كيف نفهم حماس قبل وبعد صواريخ غزة؟

تصعيد إسرائيلي ضد قطاع غزة والمقاومة ترد بالصواريخ
(الجزيرة)

في مطلع العام، أوردت صحيفة "جيروزاليم بوست" أن إسرائيل اليوم أكثر أمانا من أي وقت مضى، رغم تزايد الجهات التي تهدد أمنها، وأكدت تمكن نظام القبة الحديدية من إسقاط صواريخ حماس والجهاد الإسلامي القادمة من قطاع غزة.

اليوم، تبددت هذه الرواية على وقع صواريخ غزة، على الأقل ما يتعلق منها بمناعة القبة الحديدية، لكن ماذا عن نجاعة الخيار العسكري للفصائل ضمن ميزان القوى غير المتكافئ؟

من منظور ثورات الربيع، يمكن الوقوف بسهولة على مشروعية السؤال عن جدوى تحويل المقاومة السلمية في الأقصى لمواجهة مسلحة، خاصة مع كل ما يضمره الوجدان العربي من رفض للاتجار الرخيص بشعارات المقاومة، لا سيما المرتبطة بشكل مباشر بالمال الإيراني.

ولكن من غير الجدير في التعاطي مع المشهد القائم في القدس الانطلاق من المواقف المسبقة من حماس، بل وبعيدًا عن الاتفاق أو الاختلاف مع حماس، وبعيدًا عن الانتماء الأيديولوجي والتصنيفات المعلبة المعدّة للتصدير؛ يمكن لنا تفكيك المشهد القائم، وتحديد المصلحة الفلسطينية المحضة، وهي واحدة رغم اختلاف منهج التحليل، سواء أكان براغماتيًا أم مبدئيًا أو بنائيًا، بما يجعل من المشاركة فرصة بكل المعاني.

التشكيك في جدوى التصعيد العسكري يستند في الأساس إلى مقاربة تعول على التضامن العالمي، ولا شك أنه عنصر مهم، ولكن بوصفه سبيلا لبلوغ المنجز السياسي المرجو والمتمثل في إيقاف تهجير المقدسيين -في المواجهة الحالية- لا بوصفه منجزًا قائمًا بنفسه يستدعي التنازل في الخيارات لأجل الحفاظ عليه في المكتسبات، لا سيما مع فشل مجلس الأمن في إصدار بيان مشترك، وذلك قبل صواريخ حماس.

مشهد ما قبل الصواريخ (محليا):

في القدس

على امتداد أيام، مشهد بطولي سلمي استطاع حشد تضامن عالمي يوصف بالواسع، لا سيما قضية التطهير العرقي في حي الشيخ جراح.

في الضفة

غليان شعبي مع عجز حكومي برئاسة محمود عباس، الذي وجد في الأحداث ذريعة لتأجيل انتخابات يخشى مسبقًا الخسارة فيها لصالح حركة حماس.

في القطاع

غليان شعبي تضامنا مع القدس رغم تعب الحصار المضني الطويل على غزة، وغياب موقف حكومي/فصائلي واضح طيلة أيام رمضان حتى 27 منه.

فلسطين المحتلة (في أراضي الكيان الصهيوني)

حكومة بنيامين نتنياهو المأزومة باستمرار، من الانتخابات إلى تشكيل الحكومة وما بعد تشكيلها، إلى جانب حالة احتقان كبير بين صفوف عرب 48 توصف بأنها نوعية وفريدة، وتنذر بانقسام أفقي داخل دولة الاحتلال ذي تداعيات أمنية بعيدة.

عربيا

تضامن شعبي واسع، ومواقف عربية من دول الطوق منددة بالاعتداءات الإسرائيلية، وغياب التنديد من دول التطبيع الجديدة.

العالم الإسلامي

تضامن شعبي واسع في شكل مسيرات في العديد من الدول، ومواقف حكومية منددة في كل من تركيا وماليزيا وباكستان وإيران؛ كبرى بلدان العالم الإسلامي غير العربية.

إيران

تضامن شعبي حكومي، وسط حالة من الفقر والأزمات المتنوعة وتعثر محادثات النووي الإيراني.

الأمم المتحدة

فشل مجلس الأمن نهار يوم الاثنين في توقيع بيان مشترك (قبل صواريخ غزة).

الولايات المتحدة الأميركية

تصريحات البيت الأبيض مساء الأحد (قبل صواريخ غزة بيوم) تؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وتدين صواريخ غزة والبالونات الحرارية.

التصعيد العسكري

التشكيك في جدوى التصعيد العسكري يستند في الأساس إلى مقاربة تعوّل على التضامن العالمي، ولا شك في أنه عنصر مهم، ولكن بوصفه سبيلًا لبلوغ المنجز السياسي المرجو والمتمثل في إيقاف تهجير المقدسيين -في المواجهة الحالية- لا بوصفه منجزًا قائمًا بنفسه يستدعي التنازل في الخيارات لأجل الحفاظ عليه في المكتسبات، لا سيما مع فشل مجلس الأمن في إصدار بيان مشترك، وذلك قبل صواريخ حماس.

