عالقون في أزمة دستورية.. عن حقيقة الصراع السياسي في تونس

(الصحافة التونسية)

قد يبدو للوهلة الأولى أن الأزمة في تونس هي صراع رئيس الدولة مع رئيس الحكومة وحزامه البرلماني على الأسماء والمناصب الوزارية، إلا أن الأزمة في حقيقتها أزمة صراع على شكل النظام السياسي في تونس أو شكل نظام الحكم في المستقبل.

(1) أزمة اليمين الوزارية

جاء البرلمان عام 2019 مجلسا معلقا بالمعنى السياسي، إذ لا يملك فيه أي حزب الأغلبية الكافية لتشكيل حكومة ودعمها، فأي حكومة تحتاج الى 109 أصوات لتأمين القدرة على تشكيل الحكومة وهو ما لم يتحقق لأي حزب، إذ حصلت النهضة (أكبر حزب داخل البرلمان) على 52 مقعدا مما خلف برلمانا معلقا من الناحية السياسية والقانونية.

غياب المحكمة الدستورية التي نص الدستور على إنشائها، واختلاف الفرقاء السياسيين على إقرار القانون الخاص بالمحكمة الدستورية، جعل يد المشيشي مكبلة في مواجهة رفض سعيد أداء الوزراء لليمين الدستورية

وجد الرئيس المنتخب من التيار الثوري، خريف ذات العام، الذي وصف بالرئيس القادم، من العدم السياسي والذي جاءت به الجماهير كردة فعل على عجز الأحزاب السياسية عن تحقيق أي تحسين على حياة الناس المعاشية في الدورة السابقة.

عجز الأحزاب السياسية عن تكوين ائتلاف حكومي فيما بينها، وجده الرئيس قيس سعيد فرصة مواتية لتفريغ  البرلمان من  دوره وقوته، وجمع السلطات التنفيذية الرئاسة والحكومة بيده من خلال اختيار رئيس حكومة تابع له تحت مسمى حكومة الرئيس، وهو ما نجح به أول مرة. إلا أن حكومة الفخفاخ سقطت سريعا بعد أقل من 6 شهور تحت شبه الفساد، فكلف الرئيسُ المشيشيَ بتشكيل حكومة الرئيس الثانية. إلا أن الأخير استدار في تحالفاته داخل البرلمان سريعا، وأعاد التحالف مع حزبي النهضة و"قلب تونس"، وتحالف "الكرامة".

حصول الرئيس التونسي الحالي على 72% من أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية دفع الرئيس الى التفكير في التحول من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي خاصة مع الافرازات السلبية للبرلمان المعلق الحالي.

استطاع المشيشي أن ينسج تحالفه الجديد بشكل سريع ليقيل مجموعة من الوزراء المحسوبين على الرئيس والذين يمثلونه في مجلس الوزراء، كما أجري تعديلا وزاريا موسعا شمل 11 حقيبة وزارية من أصل 25 وزيرا، دون التشاور مع الرئيس، معتمدا على تمرير هذا التعديل من خلال التحالف البرلماني مع 5 أحزاب أبرزها حزب النهضة الإسلامي و"قلب تونس" العلماني وتجمع "الكرامة".

رفض الرئيس استقبال الوزراء الجدد، والبالغ عددهم 11 وزيرا تحت ذريعة عدم وجود نساء في التشكيلة الوزارية، ووجود شبهات فساد على 4 من بين الوزراء الجدد، وعدم التشاور مع الرئيس في شكل الحكومة وتعديلاتها. لكن البعض يرى أن موقف الرئيس سعيد من التعديل الوزاري جاء كردة فعل على إقالة المشيشي 5 وزراء محسوبين على الرئيس، وقبلهم كانت إقالة المشيشي 3 وزراء أيضا جميعهم محسوبون على الرئيس كرسالة من المشيشي لسعيد: نعم الحكومة حكومة الرئيس لكنها ليست تابعة للرئيس ونفوذه.

رفض الرئيس للتعديل الوزاري جعل الأزمة تتعمق مع حكومة المشيشي وحزامها البرلماني داخل المجلس، مما دفع رئيس الحكومة الى رفع الأمر إلى المحكمة الإدارية والتي أعلنت عدم اختصاصها وأن الموضوع من اختصاص المحكمة الدستورية.

غياب المحكمة الدستورية التي نص الدستور على إنشائها، واختلاف الفرقاء السياسيين على إقرار القانون الخاص بالمحكمة الدستورية، جعل يد المشيشي مكبلة في مواجهة رفض سعيد أداء الوزراء لليمين الدستورية، مما دفع رئيس الحكومة لخيار الذهاب إلى حكومة مصغرة بواقع 16 وزيرا، وتكليف الوزراء الذين كان من المفترض أن يكونوا ضمن الفريق الوزاري بالقيام بأعمال استشارية لصالح تلك الوزارات.

