التغير في الرأي العام حول القضية الفلسطينية.. حالة طارئة أم جديد ثابت؟

(رويترز)

كان للإعلام دوره المميز في أحداث الساحة الفلسطينية خلال الأسابيع الثلاثة المنصرمة، ليس على صعيد التغطية والتحليل كما هو المعتاد والمتوقع، بل على صعيد التعبير عن تغير كبير في الرأي العام العالمي إزاء الاحتلال الإسرائيلي ومقاومة الشعب الفلسطيني.

فبينما اعتاد المراقبون والنشطاء على ضيق المساحة المتاحة في منصات الأخبار وبرامج الحوار والتحليل العالمية، وصل بهم إلى القناعة بانحياز الإعلام العالمي، والذي يملكه عدد من الشخصيات واسعة النفوذ تعلن أغلبها عن وقوفها في صف دولة الاحتلال دونما تردد، انحيازه ضد الفلسطينيين إلى درجة الفجاجة. وقد ظهر جليا حصول تغير واضح في تلك المواقف المعهودة، بعضها بشكل يكاد يكون صاعقا. يضاف إلى ذلك مواقف المشاهير والمؤثرين والنجوم العالميين، وبعضهم من اليهود والصهيونيين الذين طالما افتخروا بيهوديتهم وبدعمهم لإسرائيل، مما يؤكد حدوث تغيرات عميقة تسترعي الانتباه وتتيح فرصا غير مسبوقة لنشطاء الحقوق الفلسطينية.

ففي الولايات المتحدة الأميركية والتي كان من المحرم عندها المساس بالكيان الصهيوني بأي شكل من الأشكال حتى عهد قريب، وكان الوقوف ضدها أو نقدها كافيا لتلقي حملات التشويه والاستهداف والطرد من العمل، تعددت العناوين والمقالات والتصريحات والتعليقات التي لم تقف عند نقد ممارسات إسرائيل، بل تعدت حتى بلغت إبداء الدعم والتعاطف الكبير مع الفلسطينيين. وكان من أبرز المقالات التي نشرت في صفحة الرأي بصحيفة واشنطن بوست بقلم الكاتب والمفكر اليهودي الفرنسي رافائيل ميمون عنوانه "الصهيونية لا يمكنها إنتاج سِلْم عادل، والضغط الخارجي وحده هو الذي يمكن أن ينهي سياسات الفصل العنصري (الأبارتايد) التي تمارسها إسرائيل" [1].

بينما كتب المحرران اليهوديان دافيد هالبفنغر وآدم راغسن في صحيفة نيويورك تايمز تقريرا متميزا للغاية عنوانه "الحياة تحت ظل الاحتلال.. البؤس الذي يعيشه من هو في قلب الصراع" أفردا فيه مساحة واسعة للحديث عن معاناة الفلسطينيين على يد السلطات والقوات الإسرائيلية [2].

أما الفضائيات العالمية مثل "سي إن إن" فقد أفردت مساحات غير مسبوقة للتعليق على التجاوزات الإسرائيلية مستخدمة مصطلحات لم يعهدها المستمع أو المشاهد من قبل، من مثل مصطلح الاحتلال ومصطلح الأبارتايد إقرانا بإسرائيل وممارساتها بحق الفلسطينيين، مما عدّ في السابق من قبيل المحرّم قطعا.

والأمر ذاته تكرر في مختلف دول العالم وعلى رأسها المملكة المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، مما يثير تساؤلات عن أسباب وعوامل هذا التغير، وعما إذا كان تغيرا باقيا يمكن البناء عليه أم مجرد نزوة سرعان ما تعاود البوصلة الإعلامية ضبطها وفق الدافع والضغط والخطاب الإسرائيلي.