والبيت الأبيض ندد بصواريخ غزة مساء الأحد، وربطها بالتسوية المرجوة في القدس. ربما أراد استدراجها؟ في النتيجة جعلها في خانة من يجب أن يدفع الثمن.

دخول حماس على هذا المشهد، وبشكل مسلح، رسم انعطافة كبيرة في مسار الحدث، ساحبًا مسرح المتابعة نحو غزة، وهنا تجدر الإشارة لنقاط عدة، أهمها:

كان من الواضح أن صواريخ حماس تمنح نتنياهو فرصة جديدة لتقدم المشهد وقيادة الصف الإسرائيلي في مواجهة "عدو مشترك"، لكنها وضعته أمام تحدٍ جديد، لا يمكن مسبقًا توقع أن يكون سهلا، بل من المحتمل أن يراكم على حكومته المزيد من الأزمات.

منحت صواريخ حماس الطرف الإيراني ورقة تفاوض جديدة، ومن المبكر القول إن الصواريخ ستتوقف تبعًا لنتيجة مباحثات النووي، المؤكد أنها دخلت في تلك المباحثات.

منحت الصواريخ الإعلام الغربي مادة حية جديدة تمكنه من تمرير سرديته الخاصة حول "مظلومية اسرائيل" و"عبثية صواريخ الراديكاليين" في غزة.

كما أن اللغة القانونية تبدلت، من جريمة تطهير عرقي على يد الكيان الإسرائيلي، إلى صراع مسلح غير دولي، يبيح ضمنا استعمال السلاح الناري وسقوط ضحايا.

ومن الواضح أن غزة بدأت دفع الثمن من دماء أبنائها غاليًا.

كل ما سبق مفهوم في عالم السياسة، وهذا شأن نقاط الانعطاف في أي صراع، بل إن تدخلًا ينأى بنفسه عن تعقيدات من هذا الحجم ليس من المنتظر منه أن يخلق واقعًا جديدًا، ولا أن يعد بنتائج مختلفة، وقبل التسرع في الحكم على هذا التصعيد ورميه بصفات مثل البراعة أو الحماقة، لنحاول الوقوف على نتائج/مبررات التصعيد.

مبررات وآفاق

حزبيًّا

حركة مقاومة تعد جمهورها بالفعل العسكري الإيجابي، وعدم التحرك عسكريا في مسألة بحجم الأقصى يعد مخالفا لأدبيات الحركة وتضييع رصيدها عند جمهورها في القطاع والضفة وداخل فلسطين وخارجها، لا سيما كون المواجهة فلسطينية وعلى أراضي فلسطين؛ فالمشاركة متوقعة ومنتظرة، بالأصالة لا بالنيابة.

  • الأحداث التي منحت عباس فرصة للهروب من استحقاق انتخابي، منحت حماس فرصة لكشف عورة سلطة رام الله وعجزها وقصورها عن مجاراة نبض الناس وتضحياتهم.
  • التضامن العالمي مع أهالي الشيخ جراح والقدس يمكن أن يكون الخلاص من سياسة الحصار المطبق منذ 15 عامًا على حكومة حماس، في ما لو أحسنت حماس الدخول في غطاء هذا التضامن، وفي هذا فرصة.
  • في المقابل، إن سحب المواجهة من القدس إلى غزة ليس أكثر من افتداء أهل غزة للمقدسيين، وقد تهيؤوا لذلك، ومثل هذا لا يمكن أن يوصف بغير البطولة، وبمثله تحاك روابط الوطن ويلتئم شمله.

وطنيًّا

  • منذ اجتياح شارون باحة الأقصى وانتفاضة عام 2000 وحتى اليوم، الرافع المعنوي الوحيد لشعب فلسطين المنقسم هو فصائل المقاومة في القطاع، وغير هذه الفصائل لم يتبق للشعب الفلسطيني في الداخل أي هامش سيادة أو قدرة تفاوضية.
  • منذ الإعلان عن موعد الاقتحام وطيلة أيام رمضان، تجنبت الحركة دخول المشهد، تاركة المجال للدبلوماسية والفعل السلمي، والنتيجة مئات المعتقلين في القدس ومئات المصابين في الأقصى، وإصرار الصهاينة على الاقتحام، وفشل الجهود الأممية والدولية لاحتواء المشهد.
  • حماس -رغم العزلة العالمية لها- ذات صفة حكومية رسمية تستند إلى شرعية انتخابية، وصاحبة الأرض لا مجرد دولة جارة أو طرف ثالث، وتدخلها -حسب القانون الدولي- لا يمكن وصفه بـ"اعتداء مجموعة مسلحة"، بل يرمم صورة دولة ذات قدرة وسيادة؛ خاصة أن العمل المسلح لدى الفصائل الفلسطينية يمر عبر تراتبية منضبطة تجعل بداية ونهاية النشاط المسلح تحت السيطرة.
  • انسجام العمل المسلح مع التعبئة الشعبية السلمية في عموم أراضي فلسطين، بما فيها أراضي 48، فيه رفع للمعنويات وترميم للجراحات الوطنية.
  • بل إن عدم تدخل حماس في مواجهات ضد إسرائيل خارج قطاع غزة فيه تكريس لواقع الانقسام وتضييع للأمانة.
  • من مصلحة فلسطينية محضة إيقاف قطار التطبيع، والتصعيد العسكري تكفل بإحراج الموقف العربي الرسمي أمام ثوران الشارع العربي، وأسقط زيف الادعاء بأن التطبيع لدعم القضية؛ فالدك في تل أبيب، والذعر في عواصم عربية، والصمت ستار للمطبعين ولسان حالهم: "يا ليتني كنت ترابا".
  • التضامن العربي مع القضية الفلسطينية مبذول في كل الحالات، بحماس أو بسواها، لأنه تضامن مبدئي غير ظرفي، نابع من عدالة القضية ووحدة المصير، بل إن التصعيد العسكري يزيد في زخم المشهد وقدرته على حشد المزيد من التضامن، وفي هذا مصلحة.

