العلاقة بين الدستوري والسياسي: أيهما يحكم الآخر؟

BARCELONA, SPAIN - JANUARY 30: A general view of the Parliament of Catalonia on January 30, 2018 in Barcelona, Spain. The President of the Parliament of Catalonia, Roger Torrent has called off the parliamentary session scheduled for today to form a new regional goverment. The Spanish Constitutional Court ruled on Saturday that Carles Puigdemont, who were proposed by the pro-indepenence parties as the candidate to be the new President of Catalonia, has to be present to b
المحكمة الدستورية العليا في برشلونة (غيتي إيميجز)

الإشكالية التي أطرحها تناقش بشكل عام العلاقة بين الدستوري والسياسي: أيهما يحكم الآخر؟ وإلى أي مدى يمكن للدستور بعمومية أحكامه أن يروض السياسي بطموحاته ودهائه. كان تركيزي الأساسي في هذه المقالة مفاهيميًا وصفيًا، في هذا المقام أجادل بأن "التأسيس للسلطوية بإضعاف الديمقراطية من خلال استخدام أدوات قانونية ودستورية من المرجح أن يكون أكثر شيوعًا في المستقبل، وأن لدينا ردودًا قليلة غير كافية في القانون الدستوري المقارن وأيضا في القانون الدولي؛ وبالتالي أتساءل مع فقهاء القانون الدستوري ورواد علم السياسة، وأيضا خبراء القانون الدولي: هل يمكننا فعلا، اليوم، تطوير إجابات أكثر فعالية على المستوى الوطني أو الدولي بخصوص هذه الإشكالية؟

بقدر ما للنقاش الدستوري أهميته الخاصة من زاوية حماية الشرعية الدستورية والمحافظة على استقرار أحكام الدستور، يطرح أيضا سؤال المعالجة السياسية للأزمات، فما بين النظرية الدستورية والتطبيق والتنزيل والإخراج السياسي مسافة كتلك التي تفصل بين "الخريطة والأرض"؛ فإذا كانت "الخريطة"، بمثابة الدستور، فهي لا تعدو أن تكون رسما مصغرا وتمثيلا اختزاليا؛ أما "مشهد الأرض"، فهو الواقع السياسي، واقع فسيح المدى شاسع الأطراف، لا تطابق بين القياسين.

إذا كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إيجاد التعميمات وتقديم أجوبة جاهزة بخصوص تطبيقات النظرية الدستورية على أرض الواقع، يمكننا، مع ذلك، تحديد بعض مشكلات "الصناعة الدستورية وتطبيقاتها"، والتي بدأت تظهر بشكل متكرر؛ خصوصا في العالم العربي، هذه القضية اكتسبت إلحاحًا جديدًا منذ مرحلة ما بعد الربيع العربي، مع موجة جديدة من الديمقراطيات الجديدة المحاصرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وأهم هذه المشكلات المركزية والمتعلقة بتفعيل وإنزال مجال النظرية الدستورية إلى حيز التطبيق: استعمال الدستور نفسه وآلياته المسموح والتي قد تبدو في مظهرها الأول مقبولة وشرعية، بغية التأسيس لممارسات سلطوية تحكمية. وهنا أتساءل بداية:

  • كيف يمكننا، اليوم، استخدام الدساتير لتوفير حماية أفضل ضد التهديدات التي يتعرض لها النظام الديمقراطي؛ وجعل عملية الدسترة تتلاءم مع عملية الدمقرطة؟
  • ومن جهة أخرى، وبقدر ما للنقاش الدستوري من أهمية خاصة من زاوية حماية الشرعية الدستورية والمحافظة على استقرار أحكام الدستور، يطرح أيضا سؤال المعالجة السياسية للأزمات، فما بين النظرية الدستورية والتطبيق والتنزيل والإخراج السياسي مسافة كتلك التي تفصل بين "الخريطة والأرض"؛ فإذا كانت "الخريطة" بمثابة الدستور، فهي لا تعدو أن تكون رسما مصغرا وتمثيلا اختزاليا؛ أما "مشهد الأرض" فهو الواقع السياسي، واقع فسيح المدى شاسع الأطراف، لا تطابق بين القياسين.