(2) الضغط من أجل التحول للنظام الرئاسي

تم تقسيم السلطات في دستور 2014 إلى 3 أقسام: رئيس الدولة ويملك بعض السلطات التنفيذية فيما يتعلق بالدفاع والعلاقات الخارجية وبعض الصلاحيات الشرفية، ورئيس الحكومة الذي يملك جميع السلطات التنفيذية وإدارة أمور البلاد، والبرلمان الذي يملك السلطة الرقابية والتشريع، وتم النص على إنشاء المحكمة الدستورية للفصل في تفسير النصوص الدستورية والبت في موافقة القوانين التي يتم سنها للنصوص الدستورية.

حصول الرئيس الحالي على 72% من أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية دفعه إلى التفكير في التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي خاصة مع الإفرازات السلبية للبرلمان المعلق الحالي.

الرئيس لم يأت من خلفية سياسية سابقة أو حزبية، ولا يملك أي وجود داخل البرلمان يمكنه من إجراء أي تعديلات على الدستور، لذلك أراد جمع السلطات التنفيذية وتركيز كل الصلاحيات في يد الرئاسة بشكل غير مباشر عبر الاستفادة من اختلاف الأحزاب داخل البرلمان ووجود برلمان معلق والذهاب لخيار حكومة الرئيس.

حزب النهضة والأحزاب الأخرى مسكونة في الخوف من التحول الى النظام الرئاسي وتركيز السلطات بيد شخص وجهة واحدة، اذ انه يمكن ان يكون الرئيس الحلقة الأضعف التي سوف يكسرها اتباع الثورات المضادة الذين يتربصون بالثورة التونسية ومشروعها

يرى البعض أن الرئيس عمد لاستخدام بعض الأساليب الأخرى التي يمكن أن تضعف المؤسسة التشريعية من أجل تعزيز سلطات وصلاحيات الرئيس، بعد محاولة جعل الحكومة تابعة له من خلال ما عرف بحكومة الرئيس.

رواية اغتيال الرئيس عبر المظروف الذي يحتوي على مواد مشبوهة، والذي كشفت النيابة العامة عدم وجود أي مواد مشبوهة أو سامة أو متفجرة، يفسرها المراقبون على أنها رغبة من الرئاسة لمحاولة استمالة الشعب من أجل الوقوف معه للضغط لتغيير شكل نظام الحكم إلى النظام الرئاسي.

في ذات السياق، نزل الرئيس إلى شارع الحبيب بورقيبة وسط الشباب الغاضب، وأخذوا يهتفون للرئيس ضد البرلمان ويطالبونه بحل البرلمان والتحول للنظام السياسي.

في كل تلك الأحداث تم رصد مناصرة إعلامية كثيفة من الإعلام المضاد لثورات الربيع العربي تنحاز للرئيس في صراعه مع الحكومة والبرلمان، وتقدم له التغطية الإعلامية في مواجهة الحكومة والبرلمان، وهو ما يثير مخاوف المراقبين للمشهد التونسي من محاولة دخول أذرع الثورات المضادة عبر العبث في شكل النظام السياسي بعد أن عجز عن اختطاف ثورة الياسمين عام 2013.

(3) في مواجهة توجهات الرئيس

جاء الرد سريعا على توجهات الرئيس من حركة النهضة (أكبر حزب في البرلمان) عبر أمينها العام ورئيس مجلس الشعب الشيخ راشد الغنوشي بأن تونس عليها أن تذهب إلى النظام البرلماني الكامل وإنهاء حالة التمازج بين النظام الرئاسي والبرلماني لتجاوز أي إشكاليات قد تحدث جراء المزج بين هذين النظامين.

حزب النهضة والأحزاب الأخرى مسكونة في الخوف من التحول الى النظام الرئاسي وتركيز السلطات بيد شخص وجهة واحدة، اذ انه يمكن ان يكون الرئيس الحلقة الأضعف التي سوف يكسرها اتباع الثورات المضادة الذين يتربصون بالثورة التونسية ومشروعها

انبهت حركة النهضة وحزب "قلب تونس" وائتلاف "الكرامة" لخطورة أن يتم تركيز كل الصلاحيات بيد جهة سيادية واحدة في المستقبل، وأن خطورة تلك الحالة تكمن في احتمال إعادة ميلاد الحالة الاستبدادية التي عاشتها تونس من تاريخ استقلالها حتى ثورة الياسمين وإسقاط حكم بن علي.

