بين الانقلاب الدستوري والسياسي.. قلب للسلطة أم لنظام الحكم؟

المحكمة الدستورية الأردن
المحكمة الدستورية بالأردن (مواقع التواصل)

بزغت فكرة الدستور كمحاولة لعقلنة المعترك السياسي عن طريق تنظيم العلائق بين الحكام والمحكومين. وتطوّرت هذه الفكرة في بداية العصر الحديث بسبب التغيرات العميقة والمتشابكة التي شهدها الغرب في كافة المجالات لتصبح من أهم ركائز الدولة القومية الناشئة، إذ صار الدستور تدريجيا بصفته تجسيدا للعقد الاجتماعي هو الأسمى الذي يَحدّ سلطة الحاكم ويضمن الحريات ويؤطر المجتمع اعتمادا على مجموعة من المبادئ الفلسفية أهمها: سيادة الشعب وسريان القانون وفصل السلط وتحييد الدين.

في هذا المقام، أجادل بأن فكرة "الانقلاب على الدستور" ليست بالحديثة، بل هي فكرة خبرها ووثقها التاريخ، هي فكرة جعلت من استخدام "الأدوات القانونية والدستورية" مدخلات أساسية  للانقلاب على الوثيقة الدستورية، وبالتالي الذهاب نحو التأسيس للسلطوية بإضعاف الديمقراطية  كنتيجة.

وأخذا بهذا المعطى، شكلت العملية الديمقراطية، بوصفها بناء نظريا ونظاما اجتماعيا، أهم إبداعات العقل السياسي الذي يتوخى، من خلال أساس الوثيقة الدستورية التعاقدية الجامعة، تنظيم الأفراد داخل سياقات اجتماعية مختلفة رغم تعدد وتنوع منطلقاتهم وتوجهاتهم، كما ينشد العمل على تدبير اختلافاتهم السياسية من أجل بلوغ الغايات السامية للدولة، المتمثلة أساسا في تحقيق العدالة وتحصيل الرفاهية للمواطنين.

العملية الديمقراطية، وإن كانت تستند إلى آلية "الدسترة" وتنهل من قواعدها ومبادئها، فهي أوسع وأشمل من ذلك. وحقل الإحالة في "الدمقرطة" يكمن في تحديد اختياراتهم ونوعية مؤسساتهم، أما منطلق الدسترة فهو "التوافق على بناء القواعد والضوابط والكوابح الناظِمة للسلطة وسلوك ممارسيها"؛ ومن هنا يحضر التساؤل الأولي: عربيا، هل تُسعفنا فعلا عملية "صناعة الدساتير" في القول إننا أمام تحول ديمقراطي أو انتقال إلى الديمقراطية؟ وهل النتائج التي أفضت إليها مناقشات صياغة الدستور التونسي، مثلا، ساهمت في حل الأزمة الراهنة، وبالتالي فتح الطريق أمام استمرار الاختيار الديمقراطي؟

والقصد هنا البحث في ما وراء الديمقراطية، بمعنى أن الديمقراطية لا تَسلم بدورها من مكر العقل الذي ابتكر الأيديولوجيا والوهم والعنف، أو من "اليوطوبيا" التي غالبا ما تنتج تصورات مبالغا فيها تضفي القداسة على الديمقراطية نفسها. كما أنه كثيرا ما تَخترق تلك الغايات أنماط من العقلانيات المختلفة والمتعارضة، وأشكال من النزعات اللاعقلانية التي تجبر العقل السياسي، بل العقول السياسية، على الاستسلام لمفارقات لا حصر لها عند تناول مفهوم "الديمقراطية".

هذه الاختلافات والتباينات في التصورات والممارسات اللصيقة بالديمقراطية وضعت هذه الأخيرة في مأزق إشكالي، جعلت المهتمين بالشأن السياسي، سواء كانوا منظرين للسياسة أو ممارسين لها، يدركون الصعوبات التي تشكو منها الديمقراطية لدرجة أمكن الحديث معها عن "مشكلات الديمقراطية".

في هذا السياق، أقف هنا عند إشكالية "غاية التمثيل السياسي" وكيف يحدث أن ينقلب "الممثل عن هذه الإرادة العامة" على منطق وأساس الإرادة العامة نفسها التي تجد "التعاقد الدستوري" الأقرب لتمثلها على أرض الواقع، وهو ما سيشكل إطارا جديدا لإعادة إنتاج التأزم السياسي عينه، والأنكى من ذلك أن يُعاد توليد "أزمة الشرعية" باسم "الشرعية" نفسها.