في خضم هذه التساؤلات وغيرها، استوقفني، كأي باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية، ما وقع ويقع في تونس من أحداث وتراجعات منذ ابتدأ الرئيس "قيس سعيد" حملته السياسية الشرسة، بداية بالتعسف على الدستور قراءة وتأويلا، ثم الذهاب نحو "تعطيل أحكام الدستور، باسم الدستور نفسه"، ووصولا إلى حادثة "حرق الوثيقة الدستورية"، وهو أمر يحمل معه دلالة وأي دلالة.

في الواقع، حادثة "حرق أوراق الوثيقة الدستورية" ما هو إلا شكل من أشكال الإجهاز وقتل "روح ومعنى الدستور" الذي يمكن أن يتخذ في كثير من الأحيان طرقا قد تبدو في مظهرها الأول مقبولة وشرعية؛ بمعنى أن هذا الحدث يفتح لنا الباب لإعادة النقاش من جديد حول مسألة ممارسة السلطوية تحت غطاء ولواء "القراءة الدستورية المنحرفة والتعسفية".

في هذا السياق، محاولة منا لفهم ما وقع ويقع وما يمكن أن يقع، وقبل التعريج على النموذج التونسي الحالي، نموذج الرئيس قيس سعيد، رجعت إلى مجموعة من التجارب والتمارين الدستورية والسياسية. ودعوني هنا أعود معكم، إلى بعض الأحداث التاريخية التي عرفتها التجربة الدستورية الحديثة والتي تناقش إشكالية "خلفية ممارسة السلطوية باسم الدستور".

فما حدث، مثلا، في الإكوادور وكولومبيا والمجر (هنغاريا) وفنزويلا، بل ما حدث في تاريخ الولايات المتحدة سابقا، يرجع بنا ويؤسس لنا لهذه الإشكالية، إشكالية إساءة استخدام آليات الوثيقة الدستورية، بهدف الوصول إلى النتيجة السلطوية التحكمية.

النموذج الأول، من المجر

في تجربتها غير البعيدة، بعد انتخابات 2010، مازلت أتذكر حادثة وصول حزب "فيديسز" (Fidezs) بقيادة "فيكتور أوربان"، وكيف قلب المعادلة وأسس لممارسة سلطوية باسم الأساليب الشرعية والمسموح بها دستوريا. أتذكر هنا، الاستفادة من جانب من جوانب القواعد الانتخابية المجرية التي تهدف إلى تعزيز استقرار الأغلبية الحكومية في نظام التمثيل النسبي، وواحدة من أسهل قواعد التعديل في العالم، أتذكر ما حققه هذا الحزب من "فوزً انتخابيً صغير"، بنسبة 53% فقط، لكنه قلبه لأغلبية تشريعية قادرة على تعديل الدستور بفعل إرادي.

فمن خلال فرض سلسلة من التعديلات الدستورية، عشرة في الأشهر الأخيرة من سنة 2010، والتي تم تبنيها جميعًا، برلمان "فيديسز"، برلمان التغيير الدستوري، وبالوسائل المتوافقة رسميًا مع الدستور، تمكن "الحزب الحاكم من السيطرة على جميع أجهزة الحكومة"، بما في ذلك تلك التي كان من الممكن استخدامها للسيطرة على سلطته. لقد نجح، بما مظهره شرعي ومقبول، في إضعاف المؤسسات المستخدمة للسيطرة على المعارضة البرلمانية وخاصة مؤسسة المحكمة الدستورية (مثلا، تم إقرار تعديل دستوري من أجل تجريد المحكمة الدستورية من معظم اختصاصاتها في المجال المالي والمتعلقة بالميزانية، المحكمة من جهتها رفضت هذا الأمر، ورأت أنه يمكن لها النظر في التعديلات الدستورية للمسائل الإجرائية فقط).

