذا يصبح البحث عن صيغة تحكم كل ذلك واجبا تشتغل به النخبة المصرية، وهو عندي يستند إلى مفاهيم ثلاثة: الدولة المعاصرة ومنطق الحرب الذي هو في حالتنا "حرب على الإرهاب" والتقدير السياسي وبناء الدولة "المفترسة" ذلك المفهوم الذي صكه علم الاقتصاد السياسي ويطلق على الدولة التي تروج للمصالح الخاصة للجماعات المهيمنة داخلها أو المجموعات الخاصة المؤثرة التي تتمتع بسلطات ضغط قوية، وأخيرا علاقة ذلك كله بتحلل جهاز الدولة المصرية.

من الملاحظات الهامة التي ألتقطها بخبرة السجن أن من يمتلك القوة في الدولة المعاصرة ينتج اللاشرعية القانونية، وهي تتضمن تهميشا اجتماعيا وفكريا وسياسيا وعرقيا

الدولة المصرية ومنطق الحرب

في "الحرب علي الإرهاب" كما في الحرب على الهجرة غير المشروعة، والحرب على الجريمة المنظمة، والحرب على الوباء، تستخدم الدولة المعاصرة -في حروبها تلك- آليات متشابهة لتحقيق النصر على عدو غير واضح المعالم والحدود، ويتم تعريفه وفق مصالح كل دولة، وفي الحروب كل شيء مشروع أو يمكن شرعنته لتحقيق النصر الذي لا يأتي أبدا.

تسير الدولة تجاه المختلف عرقيا أو ثقافيا أو دينيا، أو الإرهابي أو المهاجر غير الشرعي أو المجرم قانونا، في مسارات متعددة تبدأ بنزع الانسانية لتنتهي بنزع المواطنة عن الشخص أو الفئات المستهدفة، وتستخدم في سبيل ذلك الآليات التالية:

  • نزع الإنسانية، فالأميركان السود والمهاجر والإرهابي مجردون من الإنسانية، ومن ثم يجب ألا تتم معاملة من نزعت إنسانيته بالمساواة لأنهم يعتبرون أقل قيمة، ويتم الاعتداء على حياة هذه المجموعات تماما عن طريق تحويلهم إلى صور نمطية أو أرقام لا معني لها [تأمل كيف يتم إغفال الحديث عن العواقب الإنسانية لتعديلات القانون على أسر المفصولين] وعندئذ يبدأ العنف الممنهج المبرر أو "المشروع".

ويدرك هذه الحقيقة المتتبع لتقارير حقوق الإنسان عن مصر، فتجاوزات مؤسسات إنفاذ القانون لا يمكن لها أن تستمر في عنفها المنظم تجاه المسجونين كل هذه السنين وبهذه الدرجة من الاتساع والقوة، ولا يمكن لتابعيها أن يحافظوا على درجة هذه التجاوزات واستمرارها دون نزع الإنسانية عن الطرف المقابل الذي يتحول إلى عدو في حروب غير واضحة المعالم والأهداف.

  •  التجريم، فالمجرم مخلوق وفق الخيال القانوني باستخدام أدوات الدولة، ويأتي احتكارها للعنف من خلال مؤسسات إنفاذ القانون ليضمن تنفيذ وتطبيق التجريم على فئات محددة، وتتطور من خلال استخدام التقنيات التشريعية والإجراءات البيروقراطية لتصنيع الجماعات المجرمة، وتكون الدعايات والأيديولوجيات والأفكار لإضفاء الشرعية المعنوية على التجريم القانوني.

ثنائية المجرم/غير المجرم تخلق المعيارية المعنوية والتشغيلية -أي الصح والخطأ والحسن والقبيح- للمجالين العام والخاص معا. وتستخدم الدولة مفاهيم الحرب/الأمن القومي والسيادة لتعزيز نطاق هذه المشروعية، وتحديد الفئات/الأفراد المشمولين بها والخارجين عنها، وكثير من الإجراءات القانونية في الحروب المتعددة التي تشنها الدولة تستند إلى الإجراءات الاستثنائية من عدم افتراض للبراءة (الإرهابي) أو الحق في محاكمة عادلة (غوانتانامو) أو عدم إدانة أفراد الشرطة في الأحداث التي يتم فيها تجاوز منهم لأنهم في حالة دفاع مشروع عن النفس.