في هذا المقام، أجادل بأن فكرة "الانقلاب على الدستور" ليست بالحديثة، بل هي فكرة خبرها ووثقها التاريخ، هي فكرة جعلت من استخدام "الأدوات القانونية والدستورية" مدخلات أساسية  للانقلاب على الوثيقة الدستورية، وبالتالي الذهاب نحو التأسيس للسلطوية بإضعاف الديمقراطية  كنتيجة.

توطئة لابد منها

ينبني المنظور الحديث لدراسة وتحليل الأنظمة السياسية بالأساس على مفهوم "الدستورية"، والدستورية أول ما تعنيه أنها "حركة لبناء الدولة على أساس قانوني ومؤسسي". وصف النظام السياسي بأنه "دستوري" يعني أن أساس تصنيف وتحديد مقومات هذا النظام إنما ينطلق من الوثيقة الدستورية، فإذا كنا نقصد بالنظام السياسي ذلك "الإطار الذي يحدد شكل الحكم وطبيعة السلطة، والشكل القانوني تشتغل ضمنه هذه المؤسسات، فإن إضفاء وصف "الدستورية" يجيب بالأساس عن سؤال محوري "كيف يتمثل ويتبدى هذا النظام داخل الوثيقة الدستورية"؛ وما مصطلح الدستورية إلا دلالة وانعكاس فكرة "التعاقدية" التي كانت بمثابة النواة الذي تَولد على أساسها بعد ذلك الكثير من الأنظمة السياسية والدستورية لكثير من الدول الحديثة، كما كانت بمثابة القيد الذي "جعل العلاقة بين الحاكم والشعب تقوم على نوع من الضوابط والقيود"، يخضع لها الحاكم أثناء ممارسة شؤون الحكم ويطالب بتنفيذها أمام الأمة، وقد كان ذلك يُمثل نوعا من الرقابة الشعبية والدستورية على سلطان الحاكم، وإن كانت رقابة ضعيفة وغير ثابتة استطاع الحكام أن ينفذوا من خلالها، نحو الاستبداد بالسلطة والعدوان على حقوق الشعب.

عامة، وبالعودة إلى التاريخ الدستوري والسياسي نسجل، في مستوى أول، تعاقب تصورين للسلطة؛ تصور الملكية (بمستوياتها: الملكية المطلقة وبعدها الدستورية المقيدة، وصولا إلى الشكل البرلماني) وتصور السيادة الشعبية، وقد أدى كل واحد منهما إلى ميلاد تقليد تم التعبير عنه أحيانا من خلال مؤسسات سياسية أو إدارية وأيضا من خلال استمرار وسيادة أيديولوجية معينة. في هذا الصدد، ظهر "تقليد سلطوي" حول ممارسة السلطة من جهة، و"تقليد ليبرالي" حول ذات الممارسة من جهة ثانية. وإذا كان من الواضح أن هذين التقليدين متناقضان ومتعاكسان فإنهما على الرغم من ذلك تكاملا على نحو محكم؛ وهو الأمر الذي عكَسه النموذج الفرنسي بامتياز حيث جسد أصالة وتميز الأسس السياسية للقانون العام الفرنسي من خلال "الزواج" الناجح لتقليدين يبدو أنهما في الأصل متناقضان كلية.

بالإضافة إلى التصورين السابقين (الملكية والسيادة الشعبية) ظهر، في المستوى الثاني، واقعيا وممارسة، تصور ثالث تَمثل وتبدى في شكل آخر من الحكم عُرف بـ "حكومات الأمر الواقع" أو "الحكومات الثورية" والتي ستأخذ بعدها شكل "الإمبراطورية"، تصور "لم يستند في مرجعه ومصدره لا إلى "الملكية" ولا إلى "السيادة الشعبية" وإنما إلى "معيار القوة" في انتزاع المشروعية السياسية؛ الأمر تعلق بأشخاص اعتلوا العرش عن طريق "الانقلاب والقوة". لكن الجديد أنه كان بمعية "الاقتراع الشعبي"، هم أناس حكموا بأساليب الأنظمة الدكتاتورية، وفي نفس الوقت قدموا أنفسهم كمدافعين عن مبادئ الثورة، وبالتالي اعتبروا أنفسهم "المنقذين والمخَلصين" للأوضاع والأزمات التي يعيشها النظام السياسي؛ وبالنظر إلى صعوبة تحديد شكل هذا النظام فقد وصفه الفقيه الدستوري الفرنسي "موريس دوفيرجيه" بالملكية الجمهورية (Monarchie républicaine) لكن الوصف الذي اعتمده من حكموا في ظل هذا النظام هو الحكم الإمبراطوري.