لقد دافع "أوربان"، بمكره السياسي، عن هذه التغييرات بعدة أسباب؛ الأول كان رفضه الليبرالية نفسها. علاوة على ذلك، فقد جادل بشكل صحيح في أن كلا من الأحكام المطعون فيها يمكن العثور عليها في دساتير من الديمقراطية الليبرالية. في الواقع، جادل بأن الأحكام الدستورية التي أعلنها كانت فقط مواصفات بديلة للمطالب الليبرالية. وهنا قد لا أختلف مع "أوربان" في فلسفته، لكن الموضوع المقلق، أيضا، ليس استخدام آليات الوثيقة الدستورية، بل إساءة استعمالها للوصول إلى النتيجة الاستبدادية، من قبيل (إمكانية منح الحزب الحاكم مقاعد إضافية لشغلها.، أنشأ مكتبًا قضائيًا وطنيًا جديدًا يسيطر عليه الحزب، مع صلاحيات واسعة فيما يتعلق بالاختيار القضائي وتخصيص القضايا داخله..)

ربما يكون المثال المجري من الأمثلة المهمة على هذه المشكلة التبادلية آليات دستورية/التأسيس لممارسة سلطوية: فقد قام فيدسز بتعديل الدستور ثم استبداله، واستخدم عددًا من الأساليب المختلفة، الدستورية والقانونية على حد سواء، لتقويض سلطة المؤسسات المتعلقة بالرقابة، وتقوية، بالمقابل، سلطة الحزب.

النموذج الثاني: من الإكوادور

حين حاول وفشل الرئيس "رفاييل كوريا" في كسب التأييد الشعبي لتعديل دستوري من شأنه أن يسمح له بتمديد فترة ولايته.. وهنا على الرغم من أن الوسيلة، "الأمر بتعديل دستوري" تبدو في مظهرها قانونية ومقبولة دستوريا، لكن الغاية منها تعسفية وتنحو في غايتها نحو التأسيس "السلطوي" لممارسة السلطة.

إن استخدام الوسائل المصرح بها دستوريًا لمراجعة الدستور جذريًا أو استبداله بالكامل ليس في حد ذاته مصدر قلق للنظرية الدستورية طالما أن الدستور الجديد نفسه مقبول كنقطة معيارية. بمعنى، أن كل دستور يحقق مستوى معينًا من الرضا عن قيمه المحفزة، وأن نهبة أو موت الدستور الوثيقة هو أمر مقبول، وهنا يجد التعديل أو التغيير الدستوري حجيته حيث يمكن أن يقلل من هذا المستوى؛ لكن الإشكال هنا هو النتيجة، النتيجة الاستبدادية التي تنحرف عن الأهداف الكبرى الغايات والمقاصد من هذه الآليات الدستورية.

النموذج الثالث: من كولومبيا

المعروف أن كولومبيا حافظت تاريخياً على ما يشبه الديمقراطية، بالاعتماد إلى حد كبير على الانتخابات الدورية والتناوب الرئاسي، مع عدد قليل من الاستثناءات التاريخية، حيث شهدت البلاد فترات أقل وأقصر بكثير من الاستبداد العسكري. علاوة على ذلك، من الناحية التاريخية، كان الرؤساء مقيدين عمومًا بولاية واحدة، والتي لها دور في الحفاظ على النظام الديمقراطي من خلال منع وصول رجال أقوياء مع استمرار قبضتهم على السلطة. ومع ذلك، اختبر الرئيس "ألفارو أوربي فيلز" هذا النموذج بعد فوزه في الانتخابات عام 2002. فاز الرجل كأجنبي، وخاض الانتخابات ضد نظام الحزبين التقليدي واكتسب شعبية كبيرة، وهنا بدأ الإشكال حيث استخدم شعبيته للأمر بـ "تعديل دستوري" يسمح له بولاية ثانية، مما جعل مجموعة من المواطنين يطعنون أمام المحكمة الدستورية الكولومبية، بدعوى وجود مخالفات إجرائية وأن التعديل يشكل مشروع دستور لا يمكن تطبيقه الا من خلال الجمعية التأسيسية فقط. وفيما يتعلق بالنقطة الثانية، شددوا على أن مفهوم الدستور قد تم تأسيسه للرؤساء الذين لديهم تفويض واحد، وأنه من خلال توليه أكثر من ولاية واحدة… ردت المحكمة بأن فترات الرئاسة لفترتين كانت طبيعية إلى حد ما على المستوى الدولي، وأن السنوات الأربع الإضافية لن تسمح لها بتولي جميع أو معظم مؤسسات التدقيق، كما اضطرت المحكمة للتعامل مع هذا الوضع بعد 4 سنوات، بعد أن فاز "أوريبي" بولاية ثانية؛ فقد عمل أنصار الرئيس الذي لا يزال يتمتع بشعبية على الدفع من خلال تعديل يسمح بفترة ولاية ثالثة من خلال الكونغرس، ووافق الكونغرس على استفتاء حول ما إذا كان سيتم عقد 3 فترات متتالية….