من الملاحظات الهامة التي ألتقطها بخبرة السجن أن من يمتلك القوة في الدولة المعاصرة ينتج اللاشرعية القانونية، وهي تتضمن تهميشا اجتماعيا وفكريا وسياسيا وعرقيا، ورغم قدرة من يملك القوة في تحديد اللاشرعية فإن ذلك ينتهي عادة إلى نزع المشروعية عن الفئات التي تحاربها، فالنظام المصري بعد عام 2013 اتخذ التدابير القانونية كافة التي تضمن تصحير المجال العام، إلا أن التزامه بالشرعية التي أنتجها تظل محدودة في مجال حقوق الإنسان، ففي حالات كثيرة استمر الحبس الاحتياطي لمدد طويلة رغم أن أقصى مدة للحبس الاحتياطي -وفق القانون الذي تم تعديله من قبل نفس النظام- سنتان فقط، فهل يمكن أن يتم ذلك إلا بنزع الشرعية القانونية عن السجين بعد نزع الإنسانية.

  • تطور التمييز ليكون ثقافيا، فأوضاع الفقراء والفئات الضعيفة والإرهابيين هو نتاج طباعهم أو ثقافتهم وليس نتاج تخلي الدولة النيوليبرالية عن سياسات الدعم الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، والمسلمون جميعا -في سياسات الحرب علي الإرهاب- تهديد للحضارة بحكم ثقافتهم/دينهم، والفقراء باتوا كذلك لأنهم لا يريدون أن يعملوا، وليس بسبب سياسات إعادة التكيف الهيكلي التي جعلتهم أكثر ضعفا، والإرهابي صار كذلك لا بسبب سياقات يمكن معالجتها ولكن لطبيعة تدينه وأفكاره التي يعتنقها.
  • صناعة التهديد: المهاجرون تهديد للوظائف ومستوى معيشتنا، والمسلمون تهديد للحضارة الغربية بقيمها، والسود تهديد لهيمنة الرجل الأبيض، والفيروس تهديد للاقتصاد والعولمة قبل البشر وصحتهم، والإرهاب تهديد للدولة الوطنية والاستقرار، والفقراء تهديد للنمو الاقتصادي… إلخ، وهكذا يعيش الإنسان المعاصر في تفزيع وتخويف مستمر ليبقى الحال كما هو عليه، حين يتم إلقاء اللوم على الأقليات، والفقراء، والجماعات الإرهابية، والعمال المهاجرين، رغم أنهم جاؤوا لملء فجوة توفر عمالة رخيصة في ظل تحولات إقتصادية.

في سياسات التفزيع، دائما يتم استبدال شيء بآخر عبر ثنائيات متعددة يتم إبراز التناقض والتعارض بينها: الحماية من الفيروس مقابل انتهاك الخصوصية والتنازل عن بعض حقوق الإنسان. وفي الحرب على الإرهاب، الحفاظ على الدولة مقابل القمع وغلق المجال العام. وفي الهجرة، الرفاهية الاقتصادية مقابل منع الهجرة… إلخ. المشكل أن الحروب لا تنتهي ولا يتم تحقيق الهدف الذي تم التنازل له: حفظ الدولة أو القضاء على الفيروس، أو  الاستقرار أو زيادة الوظائف أو الرفاهية الاقتصادية. فهل يمكن أن تشرح لي استمرار الحرب على الإخوان كل هذه السنين رغم سرعة النجاح في تصحير المجال العام مع فشل القضاء على الإرهاب في سيناء.

إن نزع المواطنة عبر التصنيف/الإزالة، الدولة تستثمر قوتها في تحديد المشمولين بمواطنيتها، وتخلق الاستبعاد الوطني وتحوله إلى قواعد مؤسسية، وهذا يفسر سر الانتقال إلى القانون الآن رغم ما جرى سابقا من استبعاد كثير من الإخوان والمعارضين من جهاز الدولة.

  • الدولة تخلق عملية إزالة موحدة من خلال توسعة الجرائم التي تؤدي إلى الإزالة، فهي تستخدم -علي سبيل المثال- آليات إثبات قانونية أقل للفئات التي تشن عليها الحرب، وتوفر حماية إجرائية أقل من القانون العادي لهذه الفئات. ففي مكافحة الإرهاب ومناهضة الهجرة غير الشرعية ومواجهة عنف الأقليات، هناك اتساع دائم للسلطة التقديرية لمؤسسات إنفاذ القانون أو مبالغة في استخدام العقاب.

