خريطة الكنز السردي

بالنسبة إلى هؤلاء المدللين من الأثرياء، كان السهر حتى وقت متأخر من الليل فرصة لمزاولة أنشطة من قبيل القراءة، الصلاة والكتابة، أو تفسير الأحلام، أو مخاطبة أحباء نائمين أو ممارسة الحب
تحكي رواية "عدو" قصة إميل زاتوبيك العدّاء التشيكوسلوفاكي قبيل انقسام بلاده إلى جمهوريتي التشيك وسلوفاكيا (مواقع التواصل الاجتماعي)

"ماذا لو؟"، هو السؤال الجوهري الذي يقف بظني خلف أعظم الأعمال السردية، وهو بمثابة المفتاح الرئيسي لينابيع الإبداع؛ ذلك لأنه عملية بحث دؤوبة عن خلق كتابي متفرد، واحتمال حكائي جديد ومختلف. يُتيح هذا السؤال إمكانية كتابة ما لم يحدث؛ وهي ذروة الكتابة السردية في اعتقادي، وهي الطريقة الأمثل للوصول إلى كتابة أصيلة، والكتابة الأصيلة -وفق ما أفهم- هي التي لا يمكن أن تعوضها كتابة أخرى، أي ليست مادتها بأكملها مجتمعة أو منثورة في كتب أخرى. ولعل أوضح مثال على هذا الأمر هو رواية "انقطاعات الموت" للبرتغالي الكبير جوزيه ساراماغو التي نبعت بالضرورة من سؤال ماذا لو انقطع الموت عن حياتنا فجأة وعلقنا في ورطة الحياة بلا نهاية؟

خطرت ببالي هذه الفكرة بمجرد انتهائي من رواية "عدو" للروائي الفرنسي القدير جان إشنوز والتي صدرت ترجمتها العربية عن "دار كلمة" في نحو 170 صفحة بواسطة التونسي أبو بكر العيادي.

تحكي الرواية قصة إميل زاتوبيك العدّاء التشيكوسلوفاكي قبيل انقسام بلاده إلى جمهوريتي التشيك وسلوفاكيا، وثنائية المجد والمعاناة التي أحاطت بحياته ووسمت مسيرته. فإلى جانب براعته في سباقات العدو وحصده الميداليات والألقاب والأرقام القياسية، كانت حياته -في ظل نظام شيوعي شمولي يعدّ عليه أنفاسه ويقرّر نيابة عنه ما يجب أن يحدث وما لا يجب- أمرا ضاغطا كاد يُعيقه عن مسيرته الناجحة في مضمار الركض.

للوهلة الأولى يبدو اختيار جان إشنوز موفقا، وقد اقتنص فكرة تناول حياة إميل زاتوبيك السخية بالأحداث والمفارقات، غير أنّ نظرة متمهلة قد تُفضي إلى رأي آخر. دعوني ابتداء أشير إلى أنّ الرواية جميلة بل ومشوّقة، غير أنّ ذلك لم يكن بسبب جهد بذله الروائي بقدر تعلّقه بقصة زاتوبيك نفسه. لم يقم جان إشنوز بشيء سوى نقل حياة العدّاء إلى الورق، وهي الحياة التي كان يمكن التعرف عليها بألف طريقة أخرى، في الإنترنت وفي كتب ووثائقيات أخرى.

لم يأت الكتاب المصنّف على أنه رواية بأي شيء خارج ما هو معروف ومتداول، فقد غاب ما تستدعيه الرواية وتتطلبه لزاما من اشتغال على المادة الخام بالإضافة أو الحذف أو التحوير أو الإضاءة على الهامش وإزاحة المتن إلى الطرف. وكان يمكن غض الطرف عن كل ذلك لو كان المقصود كتابة سيرة مباشرة ترتجي ما جرى وليس نصا روائيا ينطلق مما جرى إلى ما لم يجر. وإن كان يُحسب للروائي عموما بالكتابة عن إميل زاتوبيك أن كثيرين لم يكونوا ليتعرفوا على العدّاء لولا مجيء قصته في عمل روائي.

ولعل الأمر الوحيد الذي قام به جان إشنوز كجهد سردي هو القصّ بطريقة تبدو كأنّ الجمهور شهود يطالعون الحكاية وهي تجري أمام أنظارهم في المضمار، وفي هذا توسيع للغة الركض لتشمل الحياة.

وبالعودة إلى سؤال ماذا لو، والإمكانات التي يحملها، كان أمام إشنوز احتمالات كثيرة ليجعل روايته أكثر من محاولة مجاراة للحياة وإعادة تصويرها كما حدثت. ماذا لو أتاح الروائي للقارئ أن يتعرّف على قصة إميل زاتوبيك من خلال زوجته البطلة في لعبة رمي الرمح دانا زاتوبكوفا والتي رغم براعتها بقيت في ظل سطوة ونجومية زوجها دون أن تنال ما ناله من اهتمام وأضواء؟ هذا الخيار كان سيتيح مساحة جديدة للتعرف على زابوتيك بالحقيقة مرة وبالخيال مرات عديدة.

ماذا لو أخرجنا الروائي مثلا من خانة التمجيد التي تحيط بالعداء أينما نظرنا ليعيده إلى طبيعته البشرية وأخطائه وهنّاته؟ ماذا لو ذهب أبعد وجرّب احتمالا نقيضا لكل ما نعرفه من مُثل تحلّى بها الرجل وكانت سببا في شعبيته الجارفة؟

إذن ستظل الاحتمالات تتناسل وتتكاثر بلا نهاية متى ما جاءت جوابا عن سؤال "ماذا لو؟" والذي يبدو هنا كم هو قادر على إنقاذ الرواية، إضافة لمهمته الأولى كخريطة للكنز السردي.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.