لن أعود هنا إلى كل حيثيات القضية، بل ما يهمني هو الإشارة إلى الممارسات السلطوية باسم الدستور، بمعنى محاولة تغطية وحجب نوابا ومقاصد سلطوية استبدادية بالرجوع إلى الوثيقة الدستورية نفسها والتعسف على قراءتها وتأويلها وتجاوز حدود القراءة السليمة.

النموذج الرابع التونسي:

أولا: تأويل الدستور بشكل تعسفي

لم يكن؛ بالأمس القريب؛ لتونس من رأس مال سوى تجربتها الديمقراطية… تجربة حراك الياسمين، لكن ما فعله اليوم الرئيس التونسي؛ وبهذا النوع من الخطاب "العسكري"؛ وبأساليب وتقنيات تبدو في مظهرها الأول تنهل من الدستور، لكن بغاية وبهدف تعسفي سلطوي محض، يطرح معه إلزامية إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم والمنطلقات.

ابتدأ الرئيس مسيرته بقراءة الفصل 80، وهذا من حقه كباقي الفاعلين الأساسيين، فالدستور يسمح له كرئيس للدولة بالقيام بالقراءة الدستورية واتخاذ قرارات حاسمة، وهنا يتجلى الجانب الدستوري من العملية الماكرة؛ لكنه، عكس ذلك، "تعسف وانحرف" حين تجاوز حدود القراءة السليمة التي تستند إلى مبدأ وحدة النص الدستوري كمنطلق أساسي وأولي؛ وأيضا مبدأ تكامل أهداف وغايات النص الدستوري.

فالقراءة هنا مشروطة بموجب الفصل 80 من الدستور التونسي؛ باستشارة كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وأيضا بإعلام المحكمة الدستورية التونسية (المغيبة)؛ والمعنى أن الرئيس لم يلغِ الدستور وإنما تعسف في القراءة، وكانت النتيجة الأولى؛ إن صح القول؛ الانقلاب على أسس النظام البرلماني الدستوري؛ فالنظام التونسي أقرب ما يكون إلى نظام برلماني؛ لكن الرئيس قيس، ومنذ أيامه الأولى؛ يرفض هذا الأمر؛ وكان يعتبره "نظاما مزدوجا"؛ وهو بذلك ينحو منحى التأسيس لنظام رئاسي؛ الأمر الذي جعله اليوم يتعسف في قراءة الفصل 80 ويفعل ما فعل.

فمن زاوية دستورية صرفة، قام الرئيس "قيس سعيد" على تفعيل الفصل الثمانين، لا سيما فقرته الأولى". والواقع أن نصوصا أخرى تخوله هذا الحق، بما لا يتعارض مع الفصل الثمانين وروح الدستور، كما هو واضح في إحدى فقرات الفصل الـ 77، التي قضت بأن يتخذ الرئيس "التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، والإعلان عنها طبق الفصل 80". كما أن الفصل 72، الذي جعل من رئيس الجمهورية "رئيس الدولة ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها"، ألزمه بأن "يسهر على احترام الدستور".

ثانيا، الثقافة الدستورية للرئيس سعيد "سلطوية قديمة"

مما جاء في ديباجة الأمر الرئاسي رقم 117

"… وحيث إذا تعذر على الشعب التعبير عن إرادته وممارسة سيادته والتعبير عنها في ظل الأحكام الدستورية السارية، تُغلّب  السيادة على الأحكام المتعلقة بممارستها، وحيث عبر الشعب التونسي في أكثر من مناسبة عن رفضه للآليات المتعلقة بممارسة السيادة وطرق التعبير عنها، وحيث تعطلت دواليب الدولة وصار الخطر لا داهما بل هو واقع وخاصة داخل مجلس نواب الشعب، وحيث إن المبدأ هو أن السيادة للشعب، وإذا تعارض المبدأ مع الإجراءات المتعلقة بتطبيقه يقتضي ذلك تغليب المبدأ على الأشكال والإجراءات….".