النموذج السياسي الفرنسي يعطينا فكرة جلية وواضحة عن هذا التصور الثالث الذي أسس معه لولادة مفهوم "الانقلاب على الدستور"، بحيث تعرف فرنسا نظاما فريدا ومعقدا يصعب تحديده، ذلك أن النظام الذي تم إنشاؤه في هذه الفترة (العهد الإمبراطوري من 1799 إلى 1814 ومن 1852 إلى 1870) في جوهره قريب من معالم  النظام الملكي، لكن في نفس الوقت ليست له أية علاقة بالأسرة الملكية التي كانت تحكم فرنسا قبل الثورة.

الانقلاب على الدستور: نحو أي مفهوم؟

الأكيد أن "الانقلاب" لا يشكل مفهوما علميا يمكن له أن يقدم لنا نموذجا تفسيريا للظاهرة السياسية المعقدة كما يُفترض أن يكون "المفهوم في العلوم الاجتماعية"، بل هو يقف عند حدود "المصطلح". وبهذا نقول إن "الانقلاب" يُكيف على أنه "مصطلح" وليس بالمفهوم العلمي؛ ويقال "مصطلح" لأنه يُصطلح عليه؛ أي يُتفق عليه في تسمية الظواهر والأشياء.

مصطلح "انقلاب"، في المجال السياسي، في مستواه الأول، يعني "قلب السلطة"، ولا يعني "قلب نظام الحكم"، بمعنى انقلاب أوساط من النظام على أوساط أخرى من النظام نفسه، بوسائل غير دستورية. والعنصر الأهم، هنا، أن أحد أجهزة النظام أو مكوناته ينقلب على الحاكم. وغالبا ما يكون الهدف من الانقلاب هو الوصول إلى الحكم، وليس تغيير النظام. وهنا يختلف مصطلح "الانقلاب" عن مصطلح "الثورة" الذي غالبا ما يكون "تحركا شعبيا واسعا من خارج النظام لتغيير نظام الحكم"، بل وفي بعض الأحيان قد يصل "الانقلاب" إلى مستوى "الثورة" عند الانتقال إلى تغيير النظام السياسي بتأييد شعبي (كما حصل، مثلا، في انقلاب الضباط عام 1952 في مصر).

بالمقابل، إذا كان من الطبيعي، في هذا المستوى الأول، أن يكون الانقلاب عسكريا، فالطرف القادر على إطاحة السلطة من داخل النظام هو الجيش، أو جهاز الأمن على الأقل؛ فإنه يُطرح، في مستوى ثان، تَمثل آخر لمصطلح "الانقلاب"، والذي أسميه هنا "الانقلاب الدستوري" وعند البعض "الانقلاب على الدستور"، يأخذ في كثير من الأحيان بطرق قد تبدو في مظهرها الأول مقبولة وشرعية؛ بل وقد يحظى صاحبه بمساندة شعبية قبل وصوله للحكم، بغية الوصول إلى النتيجة السلطوية التحكمية بفرض دستور جديد.

ومن بين أهم من مثل ظاهرة "الانقلاب على الدستور"، سيرا على نهج الجنرال بونابارت الذي قاد انقلاب 18 بريمير Brumaire على دستور السنة الثالثة من الجمهورية الأولى الذي عرف بدستور 5 فريكتيدور، نجد الأمير الرئيس "لويس نابليون بونابارت" الذي لم يتردد في استغلال الظروف التي كانت تعيشها أساسا الجمهورية الثانية الفرنسية، إشكالية "تقييد حق التصويت"، حيث سيقدم نفسه مدافعا عن حق الاقتراع العام، وسيقوم بعد ذلك بحل الجمعية الوطنية ومجلس الدولة وإلغاء دستور الجمهورية الثانية بعد استدعاء الشعب للاستفتاء قصد تخويله حق وضع دستور جديد محاولة منه لإضفاء الشرعية على "الانقلاب الدستوري" الذي قام به والذي فتح له الباب الواسع ليؤسس للإمبراطورية الثانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.