    ماذا تعلمنا هذه الآليات؟

  • إذا تم محو المختلف سياسيا ودينيا ولغويا وعرقيا واجتماعيا، فلن يبقى أي شخص أكثر أمانا، وسيكون هو الهدف التالي.
  •  يجب التنبه إلى أنه في كل مرحلة من مراحل صراع الدولة المعاصرة مع قضية ما، يترك لهذه القضية أن تقود المجالات الأخرى وتعيد تشكيلها. ففي الولايات المتحدة لم تتم صياغة سياسات جديدة للهجرة بعيدا عن الحرب علي الإرهاب بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، كما جرى تصحير المجال العام في مصر منذ 2013 في إطار الحرب على الإرهاب وما أسميه  عقيدة/أيديولوجية الأمن القومي التي تقوم على التفزيع والتخويف من مصير سوريا وليبيا واليمن.
  • انتقاص حقوق الفئات، التي يتم شن الحرب عليها بتحويلهم إلى حالة اللامواطنة، هي المقدمة الضرورية لانتهاك حقوق المواطنين أنفسهم. فقد أثبتت الدراسات أن الحقوق التي يتم انتقاصها أوقات الحروب والأزمات لا يتم استردادها لأننا ننتقل من حرب  لأخرى.

التقدير السياسي والدولة المفترسة

الملاحظ على مشروع القانون المقترح أنه ينقل سلطة التقدير، التي كان يضطلع بها عدد محدود من أجهزة الدولة الأمنية والقضائية، ليشيع هذه السلطة وينقلها إلى مستويات وسطى في الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو بهذا يوسع من مفهوم التقدير السياسي الذي يقوم على الوضع وليس العقد، أي عدم الالتزام الموثوق ببناء قواعد سياسية وقانونية يمكن أن تحد من أيدي السلطة في التقدير السياسي.
التقدير السياسي بطبيعته يهدف إلى إفادة طرف على حساب آخر بما يلقي بظلاله -كما رصدت دراسات الاقتصاد السياسي- على التنمية الاقتصادية، فلا يمكن أن تحدث التنمية  إذا كانت الدولة أداة للافتراس العام، أي نقل الموارد من طرف إلى آخر يمارس سلطته التقديرية. إن التقدير السياسي لإلغاء امتياز قانوني أنه لا يمكن أن يحدث دون إنشاء امتياز قانوني آخر في نفس الوقت، لأن التقدير السياسي بطبيعته يهدف إلى إفادة طرف على حساب آخر، وهو في حالتنا العصف باستقرار الموظف العام لصالح رؤسائه.

وإذا كانت حركة المجتمعات انتقالًا من الوضع إلى العقد، فإن التنمية الاقتصادية سوف تتحقق من خلال الشروط المؤسسية التي لا تلغي الامتيازات القانونية بالقوة، لكنها تقوض القائمة منها عبر قواعد واضحة ومحددة تتمتع بالثقة من الجميع. ويجب أن ندرك أن عملية التنمية الاقتصادية هي بالأساس عملية انتقال مؤسسي، وأي انتقال يعني ضمناً تكلفة مفروضة على المستفيدين الحاليين من النظام لصالح قطاع عريض من السكان. وتضيف لنا هذه الدراسات ملمحا آخر وهو أن محاولات تغيير قواعد اللعبة من خلال التقدير السياسي لن تؤدي إلا إلى التحريض على البحث عن الريع، وهذا يفسر تضخم مكون الاستثمار العقاري في الاقتصاد المصري مما يؤدي إلى تبديد أكبر للثروة.

نقطة انطلاق افتراس الدولة -أية دولة- تتمثل في كيفية تقليل تكاليفه عن طريق إقناع فرائسها بأنها ليست فريسة. وستكون الدولة المفترسة أكثر نجاحًا إذا تمكنت من إقناع مواطنيها بأن أنشطة الدولة يتم الاضطلاع بها من أجل المصلحة العامة أو الحفاظ على الدولة وأمنها القومي، مما سيعزز الامتثال الطوعي لتفويضات الدولة ويقلل من حاجتها إلى تخصيص الموارد للإكراه الصريح.