ما يستفاد من هذه الديباجة، أن الثقافة الدستورية للرئيس قيس سعيد قديمة، ثقافة ترجعنا حتى إلى ثقافة "سييس" الذي كان يعتبر أن "السلطة تأتي من القمة والثقة من القاعدة"، وبالتالي كان يضع مجالا خاصا لصاحب السلطة وممارستها بعيدة عن القاعدة وممثليها، أفكار "سييس" هذه شكلت تاريخيا المرجع الأساسي لحكومة القناصل و"دستور 22 فريمير" بفرنسا، والتي أخذ منها "بونابارت" ما يتلاءم منها مع تصوره للحكم، ليصل بذلك إلى مرتبة "القنصل العام الأول" ويعلن عن ميلاد الإمبراطورية الأولى.

الحديث عن اللجوء للمراسيم الرئاسية بهذا الشكل، ثقافة قديمة، تذكرنا بالأوامر الملكية التي شهدتها مجموعة من التجارب السابقة والتي سعت من خلالها إلى احتكار السلطة، وهنا أستحضر معكم مثلا ثورة 1830 في فرنسا، هذه الثورة جاءت نتيجة تجاهل "شارل العاشر" لعدم الاتجاه نحو العمل بالنظام البرلماني، حيث احتفظ "شارل العاشر" بحكومة خسرت الانتخابات واتجه إلى الحكم بواسطة الأوامر les ordonnances. مما عجل بالإطاحة به والتأسيس لميثاق 1830 والذي أقل ما يمكن القول عنه إنه لم يعتبر ميثاقا ممنوحا، لأنه حمل طابع الميثاق بين الملك ومجلسي البرلمان…. وهو ما يفعله اليوم الرئيس التونسي قيس سعيد، حيث يصول ويجول ويأخذ ما يناسبه وما يبدو مقبولا ومشروعا في الوهلة الأولى، ليؤسس لتصوره في الحكم، الحكم السلطوي باسم الدستور.

ثالثا: ممارسة تكشف عن مفهوم "فوق الدستورية"

بمراجعة الأمر الرئاسي رقم 117، وخاصة الفصل 20 من الأمر الرئاسي، والذي ينص على "يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام هذا الأمر الرئاسي"، بهذا الشكل يتوقف العمل بالدستور في حالة مخالفة الأمر الرئاسي، بمعنى أن الأمر الرئاسي أصبح "فوق الدستور"

رابعا: تعيين امرأة على رأس الحكومة يفتقد للشرعية الدستورية

بالإضافة إلى الحكم بموجب المراسيم الرئاسية، وإلغاء هيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، ثم إصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وغيرها من المراسيم الخطيرة؛ يطرح السؤال هل يغطي تعيين امرأة على رأس الحكومة ما يفعله الرئيس قيس سعيد؟

بمراجعة الأمر الرئاسي، لا توجد حكومة من الأصل، فالذي يمارس السلطة التنفيذية هو رئيس الجمهوريّة بـ "مساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة"؛ حكومة تساعد فقط. (الفصل 8 من المرسوم الرئاسي)؛ حكومة بموجب الفصل 89، غير شرعية، حكومة بدون ثقة وموافقة البرلمان.

السؤل: كيف ستحصل الحكومة الجديدة وبرنامجها على ثقة البرلمان ؟، دستوريا لابد أن تَعرض برنامجها على البرلمان، وغير ذلك فهو مخالف لأحكام الدستور والشرعية الدستورية". فكيف سيرد الرئيس "قيس سعيد" ويبرر هذه الممارسة السلطوية باسم الدستور؟

وهنا، والخطة مكشوفة ومعروفة، سيرجع الرئيس "قيس سعيد" مرة أخرى إلى الدستور نفسه ليبحث عن تخريجه لتبرير "ممارسته السلطوية"، والأكيد أنه سيذهب إلى الفقرة الثالثة من الفصل 89، ويُقطعها ويُقزمها من محتواها، ويقرأ علينا أنه بموجب الفصل 89 «… يقوم رئيس الجمهورية في أجل 10 أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر…"؛ … والصحيح دستوريا أن الفصل 89 يفترض عدم تشكيل الحكومة بعدم منحها الثقة، بمعنى أن البرلمان في حالة عمل… وهذا ما توضحه الفقرة الرابعة من الفصل 89 التي تقول «… إذا مرت 4 أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حلّ مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما…".

