الشرق الأوسط بعد فوز بايدن

(الجزيرة)

انتهى بايدن من تحديد الأسماء الرئيسة المكلفة بإدارة ملف السياسة الخارجية، التي أطلقت العديد من التصريحات وبعض التفصيلات لملامح السياسة الخارجية الأميركية وأهدافها، وجاءت تصريحات الفريق المكلف للتأكيد على ما تحدث به بايدن خلال حملته الانتخابية، وبث رسائل للعالم الخارجي بأن أميركا عائدة -لا محال- لقيادة العالم.

الظاهر والمتاح لغاية الآن ولحين استلام بايدن للسلطة الشهر القادم حول ملامح السياسة الخارجية؛ هو ما أطلق من تصريحات ووعود انتخابية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مدى التزام الرؤساء الأميركيين، وتنفيذهم لوعودهم وتصريحاتهم الانتخابية، وفي هذا المجال أكدت دراسات بأن الرئيس أوباما نفذ 48% من وعوده، وساوم على 26% من الوعود نفذ جزءا بسيطا منها، ولم ينفذ 24%، كما أن ترامب نفذ 21 وعدا، ولم ينفذ 25 وعدا، و7 وعود تم اللجوء إلى الحل الوسط، بينما ما زالت 7 وعود تحت التنفيذ.

وضرب هذه الأمثلة حول مدى التزام الرؤساء الأميركيين بما يطلقونه من وعود خلال الحملات الانتخابية على الصعيدين الداخلي والخارجي، إنما سيقت للوقوف على إمكانية دراسة واستشراف المستقبل بخصوص وعود بايدن الانتخابية.

والمثير أيضا هو انتقاد بايدن الشديد لسياسات ترامب والطروحات النقيضة لسياساته الخارجية، الأمر الذي أثار تساؤلات حول ماهية السياسة الخارجية، التي سيتبعها بايدن وخاصة في الشرق الأوسط، ومدى تطابقها مع سياسات إدارة أوباما، والذي كان بايدن وفريقه المرشح جزءا رئيسا منها.

وعلى الرغم من أن التكهن سابق لأوانه؛ إلا أنه يمكن القول إنه رغم تطابق بعض العناوين بين طروحات بايدن وإدارة أوباما (سلام يقوم على حل الدولتين، والتفاوض مع إيران، وانتقادات لبعض الدول الحليفة التقليدية في مجالات حقوق الإنسان)؛ إلا أن المتوقع أن تشهد الإدارتان (بايدن، أوباما) تناقضا في الآليات والنهج، واختلافا في التفاصيل، وتباعدا في النتائج انطلاقا من الآتي:

  • سياسة أوباما اتسمت بالحذر والانسحاب البطيء من الكثير من أزمات وقضايا الشرق الأوسط، فيما يدعو بايدن للعودة لقيادة العالم، وهذا يتطلب انغماسا أكبر في قضايا الشرق الأوسط.
  • مساحة الحركة وحجم الحرية أمام بايدن ستكون مقيدة أكثر؛ بسبب الأثر الكبير، الذي خلفه ترامب، وتغييرات المشهد في بعض القضايا (تحجيم حركات الإسلام الحركي، التطبيع الإسرائيلي الخليجي)، والواقع الذي يعيشه عدد من دول الشرق الأوسط (أزمات معقدة ومتشابكة).
  • طبايدن كان على خلاف مع أوباما حول كثير من القضايا، التي تخص الشرق الأوسط (تعاطف بايدن مع الرئيس المصري السابق حسني مبارك خلال الانتفاضة الشعبية ضده، التحفظ على التدخل العسكري في ليبيا، تأييده للحرب على العراق) إضافة إلى أن المرشح لوزارة الخارجية سبق أن انتقد سياسة أوباما تجاه بعض ملفات المنطقة (سوريا، السلوك الإيراني في المنطقة..).وفي قراءة لتصريحات ووعود بايدن رغم تزاحمها يتوقع أن يكون الشرق الأوسط نقطة مركزية في أولويات العمل الأميركي الخارجي؛ سواء ما يتعلق بخصوصيات المنطقة أو تداخلها مع الأولويات الأخرى بالنسبة للإدارة الأميركية.