 

من الواضح إذن أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تحدث إذا كانت الدولة أداة للافتراس العام، أي نقل الموارد من طرف إلى آخر يمارس سلطته التقديرية، وإذا تم تمكين التقدير السياسي فسوف تتدهور حالة الإنتاج، وذلك لأن التقدير السياسي بطبيعته يشكل افتراسًا عامًا. فنقل الدولة لحقوق الملكية، الذي يهدف إلى إفادة طرف واحد، لا يمكن أن يحدث دون مصادرة موارد طرف آخر في نفس الوقت. [تأمل كيف تم قصر بيع الأراضي على المطورين العقاريين دون الأفراد].

لقد أوضحت الدروس المستفادة من الاقتصاد السياسي الانتقالي أن المحاولات حسنة النية لإصلاح الاقتصاد قد ألحقت ضررًا أكثر من نفعها، نظرًا لأن مثل هذه الإصلاحات قد بدأت من خلال الاستبعاد السياسي، وليس الالتزام الموثوق به مسبقًا بوضع  قواعد سياسية تحجم من التقدير السياسي.

ويرتبط بهذه النقطة أن مكافحة الافتراس تتطلب أن ينشئ الأفراد مؤسسات للعمل الجماعي توفر باستمرار فرصًا للفريسة للدفاع عن نفسها من الدولة المفترسة، وهذا ربما يوضح سبب إضعاف مؤسسات المجتمع المدني التي كان يمكن من خلالها التفاوض حول تحسين شروط الافتراس. كما يعتمد مدى الافتراس على ما يستطيع المفترس التقاطه، وعلى قدرة الفريسة على التهرب من الأسر. فنطاق الدولة المفترسة يتقلص عندما تكون الأصول بعيدة عن نظر المفترس، وفي مقدمتها العقار في مصر الذي هو مخزن الثروة الأول عند المصريين. وهذا يفسر المنحنى المتصاعد لاستخدام تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي لرؤية الدولة ما لا تراه من حركة المجتمع خاصة في الاقتصاد غير الرسمي.

وأخيرا، نقطة انطلاق افتراس الدولة -أية دولة- تتمثل في كيفية تقليل تكاليفه عن طريق إقناع فرائسها بأنها ليست فريسة. وستكون الدولة المفترسة أكثر نجاحًا إذا تمكنت من إقناع مواطنيها بأن أنشطة الدولة يتم الاضطلاع بها من أجل المصلحة العامة أو الحفاظ على الدولة وأمنها القومي، مما سيعزز الامتثال الطوعي لتفويضات الدولة ويقلل من حاجتها إلى تخصيص الموارد للإكراه الصريح.

وهكذا، فإن أيديولوجية الأمن القومي تضفي الشرعية على الإجراءات الحكومية التي تفرض تكاليف على البعض لمنفعة الآخرين، بناءً على فكرة أنه عندما تفعل ذلك فإنها تعمل من أجل أن "تحيا مصر". ويتم ذلك من خلال اختزال الدولة في شخص أو تحالف محدود يحكم. وهنا يمكن الإشارة إلى ظاهرة تبديد رأس المال التاريخي الذي أنجز على مدار القرنين الأخيرين في مصر، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي، بحيث بتنا الآن أمام معضلة تصيب كل الدول العربية وهي أن استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.

الخلاصة التي يقدمها لنا أحد علماء الاقتصاد السياسي وصفا للدولة المفترسة بقوله "لدينا نظام سياسي يمنح سلطة مفرطة لمن هم في القمة، وقد استخدموا هذه القوة ليس فقط للحد من مدى إعادة التوزيع [يقصد توزيع الموارد والثروة وأضيف السلطة] ولكن أيضًا لتشكيل قواعد اللعبة لصالحهم".