أي مخرج لتونس؟ ما بين سؤال عزل الرئيس وإلحاح المدخل القانوني

أي مخرج لتونس، تونس قيس سعيد؛ الحديث عن هذا الأمر يجب ألا يخرج عن الإشكالية الرئيسية التي يطرحها مأزق تونس اليوم؛ قصدنا بذلك العلاقة بين الدستوري والسياسي: أيهما يحكم الآخر؟ وإلى أي مدى يمكن للدستور، الأقرب إلى تمثيل الإرادة العامة، بعمومية أحكامه ومبادئه وأسسه، أن يروض السياسي بطموحاته ودهائه. هل يشكل اليوم الدعوة إلى الإطاحة وعزل الرئيس التونسي حلا ومخرجا للأزمة؟

في رأينا، لا مخرج اليوم لتونس سوى استعادة مضمون الوثيقة الدستورية نفسها وتحريرها من تعسف الرئيس، لا مخرج إلا باستعادة المضمون الحقيقي للفصل 80 نفسه، بمعنى فتح قبة البرلمان ليكون في حالة انعقاد دائم؛ لكن هذا غير كاف، بل يحتاج ضغط الفاعلين المخلصين للمبادئ الديمقراطية، بل والأكيد لا بد من ضغط يمارسه الشارع، بعد استعادة البرلمان، الحامي الحقيقي للدستور يمكن طرح خارطة الطريق للمدة القادمة.

في غياب هذا المدخل القانوني، الذهاب نحو مطلب عزل الرئيس، أي خارج المؤسسات في ما يشبه الثورة الثانية، سيشكل، في رأينا، إشكال آخر. قد يظهر على أنه عزل ثوري جميل، ولكنه يحمل اعتداء آخر على الدستور، إذ يتجاوزه بشرعية شعبية لن تجد ضرورة للعودة إلى الدستور لاحقا؛ وهنا سنسقط في إشكال آخر.

لابد، في رأينا، من إقامة وإثبات الحجة القانونية على تنطع فريق الانقلاب؛ ويجب فتح الباب لتفاوض عقلاني، فالأمر يعتبر ضروريا، إنه سلم نزول مناسب لمن تطرف في موقفه، وقد تكون هذه ورقة بيد القوى المساندة للوضع الدستوري في الداخل والخارج لتجادل بها أصحاب الانقلاب الدستوري.

ومن الخلاصات الأساسية في هذا المجال، أقول:

  • أولا؛ يمكن للممارسات الدستورية التعسفية المنحرفة أن تتخذ مسارات مختلفة لتحقيق نفس الأهداف السلطوية.
  • القواعد الرسمية المنصوص عليها في الدساتير غالبًا ما تكون ضعيفة بشكل جلي، وحتى القواعد التي تبدو قوية يمكن إدخالها في عدد كبير من الظروف بشكل مفاجئ، الحيلة بالطبع تكمن في الحفاظ على الدستورية في مواجهة هذا الواقع.
  • لا يجوز تحت طائلة أي ظرف كان أن يتم تأويل أحكام الدستور بشكل تعسفي، لا سيما في غياب وجود قضاء دستوري منصّب وقائم، كما هو الحال في تونس، التي تعطلت في الإعلان الرسمي عن إحدى أهم حلقات منظومتها القضائية، أي المحكمة الدستورية، وتم استغلال الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
  • إن الدستور ليس دستوريًا حقًا ما لم يُعمل ويُطبق بالفعل، بطرق معينة ويلتزم ببعض الأسس. وبالتالي فمطلب الحوار وإعادة التفكير، حوار عالمي للقضاة الدستوريين والأكاديميين والفاعلين في السنوات القادمة، مطلب لابد منه.

كيف يمكن اليوم تقديم إجابات حول بناء نظام رسمي أكثر تعقيدًا وأكثر تحصينا لنظرية التغييرات الدستورية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.