ظهور عدد كبير من المعلقين الفلسطينيين من النساء والرجال إما داخل فلسطين أو في مختلف أنحاء العالم، ممن يتقنون اللغة الإنجليزية ويفهمون العقلية الثقافية الغربية ويخاطبون المشاهد الغربي بلغة مألوفة لديه ومصطلحات وتعبيرات مفهومة ذهنيا وعاطفيا وليس لغويا فحسب، أدى إلى حدوث حالة توازن في الطرح

زد على ذلك مواقف سياسيين في الولايات المتحدة من أعضاء الكونغرس ومجلس النواب، ممن لم يكن أحد منهم يجرؤ على أن ينال من إسرائيل ولو همسا، خرجوا يصرحون منددين وناقدين بشدة لممارسات إسرائيل ويطالبونها بالتوقف عن الاعتداءات، مما يصيب المتابع بشيء من الذهول.

واللافت أن هذا التغير يأتي في مرحلة شهدت ارتفاعا ملحوظا وفاعلا في المقاومة الفلسطينية والتي أطلقت آلاف الصواريخ على مواقع مدنية وأوقعت عددا من القتلى الإسرائيليين، بينما الانحياز السابق كان في زمن لم تملك المقاومة مثل هذا الزخم ولا تلك القدرة العسكرية، مما يجعل من هذا التغيير أكثر أهمية وإثارة.

ولا شك أن من المؤثرات المستجدة تطور وسائل التواصل الاجتماعي والتي أوجدت قنوات لتلقي الأخبار وتداول المعلومات والصور والمشاعر وتعابير الحزن والفرح والشجاعة والخوار من موضع الحدث ولكل أنحاء العالم، فضلها الكثيرون على القنوات النمطية والمعتادة، والتي رغم تميز الكثير من تغطياتها من مثل قناة "سكاي نيوز" عبر مراسلها مارك ستون الذي أبدع التغطية [3] فقد باتت محل شك وريب وفقدان ثقة في المصداقية والثقة حتى من أشد الموالين والمتابعين، كما أنها بالطبع لا تملك المساحة الزمنية الكافية لتغطية كل شيء بالتعليق والتحليل وكما تستدعيه أهمية السياق.

ومن ذلك أيضا دخول المؤثرين العالميين والمشاهير من الممثلين والفنانين والرياضيين المشهد بشكل غير معهود، أسفروا فيه عن موقفهم الداعم للطرف الفلسطيني، وكثير منهم رفع العلم الفلسطيني أو وضعه شعارا لمنصته أو لحسابه على مواقع التواصل الالكتروني. كما انتشرت صور نجوم رياضيين يرفعون العلم الفلسطيني، مخالفين بذلك القاعدة المتعارف عليها بعدم الخلط بين الرياضة والسياسة، ومخاطرين بعقوبات مالية أو أشد تقع عليهم جراء هذا "الانتهاك". حتى أن مثل هذه المواقف دفعت الكثيرين لتوجيه النقد لمشاهير آخرين لعدم تصريحهم بالدعم للفلسطينيين، من أمثال نجم نادي ليفربول المصري محمد صلاح، والذي اكتفى بتصريح عده الكثيرون باهتا وغير لائق بمثله أو بالحدث الدائر، يعرب فيه عن أسفه لأرواح الأبرياء ويدعو قادة العالم للتدخل لإيقاف العنف [4].

كما أن ظهور عدد كبير من المعلقين الفلسطينيين من النساء والرجال إما داخل فلسطين أو في مختلف أنحاء العالم، ممن يتقنون اللغة الإنجليزية ويفهمون العقلية الثقافية الغربية ويخاطبون المشاهد الغربي بلغة مألوفة لديه ومصطلحات وتعبيرات مفهومة ذهنيا وعاطفيا وليس لغويا فحسب، أدى إلى حدوث حالة توازن في الطرح وسمح للمشاهد الغربي فرصة اتخاذ موقف مبني على فهم معقول. وقد كان الناشطون الفلسطينيون يعيقهم في السابق الوصول إلى المنابر الإعلامية العالمية بدعوى عدم وجود من يمكنه التحدث بلغة إنجليزية سليمة. ومن أبرز هؤلاء السفير الفلسطيني لدى بريطانيا حسام زملط والذي ظهر في عدد من أبرز وأهم البرامج الإخبارية [5] بخطاب وحجة قويتين وبلغة إنجليزية عالية.

