العنصرية البيئية | استكشاف سياق التلويث الممنهج

الأرض في مرمى بصر أكثر من 1000 كوكب خارجي (بيكسهير)/ استخدام متاح
(مواقع التواصل الإجتماعي)

قمامة الأذكياء:

يثور جدل لا يهدأ في المجامع العلمية حول فكرة وجود حياة خارج الأرض، رغم أن الحديث علنا عن تصورها يُعد من المحرمات عند الكثيرين مِن الذين اقتنعوا أن بيئتنا، التي نعيش فيها على هذا الكوكب المأهول، هي الوحيدة القادرة على توفير عناصر هذه الحياة الأساسية؛ لكن آخر مفاجأة جاءت ضمن مقال لـ"كاثرينا جوينو"، بعنوان "القمامة هناك في الخارج" (THE TRASH IS OUT THERE)، نُشر في صحيفة "ذا صن" (The SUN) البريطانية، في 2 يناير/كانون الثاني 2021، نقلت فيه عن البروفيسور "آفي لوب"، رئيس قسم علم الفلك بجامعة هارفارد، زعمه أن "الفضائيين" قد أسقطوا بعض "القمامة الفضائية" على الغلاف الجوي للأرض عام 2017، وهذا في اعتقاده "دليل على وجود حياة خارج نطاق البشر" المعروف. وقد ذكر ذلك رغم علمه أن "بعض الناس لا يريدون  مناقشة إمكانية وجود حضارات أخرى"، غير أن ما دخل فضاءنا الشمسي، في 6 سبتمبر/أيلول 2017، ما هو إلا "تكنولوجيا فضائية مهملة" حلقت فوق الأرض، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قبل أن يبدأ "بالتحرك بسرعة نحو كوكب بيغاسوس"، وعرَّفها باسم "أومواموا". ويعتقد "آفي لوب" أنها ليست تشكيلا صخريا آخر؛ بل هي دليل على وجود حياة ذكية خارج الأرض، وأن كتابه القادم، بعنوان "خارج الأرض: العلامة الأولى للحياة الذكية خارج الأرض"، يوضح سبب وجود هذا الجسم "القمامة"، الذي دخل من النجم "فيجا"، واقترب منا كثيرا.

تستهويني شخصيا قصص الفضاء الكوني، منذ أن تعلمنا دروسنا الأولى عن الفلك والكواكب في مدارس السودان الابتدائية. وأقرأ الآن كل خبر جديد مفيد عن احتمالات الحياة في هذا الكون الهائل الفسيح؛ ذكية أو غيرها. وطالعت بالاهتمام ذاته هذا المقال بمضامينه الثرة، وإشاراته المحفّزة لما يمكن أن نتوقعه في كتاب "آفي لوب" من مثيرات معرفية حول هذه "القمامة التكنولوجية" العابرة للفضاء، التي تقف دليلا على "ذكاء" من قذفونا بها، وحسن تدبيرهم لسلامة بيئتهم؛ لكن المثير حقا في هذا الاكتشاف ليس ما فيه من معلومات فلكية قد تبدو جادة وعلمية، وإنما هذا الربط بين ذكاء القوم، الذين يجاوروننا على بعد "25 سنة ضوئية" فقط، ويتعمدون رمي نفاياتهم علينا، وعلى غيرنا، من الذين أتعسهم الحظ أن يكونوا في مرمى هذه النفايات. أو هل يعقل أن تكون أولى محاولاتهم في التواصل معنا، أن يتخذونا مكبا لقمامتهم التكنولوجية، لندرك من خلال نبشها والعبث بمحتوياتها، مقدار ذكائهم وتقدمهم علينا؟ وهل تعلم أذكياؤنا في الأرض فنون التلويث الممنهج لبيئاتنا من "فضائيين" سبقوا هؤلاء؟ لأن ما يؤرق البيئة الأرضية والحياة فيها هو أنانية الأذكياء الأغنياء، واتخاذهم لحياض الفقراء مكبات لنفاياتهم التكنولوجية وغيرها، وهو السلوك، الذي يرقى إلى وصفه ووصمه بالعنصرية البيئية.