    في ظل هذه الصورة القاتمة لواقع الشرق الأوسط ستجد الإدارة الأميركية الجديدة نفسها أمام ضرورة ملحة للبحث عن أدوات فاعلة، ومقاربات ناضجة للتعامل مع المشهد، وستجد نفسها مضطرة أيضا إلى البحث عن سيناريوهات غير تقليدية في التعامل مع أزمات المنطقة

وبالرغم من أن هناك لبسا وعدم وضوح بخصوص بعض التصريحات لبايدن من حيث جديتها، والقدرة على تحقيقها، ومدى قبولها مثل حديثه حول تقسيم العراق إلى 3 دول سنية، شيعية، كردية.

وانطلاقا من هذه الأهمية ستشهد المنطقة خلال الفترة القادمة حراكا سياسيا ونشاطا دبلوماسيا ملموسا، ليس بخصوص علاقات دول المنطقة مع أميركا فقط؛ بل باتجاه علاقات هذه الدول مع بعضها البعض، والذي قد يكون قد بدأ فعلا، ومثال ذلك (الاتصالات الأردنية الإسرائيلية، ومحاولات المصالحة الخليجية).

وبالرغم من أن الشرق الأوسط وملفاته ليسا بالأمر الجديد على بايدن وفريقه، وأن لديهم الخبرة العميقة والكافية للتعامل مع مشاكل المنطقة؛ إلا أن الشرق الأوسط اليوم في صورة مغايرة عن مراحله السابقة، والتي يمكن رسمها بالآتي:

  • دول عربية تعاني من أزمات مستعصية، وأصبحت أزمتها في حل الأزمة، فالواقع العربي يشهد وجود مجموعة من الدول الفاشلة تعاني من فراغ أو فقدان السلطة الكاملة (سوريا، ليبيا، اليمن)، فيما يبدو العراق ولبنان أقرب إلى هذه الدول، في حال استمرارهما على وضعهما الحالي، وهناك مجموعة الدول المرهقة (مصر، المغرب، الأردن)، حيث تعاني من تردٍّ اقتصادي مزمن حد من قدراتها على التحرك إقليميا، أما الدول التي يطلق عليها دول النفط الغنية، فقد أدى تراجع أسعار النفط عالميا، وتأثير وباء كورونا على اقتصاداتها ورفاهية شعوبها، إضافة إلى تخلخل روابط العلاقة فيما بينها، ودخولها في معترك الحروب والعمليات العسكرية.
  • المشهد الإقليمي يرسم تهافتا شديدا من دول الإقليم (إيران، تركيا، إسرائيل) للحصول على أكبر قدر من المكاسب، وترسيخ نفوذها في العالم العربي وبصورة متشابكة ومتداخلة ساهمت في تعميق الأزمات، ساعدها في ذلك تدخل روسي مباشر وواسع في أكثر من أزمة عربية.هذه ملامح الواقع في الشرق الأوسط، التي سرعان ما ستصطدم بها الإدارة الأميركية الجديدة، والتي ستكتشف بأن الأمر أبعد من إصلاح ما أفسد ترامب، وأن النوايا والوعود وحدها ليست كفيلة للصمود وحل هذه الأزمات.

في ظل هذه الصورة القاتمة لواقع الشرق الأوسط ستجد الإدارة الأميركية الجديدة نفسها أمام ضرورة ملحة للبحث عن أدوات فاعلة، ومقاربات ناضجة للتعامل مع المشهد، وستجد نفسها مضطرة أيضا إلى البحث عن سيناريوهات غير تقليدية في التعامل مع أزمات المنطقة، ونشير هنا إلى السيناريوهات التالية، التي ربما تلجأ إليها الإدارة الأميركية:

  • تلازم المسارات: وجوهر هذا النهج تمليه حقيقة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، التي تمثل حزمة واحدة تؤثر وتتأثر ببعضها البعض من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة أزمات ومشاكل المنطقة، التي تعتبر سلسلة مترابطة، وما يدفع باتجاه تبني هذا النهج رغبة الإدارة الأميركية بالتغيير بشكل عاجل وإصلاح فوري لما آلت إليه سياسة ترامب، حيث يعطي هذا النهج الإدارة الأميركية أفضلية المقايضة لتحريك الملفات الرئيسية، وعلى أكثر من صعيد وفي أكثر من اتجاه، بالرغم من أن فشل أحد مساراته ينعكس سلبا على باقي المسارات.
    وتعتبر عملية السلام والملف النووي الإيراني والعلاقات الإيرانية مع محيطها، أكبر مثال على تشابك الملفات المشجع لانتهاج تلازم المسارات كسلسلة مرتبطة ببعضها البعض وأشبه بأحجار الدومينو.
  • سيناريو الصفقات الرابحة والمقاربات الناجحة: الذي قد يتم اللجوء إليه انطلاقا من معطيات واقع المنطقة وأزماتها المعقدة، ولضمان عدم الغوص عميقا في قضاياها، والانطلاق من الجزء إلى الكل، ومما يساعد على نجاح مثل هذا النهج هو رؤية بعض دول المنطقة لإدارة بايدن بأنها إدارة (الفرصة السانحة)؛ ومنها (إيران، الأردن، السلطة الفلسطينية).وضمن هذا النهج قد يتم اللجوء أيضا إلى تفعيل دور الأدوات المساندة، لمماسة دورها بما يضمن المصالح الأميركية، وتخفيف الأعباء عنها؛ ومثال ذلك تفعيل دور الأمم المتحدة في بعض دول المنطقة (سوريا، ليبيا).

وبغض النظر عن النهج والأدوات، التي ستتبعها الإدارة الأميركية في إدارة ملفات المنطقة؛ إلا أن التقدير الدقيق يدفع باتجاه وصف الدور الأميركي بأنه (إدارة للأزمات) كان بدلا من "حلول الأزمات"، وفي أقصى درجاتها الوصول إلى أنصاف الحلول وتجميد الخلافات، مع اتباع للقوة الناعمة تحت عناوين؛ التفاوض (اتفاق حول المفاوضات مع إيران)، والدبلوماسية النشطة (ضمانات حل الدولتين وانفتاح وتطبيع أكبر مع إسرائيل)، والاحتواء (تركيا)، ومنظومة القيم وحقوق الإنسان (انفراج في بعض الدول العربية في مجال الحريات)، وتفعيل الدور الأممي (سوريا، ليبيا واليمن)، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الإدارة الجديدة ستكون أهدافها مركزة نحو تحقيق المصالح والقيم الأميركية، التي تتطلب أن تكون أميركا في مكانة متقدمة في قيادة العالم، وليس بالضرورة تحقيقها على أساس مصالح وأجندات الشركاء الإقليميين التقليديين، ما دام هناك ما يضمن أمن وسلامة إسرائيل ومكافحة الإرهاب والحفاظ على تدفق النفط ومراعاة منظومة القيم الأميركية.

في النهاية: لا بد من الإشارة إلى أنه إذا ما كان هذا واقع المنطقة، الذي ستتعامل معه الإدارة الأميركية، فإن هناك إرهاصات تنذر بظهور تحديات أكثر تأثيرا وأشد قسوة على دول المنطقة تتراوح آثارها ما بين المؤلمة والمرهقة، والتي قد تطال هيكلة الدولة؛ وهي:

  • آثار اقتصادية وسياسية عميقة ستترتب على وباء كورونا، وتشمل كافة الدول العربية.
  • تحدٍّ يترتب على آثار كورونا ونتيجة حتمية لإفرازاتها يتمثلان بخلق "تيارات مطلبية"، أوسع وأشمل مما شهدته المنطقة خلال فترة الربيع العربي من التيارات غير المؤطرة، تنطلق من انسداد الأفق، وترفض الحلول الوسط، ولا تحسب على تنظيمات المعارضة أو التحركات الرافضة بقدر تعبيرها عن السواد الأعظم من شعوب المنطقة.
  • حدي التعامل مع ملف الإرهاب في ظل انتقاله إلى العالم الافتراضي والخلافة الإلكترونية، بعد فقدان وجوده على الأرض جغرافيا، واستمرار وجوده عنصرا ينتهج اللامركزية، ويعتمد على الأدوات الإعلامية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.