بالإضافة إلى مقاطع كثيرة لشباب وصغار فلسطينيين تحدثوا إلى كاميرات المصورين بلغة إنجليزية واضحة وأعربوا عن مشاعرهم إزاء الجرائم التي تعرضوا لها من قصف أو هدم أو منع أو سواه من مثل مقطع الطفلة نادين عبد اللطيف [6] ذات العشر سنوات والتي هزت مشاعر العالم وهي تقف أمام ركام منزلها الذي دمرته صواريخ الاحتلال تسائل العدسات باكية: ما الذي علي أن أفعله وعمري 10 سنوات فحسب؟ ثم تضيف مشتكية بنفس العبارة التي طالما يسمعها سائر الآباء والأمهات في الغرب عن أبنائهم كلما أرادوا التعبير عن تململهم أو ضجرهم من شيء ما: الأمر غير عادل It’s not fair، ولكن شتان بين القول عند الشعور بالملل أو الضجر أو الانزعاج من أمر ما، وبين ما قالته نادين أمام بيتها المحطم وطفولتها المسروقة.

ولكن يبقى العامل المستجد الأهم هو أن الجيل، الذي أدار ويدير الصراع ويصنع المقاطع المصورة ويبدع في تمثيل وإنتاج مفاصل القضية باستخدام أرقى الوسائل والأدوات ويخاطب العالم بذلك، هو جيل جديد غير محمّل بأثقال أو تبعات مراحل الفشل والانتكاس التي طغت على 70 سنة الماضية. هذا الجيل يتميز بطغيان حالة الأمل والإيمان بأن ما يعده جيل الآباء والأجداد من قبيل المستحيل، هو ممكن متاح، وهو جيل تفاعل وتواصل مع أقرانه من حول العالم من خلال الوسائل الكثيرة التي باتت متاحة لدى الجميع وفي راحة اليد، ويرى بأنه حقيق وجدير بنيل ما نالوا وأنه لا يقل عنهم شيئا، بل يؤمن بأنه يملك ما لا يملكه من يقيم في عاصمة أوروبية ويعيش حياة آمنة.

كما أن الجيل المتلقي هو بدوره جيل جديد، متحرر من الشعور بالخوف أو الوجل من أن ينساق في مشاريع قد تودي به إلى صدامات دموية أو محارق عنصرية. هذا الجيل لم يعش عصور الاستعمار ولا ذكرى المحرقة النازية ولا الحرب الباردة وبالكاد يذكر أحداث 11 من سبتمبر/أيلول 2001، مما يجعله أقدر على تلقي ما يصله من قرينه الفلسطيني وأقدر على النظر للصراع من منظور أكثر توازنا واتساما بالعدالة والإنسانية، ولا يرى لإسرائيل أي خصوصية تذكر، كما يراها أبوه أو جده، فيحاكمها وفقا لمبادئ ومعايير يحاكم بها الجميع دون استثناء.

يبقى السؤال بالتأكيد حول ثبات هذا المتغير الجديد من عدمه، وحول قدرة النشطاء للقضية الفلسطينية على استثماره بشكل فاعل، ولكن أيا كان الجواب فديناميكيات الصراع آيلة إلى التغير، والإشارات الأولية تؤكد أن هذا التغير لمصلحة الطرف الفلسطيني.

 

  1. Zionism cannot produce a just peace. Only external pressure can end the Israeli apartheid.Life Under Occupation:The Misery at the Heart of the Conflict
  2. Israel -Palestinian ceasefire: Survivors in Gaza stand proud as they mourn
  3. Salah tells leaders to end violence, fails to mention Palestine
  4. Palestinian and Israeli ambassadors to the UK on the Jerusalem crisis
  5. The girl who showed the world the suffering of Gaza’s children

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.