إستراتيجيًّا

  • التصعيد العسكري الحاصل لا ينذر باتساع رقعة وشكل المواجهة، بقدر ما يقرر -في المقام الأول- قواعد اشتباك جديدة تنسف صفقة القرن، وتقرر بأن القدس مقابل تل أبيب (العاصمة)، هو تصعيد سياسي إذن وعلى أساس ميزان قوة جديد.
  • من أصل 7 صواريخ في الرشقة الأولى، تصدت القبة الحديدية لواحد فقط، وهو تبدل في القدرة العسكرية وفي المدى، من شأنه أن يؤسس لقواعد جديدة للصراع.
  • التهديد ثم التنفيذ، مخترقًا القبة الحديدية يقرر قاعدة جديدة، متجاوزًا وصف "فشل إستراتيجية الدفاع".
  • تكرار القصف رغم محاولات الردع الإسرائيلي يقرر قاعدة جديدة، متجاوزًا وصف "فشل إستراتيجية الردع".
  • الرد على قصف المباني السكنية في غزة بوابل من الصواريخ على تل أبيب يقرر قاعدة جديدة، متجاوزًا وصف استعادة التوازن إلى امتلاك المبادرة.
  • إضافة إلى تحقيق إصابات مباشرة استهدفت خطوط إمداد غاز وقاعدة عسكرية ومطارا دوليا وغيرها من الأهداف الحيوية، بما يشير إلى تطور في قدرة التوجيه والإصابة، وجعْل كامل التراب الفلسطيني المحتل في المدى المجدي للسلاح الصاروخي يقرر قاعدة جديدة للتفاوض.
  • وبمعزل عن هذا التطور، لا يمكن اعتبار صواريخ المقاومة في غزة عبثية أو غير دقيقة، وذلك لطبيعة التلازم لدرجة التطابق، بين الأمن الفردي والأمن القومي لدى الكيان الصهيوني، وهو ما يشكل استثناءً في طبيعة الدول، إذ إن حاملي الجوازات الإسرائيلية يمتلكونها كامتياز لجانب الجنسية الأم، مع الاحتفاظ بإمكانية العودة للبلد الأم في حالة التهديد الوجودي.

التطور الأهم والأكثر نوعية هو تحرك فلسطينيي الأراضي (عرب 48)؛ مما جعل الكيان بين فكي كماشة يقوى بعضها ببعضها على التوازي، ومن شأن هذا كله أن يمهد لخاتمة سياسية قريبة المنال، وأن يؤسس لمرحلة جديدة بالكامل من تاريخ الصراع، ترتسم فيها لأول مرة ملامح رابطة فلسطينية تجمع الشتات بالأرض، وتصوغ لأبنائها رؤية جامعة ذات أفق يتسع للعمل النضالي بشقيه السياسي والعسكري.

يبقى الحكم على المجازفات منوط بخواتيمها، بيد أنه وبموجب ما تقدم فإن دخول كتائب المقاومة على المشهد لم يعد ليوصف بالمجازفة، بل ضرورة تقرها المصلحة الوطنية والحزبية والتوازنات الإقليمية والشرق الأوسط "الجديد"، وضرورة سواء بمعنى اغتنام فرصة أو تجنب خطر.

لا شك أن ما تحقق حتى الآن منجزات ثمينة تستحق التضحية، إلا أنه ورغم هذه الحيثيات والكثير غيرها يبقى السؤال عن جدوى المعالجات القسرية مشروعا، خاصة بعد نجاح المعتصمين من إحباط محاولة اقتحام من متطرفين مدعومين بالسلاح قبل أيام من دخول الصواريخ.

أحسب أننا لا نملك الآن الجواب على السؤال، ولكن -وفضلاً عن كل المبررات المعتبرة آنفة الذكر- أقول: إذا استطاعت الصواريخ أن تمنع اجتياح الأقصى وتحول دون تهجير أهالي الشيخ جراح، فقد كانت خيارًا موفقا، وهو ما لم يكن التضامن العالمي ليضمنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.