تحلل الجهاز المدني للدولة

يلاحظ أن مشروع القانون يضفي طابعا أمنيًا علي الجهاز البيروقراطي للدولة بعد هيمنة الأخير التامة على المجال العام، كما أنه استكمال واستمرار في التوجه العام للدولة المصرية منذ مبارك نحو عدم تحصين الموظف العام من الفصل، ويعيد صياغة علاقة الدولة بالبيروقراطية، وفكرة الموظف العام التي قامت على وجوب استقرار مركزه القانوني، وإلا أدى إلى انهيار البناء المؤسسي وتآكله. فالوظيفة العامة -بحكم طبيعتها- تقوم على عمل طويل المدى عبر تحصين المركز القانوني للقائم بها. ويصف لنا المرحوم طارق البشري في مقاله الهام عن طبائع الاستبداد ما أصاب جهاز الدولة في عهد مبارك، فيقول: وهنا نجد أنه في السنتين أو الثلاث الأولى من التسعينيات أصدر مجموعة من القوانين يتعلَّق أولها بتعيين القيادات في المناصب القيادية في الدولة بحيث يكون تعيينهم وقتيًّا ويعيَّنون لا من خلال حقوق ومراكز قانونية سابقة لهم ولكن من خلال محض اختيارات الرئاسة لهم. وكان ذلك يتعلَّق بالوظائف أو ما يسمى الوظائف الحكومية غير التكرارية أو وظائف القيادات.

في ذات الوقت كانت شركات القطاع العام المنتجة والتي تزيد على 411 شركة تتبع الوزارات المختلفة حسب نوعيَّاتها. فالشركات الزراعية تتبع الزراعة، والصناعية تتبع الصناعة، والتجارية تتبع التموين… إلخ، وتشرف عليها هيئات ومؤسسات عامة. فعدّل هذا النظام وجعله نظام شركات تتبع شركات قابضة، وذلك لإمكان التصرف فيها بالبيع في المستقبل. وجعل لكٍّل منها مجالس إدارة تتغَّير كل 3 سنوات بشأن الوظائف القيادية غير التكرارية في الحكومة. وقرر ذلك باسم الديمقراطية وأنها انتخابات تجري من الجمعيات العمومية لكل شركة. والحقيقة أن هذه الجمعيات العمومية كلها مجلس إدارة الشركة القابضة الذي يعيّنه وزير واحد هو وزير قطاع الأعمال العام. فباسم اللامركزية وضع كل الشركات بيد وزير واحد بدًلا من عدد من الوزراء، وباسم الديمقراطية جعل كل مجلس إدارة لشركة يتغَّير كل 3 سنوات ممَّا يزعزع المراكز الثابتة في مواجهة رئيس واحد وليس مواجهة مساهمين.

ومن هنا بدأ التفكك بهذه الإدارة المصرية على مدى سنوات التسعينيات، كان كل أصحاب المناصب الوسيطة أو العليا أو غير التكرارية، في القطاع المدني، وفي شركات القطاع العام، كل هؤلاء يشيع بينهم فكرة "إطفاء المََكن" أي ألا تعمل أعماًلا قد تجلب عليك سخط رئيس ساخط عليك، أو تكون ذات نتائج بعيدة في الأداء العام لأجهزة الدولة المختلفة أو شركات القطاع العام أو غيرها. ومن هنا بدأ التفكك والتحلل، ثم بدأ بيع القطاع العام، وبدأ التفسخ في أجهزة الدولة تظهر آثاره في انهيارات كاملة للعمل في كل المجالات. وساعد على ذلك أنه في القطاع العام وضع فكرة "المعاش المبكر" أي إنه من سن الخمسين يستطيع الموظف أن يطلب إحالته إلى المعاش وذلك لكي يشجع كل ذوي الخبرة في هذه القطاعات المختلفة على الخروج من الخدمة في الوقت الذي يحتاج جهاز الإدارة لعمل هؤلاء بخبراتهم السابقة كلها لتدريب ونقل الخبرة للأجيال المختلفة بعدهم.

هذه وسائل تفكيك وتفسيخ جهاز الدولة بكل تشكيلاته، فأصبح جهاًزا خاضًعا فقط لرئاسته الفردية. وشلت تماما قدرة المستويات المختلفة من المهنيّين وذوي الخبرات الفنية في فروع النشاط المختلفة، وشلت تماًما قدرته على الفعل النافع بعيد المدى. وكل هذا يجري وأكثر منه في ظل ارتفاع وتيرة التوترات الاجتماعية التي تتجلى بوضوح في انهيار الثقة الاجتماعية. فعندما سأل الباروميتر العربي عن إمكانية الثقة في الأشخاص الآخرين، أجاب 30% فقط من المشاركين في الاستطلاع بنعم عام 2019 مقابل 55% عام 2011 (يمكن الثقة في معظم الأشخاص). وفي حين كان 10% فقط يفكرون في الهجرة عام 2011، ازدادت النسبة زيادة هائلة فبلغت 30% وفقاً لآخر استطلاع أجرته شبكة "الباروميتر العربي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.