جاء توافق لخصوم النهضة الإسلامية وحزب "قلب تونس" العلماني مع ائتلاف "الكرامة" سريعا بالتحالف مع رئيس الحكومة لإعادة توزيع المناصب الوزارية وبناء التوازن بين مؤسسات الدولة وإعادة صلاحيات الرئيس إلى الحجم الذي منحه إياه الدستور بإبعاد جميع الوزراء المحسوبين على الرئيس سعيد وإنهاء محاولة الرئيس الاستئثار بكل المؤسسات التنفيذية في الدولة.

ترفض حركة النهضة المزيد من الصلاحيات لرئيس البلاد، وترى أنه من الأفضل لاستقرار النظام السياسي الذهاب لتعميق حالة الحكم البرلماني وتخفيض صلاحيات الرئيس لتكون صلاحيات شرفية رمزية، والتحول إلى النظام البرلماني الكامل حتى يبقى هناك توازن كامل بين السلطات، رغم التسريبات غير المؤكدة عن نية الشيخ الغنوشي خوض الانتخابات الرئاسية القادمة.

حزب النهضة والأحزاب الأخرى مسكونة بالخوف من التحول للنظام الرئاسي وتركيز السلطات بيد شخص وجهة واحدة، إذ إنه يمكن أن يكون الرئيس الحلقة الأضعف التي سوف يكسرها أتباع الثورات المضادة الذين يتربصون بالثورة ومشروعها، إذ تتخوف الأحزاب الثورية من دعم الثورات المضادة للنظام الرئاسي ليتمكن أنصار الثورات المضادة من سهولة الانقضاض عليه وإسقاطه في المستقبل ووأد الثورة.

في الوقت الذي صرحت فيه حركة النهضة أنها قادرة على الحشد الشعبي لدعم البرلمان، إلا أنها مدركة لحجم المخاطرة في الاحتكام للغة الشارع والحشد والحشد المضاد.

في الوقت الذي يحاول فيه الرئيس العمل من أجل الضغط للتحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي الكامل، يحاول التحالف البرلماني والحزام البرلماني الحكومي إنجاز حزمة من الإصلاحات التشريعية التي يمكن أن تحل الأزمة القائمة، وتجعل الحياة السياسية أكثر استقرارا مما يساهم في التفرغ لتنمية الحياة اليومية للشعب، وذلك ضمن معالم إصلاح النظام البرلماني وتنقيته من الإفرازات السلبية التي طفت على السطح بالانتخابات الأخيرة. وتتمثل هذه الإصلاحات في:

إقرار قانون المحكمة الدستورية، والإسراع في إنجازه وتفعيله ليكون المرجع للفصل في أي خلاف ينشأ بين السلطات السياسية حول تفسير نصوص الدستور والاحتكام إليها.

تعديل القانون الانتخابي للمجلس التشريعي، وذلك بوضع العتبة الانتخابية بمقدار 5% من أجل منع وصول الأحزاب الصغيرة للمجلس مما يساهم في إنهاء حالة البرلمان المعلق، ليأتي برلمان قادر على ميلاد حكومات برلمانية بعيدا عن حكومة الرئيس أو خيارات الرئيس في اختيار رئيس الحكومة أو الحكومات الائتلافية الضعيفة والمبعثرة.

تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب بما يضمن حسن سير العمل داخل أروقة مجلس النواب، ويحمي تلك المؤسسة من العبث وتعطيل أعمالها كما قامت به بعض الشخصيات البرلمانية المحسوبة على النظام السياسي القديم.

يدرك الرئيس أنه لا يمكنه حل البرلمان ولا يوجد في الدستور ما يمنحه تلك الصلاحية، كما يدرك البرلمان والحزام البرلماني أنه لا يمكنه عزل الرئيس، وأنهم حتى لو ملكوا ثلثي الأصوات (145 صوتا) داخل البرلمان لعزل الرئيس، فإنه متعذر حاليا لغياب المحكمة الدستورية التي يجب عرض قرار المجلس التشريعي عليها بعزل الرئيس.

الحالة القائمة تعني أن تونس قد علقت في أزمة دستورية تفرض على الجميع خيار الجلوس على طاولة التفاوض، وتقديم المزيد من التنازلات والمقاربات والحوارات التي يمكن أن تكون المخرج الوحيد للأزمة بعيدا عن الحشد والحشد المضاد، وخطورة الاحتكام للشارع في إعادة صياغة شكل النظام السياسي.

إن انزلاق الجميع نحو التصعيد ستكون بذرة الفناء الأولى لثورة الياسمين، وسوف يدرك كل قوى الثورة بعد فوات الأوان أنه تم جرهم جميعا لمربع إفشال الثورة، وقد أصبحت الكلمة العليا في تونس للثورات المضادة وأذرعها المحلية والتدخلات الخارجية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.