من بياع الخواتم لبياع الرافال: محرقة الصور

ماكرون يزرو لبنان ويلتقي بالفنانة فيروز في بيتها (الأوروبية)

 

يا ست فيروز؛ هذا ليس "راجح" الحقيقي القادم إلى الضيعة كي يساهم في صناعة لحظات أفراحها، بتوزيع الخواتم على المحبين.

كما أنه ليس "راجح" الشبح، الذي صنعه المختار في مخيلته وقدمه إلى أهل الضيعة، بوصفه الخطر الشرير والشر الخطير، الذي يهدد سكونهم وأمنهم وسلامتهم، إن لم يحتشدوا خلف المختار مؤيدين ومصفقين وخانعين.

يا ست فيروز؛ هذا بياع الرافال، لا بياع الخواتم، هذا الشاب الفرنسي تاجر سلاح وتاجر موت وتاجر خراب، لا يفرق كثيرا عن التاجر الأميركي العجوز الوقح، شريكه في حلب كل الضيع وامتطاء كل المخاتير. هذا ماكرون وليس راجح يا ريما حتى تفتحي له منزلك وتستقبليه بكل هذه الحفاوة وكل هذا السرور، وكأنه جاء يوزع الخبز والملح والمحبة، بالقسط، على كل سكان الضيعة، غير ناظر إلى الملة أو اللون أو العرق.

 

ذا يا ست ريما، ليس راجح، كما أنه ليس خالك المختار، حتى تتركي له الفرصة للاستثمار السياسي في فنك وإبداعك وإشراقك داخل وجداننا وسطوعك في ذاتنا حتى صار جزءا من تكويننا

كما أنك لست حنجرة تافهة، نمت وترعرعت في مراعي سعيد عقل، المزروعة كرها للعروبة ولفلسطين، المروية بمياه التطبيع الملوثة "بكير" قبل أن يدشنوا الجسور الناقلة لبضائع وخدمات بوتيكات ثقافة السلام.
هذا يا ست ريما، ليس راجح، كما أنه ليس خالك المختار، حتى تتركي له الفرصة للاستثمار السياسي في فنك وإبداعك وإشراقك داخل وجداننا وسطوعك في ذاتنا حتى صار جزءا من تكويننا.. هذا صانع المخاتير المستبدين والقيّم على طغيانهم يحركه ويوجهه ويستعمله كيف يشاء.

هذا شخص ينتمي إلى ذلك المعسكر، الذي يتقن فن صفعنا بالصور، ويعرف كيف يقهرنا ويسحقنا ويهزمنا باللقطات شديدة الانفجار والتدمير في الوعي الأعمق، يجيء إلى لبنان الكرامة والشعب العنيد في الأوقات التي يختارها هو، لا يستأذن أهل الضيعة، ولا ينتظر دعوة من مخاتيرها، يذهب ويعود وكأنها ضيعته، يوزع فيها الثروة والسلطة، ذات اليمين وذات الشمال، ويلتقط الصور وهو يدرك أنه يحفر على جلودنا علامات وكلمات تسلطه علينا.

وقع صورة هذا الوغد الشاب وهو يقف في عقر دارك يا فيروز، علينا وعلى مشاعرنا، نحن محبوك وعارفو قيمتك والممتنون لغنائك النقي في الحفاظ على إنسانيتنا وعروبتنا، يا حنجرتنا، ومئذنة مساجدنا وبرج كنائسنا، لا يقل قسوة وإهانة عن وقع صورة الحذاء الصهيوني يضعه جندي الاحتلال فوق وجه شيخنا الفلسطيني الجليل المدافع عن أرضه وداره.

أوجعتنا بالقدر ذاته صورته إذ يحتوي مغنية سعيد عقل على صدره، وكأنه الراعي جاء بالحماية وللجباية، تماما كما أوجعتنا صور أطفال الإمارات يتسربلون بأعلام العدو، أو لقطات فحيح الغرام القذر بين خليفة الإماراتي، ومن قبله محمد سعود السعودي، ونتنياهو الإسرائيلي.

نعم، هي صورة الفرنسي المقاتل من أجل ضمان تفوق المستعمر الصهيوني، واستعلائه على الذات العربية في صحن دار تلك، التي ربطت قلوبنا بواسطة خيوط من حرير صوتها المنساب من السماء بقبة الصخرة وساحات الأقصى وأبراج كنيسة المهد وكنائس القدس وفلسطين كلها، ليقول لنا إن العيون التي لمعت بالفرحة وهي تستقبله في بيروت، لم تعد عيونكم؛ بل هي عيون فرنسا، ويغيظنا باللقطات، ولسان حاله يقول: انسوا تلك العيون التي كانت ترحل بكم إلى القدس كل يوم، تدور في أروقة المعابد، وتعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد.. فهذا ليس زمن القدس والمقدسات؛ بل زمن برج خليفة مضاء بأعلام الاحتلال، هو زمن صفقات السلاح والنفط ونخاسة المواقف السياسية.

تأمرنا اللقطات الخادشة للكرامة الوطنية بأن نكون مثل محمد البرادعي، ننسى الماضي، ونتسول مكانا في مستقبل يهندسه ويرسم حدوده المحتل.. نتنازل عن الرواية الحقيقية لما جرى، ونبتدئ سردية جديدة للمسألة، لا يكون فيها الاستعمار استعمارا، ولا يبقى العدو عدوا ولا الحق حقا، ولا قدسية لشئ أو لدم أو لتراب، ثم نجلس نرتشف كأسين من المؤانسة الحارة مع إيهود بارك، الذي قتل من العرب ما لم يصل إليه صهيوني قبله ولا بعده.

تلك هي صور واقعنا، كما يريدونه لنا، ويسعون إلى تثبيته، مطلوب منا أن ننحني أمامها، ونسلم بأن هذا حالنا الراهن ومستقبلنا، وعلينا أن نرضخ، وصوت المستعمر القديم/الجديد يجلدنا بصوت عفيفي مطر، وهو يصور  في ظلمة الزنزانة واحدة من "احتفاليات المومياء المتوحشة" ويقول:

أرضك مفترق تتسع به أرض الأغيار،
وتعبره أمم وجيوش للأقوى، وعبيد الأقوى ميراث أنت لمن يرثون،
على كتفيك تكسرت الأمواج تواريخ مجاعات
وطغاه منكسرين ومزهوين

بتدليس «الإبهة البيزنطية».

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.