عاهة العنصرية

يحسب لزعيم الحقوق المدنية الأميركية من أصل أفريقي "بنجامين تشافيس" أنه كان أول من صاغ مصطلح "العنصرية البيئية"، في عام 1982، واصفا إياه بأنه "تمييز عنصري في صنع السياسات البيئية، وإنفاذ اللوائح والقوانين، والاستهداف المتعمد للمجتمعات الملونة كمرافق للنفايات السامة، والموافقة الرسمية على الوجود المهدد للحياة بالسموم والملوثات في مجتمعاتنا، وتاريخ استبعاد الأشخاص الملونين من قيادة الحركات البيئية". إن ما ذكره تشافيس من أمثلة على العنصرية البيئية، لا تصف تاريخا عاشه في ثمانينيات القرن الماضي، وإنما تأكيد قاطع على ما هو قائم وحادث الآن، الذي يُعد شكلا من أشكال منهجة العنصرية، التي تتحمل فيها بيئات المجتمعات الفقيرة عبئا غير متناسب من المخاطر الصحية. وهذا لا يتم عبر نظريات "المؤامرة"، المتجاوزة في ترتيباتها لمقاييس الأعراف الإنسانية، وإنما من خلال السياسات والممارسات الرسمية، التي تجبر الفقراء على العيش بالقرب من مصادر النفايات السامة، أو تجعل من أرضهم مدافن ومكبات لـ"القمامة التكنولوجية" الخطرة؛ مثل المواد المُشِعَّة، ومخلفات محطات الطاقة النووية، والصناعات، التي تكون باعثا للجسيمات المحمولة في الهواء، وكل ما يرافق هذه الجسيمات من ملوثات خطرة، وما يرتبط بها من مشكلات صحية قاتلة.

لقد ساعدت جائحة الفيروس التاجي "كورونا" في حجر الإنسان مؤقتا عن الاستمرار الشره في التعدي على البيئة الطبيعية؛ لكن لا يمكن أن تنقذه من أنانيته في التغول على حق غيره في الحياة الصحية النظيفة، والفضاء الآمن. ورغم أن الإنسان قد وُصِفَ على الدوام بأنه كائن اجتماعي؛ إلا أنه كلما تقارب طفحت عدوانيته، وربما جاءت "بروتكولات" التباعد، التي أقرتها منظمة الصحة العالمية في محاولة لتقويم السلوك العام، بِعِبرة تتخطى في جوهرها زمن كورونا. فقد اختصرت "العولمة" الزمان والمكان، وزادت من فرص التقارب الإنساني، غير أنها ضاعفت، في الوقت ذاته، من العنصرية البيئية، وحولتها من "عاهة" محلية إلى "معضلة" على نطاق دولي. وأصبح لا يمضي أسبوع إلا وتطالعنا الأخبار بإحصاءات مروعة تشير إلى الكم الهائل والقاتل من الملوثات؛ مثل نفايات أغنياء دول الشمال الإلكترونية، التي يجري دفنها، أو إلقائها في مكبات دول الجنوب الفقيرة، حيث تكون قوانين السلامة والممارسات البيئية أكثر تساهلا وقابلية للاختراق.

