المارشال ليوطي.. المستعمر الفرنسي الذي وقع في عشق المغرب (2)

Portrait of Louis-Hubert-Gonzalve Lyautey, Marshal of France (1854-1934). Watercolor painting by Marcel Andre Baschet (1862-1941), 1934.0,65 x 0,50 m. Castle Museum, Versailles, France (Photo by Leemage/Corbis via Getty Images)
لويس هوبير ليوطي أول مقيم عام (سفير) لفرنسا في المغرب (غيتي)

كان ليوطي يلعب على جميع الحبال التي من شأنها تخفيف كلفة السيطرة على المغرب، ولم يفته في هذا الصدد توظيف البعد الإنساني في مخططه الرامي إلى اختراق المناطق المقاومة؛ فعند تعيينه مقيما عاما بالمغرب في 28 أبريل/نيسان 1912 طلب ليوطي من وزير الصحة الفرنسي ألكسندر مايورون أكثر من 60 طبيبا لتعيينهم في فريقه الذي سيبدأ به العمل في المغرب. وعندما سأله "مساعد الكابيتان" بينديك عن سبب طلبه هذا العدد من الأطباء، أجاب ليوطي قائلا "سأحتاج هذه المجموعة المكونة من 60 طبيبا من أجل تكوين أطباء آخرين مهمتهم الاختراق التدريجي للبلاد وتحسين الخدمات الصحية لإعطاء نوع من المصداقية للبروباغندا الاستعمارية الفرنسية بالمغرب".

اعتمدت سياسة ليوطي الطبية على تعيين طبيب رئيسي مسؤولا جهويا في كل منطقة، يشتغل إلى جانب المراقبين المدنيين والعسكريين، مع منحهم صلاحيات واسعة في ما يتعلق بالأمور الطبية وتوفير الدعم المادي واللوجيستي اللازم لهم

يتحدث بول دوري في مقال له بعنوان (Lyautey et la médecine)، عن الأهمية القصوى التي كان يوليها ليوطي لدور الأطباء في تسيير المستعمرات، ويعبر عن قناعته بأن المقاربة العسكرية لا ينبغي أن تكون وحدها محددا في طريقة التسيير، وأكد أن للأطباء أدوارا متعددة تتجاوز ما يتعلق بالعلاج، إلى ما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي. وذكر أن عملية تلقيح واحدة ضد مرض معد من شأنها التخفيف بشكل كبير من تكلفة عملية عسكرية كاملة. وفي أحد أقواله المشهورة: "إذا قمت بإرسال 4 أطباء، فإن ذلك قد يعوضني عن 4 فيالق عسكرية كاملة".

سنة 1913 تم إحداث مصلحة الطب الأهلي بالمغرب، وهي التي تحولت في ما بعد إلى مصلحة الصحة العمومية التي أشرفت على عمل الفرق الطبية المتنقلة بالمغرب، وكان ليوطي مقتنعا بأنه لا يمكن فصل الدور المدني للأطباء عن الدور العسكري للجيش في عمليات التهدئة، لذلك ظل في كل مراسلاته يؤكد ضرورة وضع سياسة طبية للحماية تستهدف السكان المحليين، وتعمل على تسهيل عملية جيوش الحماية من خلال خدماتها الطبية المقدمة إلى السكان المحليين، لكنه لم يجد خلال السنوات الأولى لمهمته في المغرب من يساعده على  تصوره للطب الكولونيالي بالشكل المطلوب.

اعتمدت سياسة ليوطي الطبية على تعيين طبيب رئيسي مسؤولا جهويا في كل منطقة، يشتغل إلى جانب المراقبين المدنيين والعسكريين، مع منحهم صلاحيات واسعة في ما يتعلق بالأمور الطبية وتوفير الدعم المادي واللوجيستي اللازم لهم. وخصص ليوطي لكل جهة 3 فرق طبية متنقلة، إضافة إلى المراكز الطبية الثابتة التي كانت مهمتها تقديم الخدمات الطبية للأهالي والأوروبيين. وأسهمت سياسته الصحية هذه في تقليل حدة ردود الفعل تجاه الوجود الفرنسي في العديد من مناطق البلاد، خاصة خلال الفترة التي كانت فيها عمليات المقاومة المسلحة مستمرة في البوادي المغربية.

انفصال ليوطي عن مستعمرته المفضلة

في الوقت الذي كان ليوطي يثبت أسس نموذجه الاستعماري بعد تراجع أغلب حركات المقاومة المسلحة في منطقة الحماية الفرنسي، كانت إسبانيا تحاول بصعوبة بالغة إيقاف الانتصارات المتزايدة لمقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي في منطقة الريف، فوجد ليوطي نفسه أمام خطر سيطرة قوات الخطابي على بعض المناطق على الخط الحدودي بين منطقتي النفوذ الفرنسي والإسباني، وانسجاما مع سياسته القائمة على تأخير الحل العسكري، عمد ليوطي إلى التفاوض مع الخطابي بهدف الاستسلام لكن من دون جدوى، ومع ذلك ظل ليوطي معارضا لفكرة التدخل الفرنسي في منطقة الريف لإيقاف المقاومة، أو خوض مغامرة عسكرية مشتركة فرنسية إسبانية، خاصة أن الخطابي نفسه كان يعبر عن عدم رغبته في خوض المواجهة مع الجيش الفرنسي، لكن طرد هذا الأخير للمقاومة من بعض المناطق الإستراتيجية حمل الخطابي على التفاوض مع الفرنسيين الذين لم تعد لهم رغبة في التفاوض، خاصة مع قرار وزير الحرب الفرنسي بالهجوم على قوات المقاومة، الذي عمد بعد هذا الرفض إلى التخطيط لاحتلال تازة وضرب فاس لدفع الفرنسيين إلى التفاوض.

في خضم هذه الأحداث، زار المغرب المارشال فيليب بيتان المفتش العام للجيش الفرنسي ونائب رئيس المجلس الأعلى للحرب للوقوف على الأحوال في الجبهة الشمالية، وعبر صراحة عن معارضته منهج ليوطي في التفاوض السياسي قائلا "إنني في الحرب، لا أعرف ميدانا سوى ميدان القتال… الأهداف السياسية لا تدوم ولا قيمة لها في الميزان. لا شك أن شغلكم أنتم اتخاذ القرارات السياسية، أما شغلي أنا فاتخاذ القرارات الإستراتيجية".

هذا الخطاب الذي كان يعارضه ليوطي معتبرا أن مهمة الجندي الاستعماري سياسية أكثر منها عسكرية، وأنه ينبغي استعمال القوة بمنتهى الاقتصاد وعند الضرورة القصوى"، وفي الوقت الذي كان فيه ليوطي يحاول استمالة قبيلة بني زروال وثنيها عن مساندة الخطابي، كان المارشال بيتان يقنع الحكومة الفرنسية في باريس بضرورة شن الحرب المشتركة مع إسبانيا على الخطابي في الريف، وكان انتصار الخطابي في معركة "ورغة" سنة 1925 على قوات ليوطي سببا في تقديم الأخير استقالته وتعويضه بالمارشال بيتان الذي هزم المقاومة الريفية معلنا استسلام الخطابي ونهاية مقاومته، وفي الوقت نفسه نهاية قصة الحب التي جمعت بين المارشال ليوطي ومستعمرته المغربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.