سقطات العولمة

إن ما يحدث الآن ليس محض صدفة تاريخية طغت فيها انحرافات القصد البشري عن جادة الصواب، وإنما هناك حقائق دالة؛ لاحظها الكثيرون، تقول إن هناك علاقة مباشرة بين العولمة المتزايدة للاقتصاد والتدهور البيئي للموائل وأماكن المعيشة للعديد من شعوب العالم. ففي العديد من الأماكن، التي يعيش فيها الفقراء في الدول المتقدمة في أوروبا وآسيا، أو السكان الأصليون في أستراليا وأميركا الشمالية والجنوبية، تُتَخذُ مكبات للنفايات، ومدافن للمواد الخطرة. وتمدد هذا السلوك ليشمل دول الجنوب الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، التي يجري فيها استخراج النفط، والمعادن، وقطع الأخشاب، بطريقة تقضي على النظم البيئية، وتدمير ثقافات السكان وسبل عيشهم. وتعمل عولمة الصناعات الكيميائية، المرحّلة إلى دول العالم الثالث، على زيادة مستويات الملوثات العضوية الثابتة؛ مثل الديوكسين، في البيئة، إضافة إلى ما ينبعث ويتسرب من نفايات الصناعات عالية ومنخفضة التكنولوجيا، الذي يعد الكثير منه ساما، ويسهم مباشرة في تلوث المياه الجوفية والتربة والهواء. علاوة على ذلك، فإن حرية التنقل للشركات المعولمة قد أتاحت لها فرص السعي لتحقيق أكبر قدر من الأرباح، وأفضل الحوافز الضريبية في أي مكان في العالم، مستفيدة من ضعف اللوائح الحكومية والبيئية في أكثر الدول فقرا.

إن البيئة لا يمكنها أن تحابي، أو تستهزئ بمجموعات سكانية لأسباب ثقافية، أو اجتماعية، أو اقتصادية مختلفة؛ لكن البشر يحابون أشباههم، ويستهزئون بمن سواهم، وبذلك وعلى غرار كل الأشياء على الأرض، تخضع البيئة للتأثيرات البشرية. لسوء الحظ، غالبا ما تميل هذه التأثيرات إلى إنزال أيديهم إلى أسوأ ما في الطبيعة الإنسانية، بما في ذلك العنصرية اللونية العرقية والطبقية الاجتماعية المفضية إلى العنصرية البيئية. فقد نشر موقع "الأجندة القانونية" (Legal Agenda) في 30 ديسمبر/كانون الأول 2020، أن ما يحدث في خليج غينيا من إلقاء ممنهج للنفايات السامة يرقى إلى درجة العنصرية البيئية. ففي نيجيريا وحدها، يدخل الميناء، قادما من أوروبا والولايات المتحدة وآسيا، ما يقدر بحوالي حمولة 500 حاوية كل شهر، تحمل كل منها حوالي 500 ألف قطعة من الأجهزة الإلكترونية المستعملة؛ العديد منها لا يمكن استخدامه مرة أخرى، أو إعادة تدويره.

خاتمة

أوردنا، في مقدمة هذا المقال، إشارة البروفسير "آفي لوب" لذكاء "الفضائيين" و"القمامة التكنولوجية"، التي مرت بكوكبنا عام 2017. وإذا نظرنا إلى ما فعله أذكياء الأرض في ذلك العام، سنجد أنه أنتج أكثر من 44 مليون طن من النفايات الإلكترونية على مستوى العالم؛ أي بمعدل 6 كيلوغرامات لكل شخص على هذا الكوكب. ويُصدر حوالي 80% منها سنويا إلى أفريقيا وآسيا، وتذهب البقية إلى أميركا الوسطى والجنوبية. وإلى جانب خليج غينيا في غرب أفريقيا، تُعد مدينة "غويو" (Guiyu) الصينية أحد مراكز "النفايات الإلكترونية"، حيث تلوث أكوام من أجزاء الحاسوب المهملة المتراكمة بجانب النهر إمدادات المياه بالكادميوم والنحاس والرصاص، وتتسبب في إنتاج طيف واسع من المواد السامة، التي يمكن أن تأتي بأشكال عديدة؛ مثل الهيدروكربون، والحمأة، أو الغازات، والتي لم يتم التخلص منها بشكل صحيح. إذ أظهرت عينات المياه أن مستويات الرصاص هي 190 مرة أعلى من حدود منظمة الصحة العالمية؛ مما يؤثر بشكل خطير على معدل الذكاء والأداء الأكاديمي للأطفال. كما أدت "القمامة التكنولوجية، التي تُلقى في مقالب النفايات غير القانونية، والتي تديرها شركات أميركية وأوروبية ويابانية، إلى ارتفاع معدلات ولادة أطفال بدون أدمغة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.