متاهات السيرة الذاتية وتجاذبات الرعب والكرامة| قراءة في كتاب "مورا في مدريد"

(مواقع التواصل الاجتماعي)

الكتاب للكاتبة: نوال السباعي

1.  بين الرواية والسيرة الذاتية

منذ بداية صعود الرواية، والنثر عموما، في مجال الأدب على حساب الكلام الموزون، قبل أزيد من 6 قرون، كان شعاره دوما "الحرية"؛ أي عدم اتباع أنماط محددة مسبقا والتمرد عليها سواء على مستوى الشكل أو الموضوع، فقد كانت روايات الشطار من "ديكاميرون" إلى "لاثاريو ديل تورمس" وبعدها رائعة "دون كيخوتي"، التي نزعت الطابع الملحمي عن أبطال الروايات؛ بل جعلت منه بطلا إشكاليا، وتواصلت أعمال التمرد على الوحدات التقليدية حتى بلغت مداها في القرن 20، حيث صار التكسير موضة جارية ومجال تنافس بين الروائيين، ولعل هذا التناسب بين انفتاح الرواية، والسرد عموما، على التجريب الدائم وتداخل الأجناس، جعلها وفقا للنقاد شكل التعبير الأدبي الأبرز عن العصر القلق الذي نعيشه.

ومن الأنواع الروائية الهجينة المثيرة للاهتمام السيرة الذاتية الروائية، فهي تقع في منطقة هجينة بين التخييل (المبني على الواقع بطريقة أو بأخرى) والذاكرة (بما تنطوي عليه أيضا من آليات لا يمكن معها تصنيفها توثيقا واقعيا محضا).

يرى الناقد المصري صلاح فضل أن السيرة كانت دوما عنصرا جوهريا في الكتابة الروائية، حتى وإن توارت الذات وبدا الكاتب بعيدا عن التورط في علاقات وحياة الشخوص وفضائها، ويمضي الناقد إلى القول إن خبرة السير ذاتية هي التي تملي صناعة المواقف وتوظيف تقنيات السرد وزوايا الرؤية بحيث لا ينتج الكاتب عملا مطابقا تسجيليا لزمنه؛ فكتابة السيرة فن يتغذى بالحدث الشخصي، لكنه يسبك مادته ويثريها بالتخييل والتأمل واللغة والأسلوب السردي، بحيث تنأى النصوص "عما حدث فعلا في الواقع".

ولا يفوت الناقد المصري أن يذكر أن هذه العلاقة كانت موضع تفكير وتأمل منذ القدم، ويستشهد بمقولة أرسطو التي مفادها أن السيرة الذاتية ليست تاريخا؛ بل فنا، والفن أصدق من التاريخ، وفي المقابل فإنه لا يمكن لرواية مهما كانت موضوعية أن تخلو من الخبرة الشخصية للسارد، ومن مذاق الحياة على لسانه، ووقع الأشخاص وإيماءات الذاكرة، ويختم بجملة جامعة لما يقول أنه في النص الأدبي "لا حياد.. لا براءة".

مع كامل التقدير لكلام المعلم الأكبر؛ لكن الأمر في السياق الحالي أعقد بكثير، فالكاتب يصنف عمله على أنه تخييلي عماده بناء عوالم وشخوص وأحداث في إطار حكاية، أو لا حكاية، تضمها صفحات الكتاب؛ غير أن التركيز على هذا الأمر هو ما يجعل الأمور أكثر تعقيدا، فلا شك في أن "القدرة التخييلية" على استرجاع الواقعي تجرنا في بعض الأحيان إلى الإحساس بهذا الواقعي الذي ولَّى ومضى، وكأنه حقيقة نراها الآن ونشعر بها ماثلة في أذهاننا، بينما هي في الحقيقة منطقة موجودة في اللاوعي، تبدو وكأنها ذات قدرة على التشكل والتلون والظهور مرة أخرى بمظهر مغاير لما كان يدور في "المخيلة"، وأن محاولة استعادتها مرة أخرى، ومعاودة استرجاع أحداثها، التي مرت عليها سنوات طويلة، تجعل التلاحم بين "الواقعي والمتخيل" مؤسسا لواقع جديد، هو لا شك واقع إبداعي آني له آليته الخاصة، قد يختلف عن الواقع الواقعي في أنه مشحون برؤية فردية أو جماعية خاضعة لقوانين المكان والزمان في شكلها، الذي ينتسب إلى التجربة الروائية في كثير من الأحيان.

 

التجارب المعيشة، مع كل ما يشوبها من إعادة بناء، وتأويل بناء على الفارق الزمني، وتقدم العمر والمدارك، تجعل  كاتب السيرة الذاتية يلجأ إلى الاختيار والانتقاء، فحينما يختار الكاتب حادثة ويهمل أخرى؛ فإنه بانتقائه هذا ينحى منحى بعيدا عما نسميه فن الاعتراف

ويرى الناقد قحطان بيرقدار أن رواية السيرة الذاتية هي أبلغ رد على هذا التساؤل؛ لأنها تُعد الشكل الأكثر توثيقا للفضاء الزماني والمكاني، والأكثر ضمانا لعمق هذا الفضاء واستمراره على مر الزمان؛ بل يمكننا القول عموما إن لرواية السيرة الذاتية قيما أدبية وفكرية تحوّل التاريخ الذاتي إلى أفق للكتابة يتحدى مجال البوح والاعتراف، حين يحوّل ممارسة الكتابة ذاتها إلى وعي مكمّل لإدراك العالم المحيط بالمؤلف خلال مختلف مراحل العمر.

وعليه، تكون هذه التجارب المعيشة، مع كل ما يشوبها من إعادة بناء، وتأويل بناء على الفارق الزمني، وتقدم العمر والمدارك، تجعل  كاتب السيرة الذاتية يلجأ إلى الاختيار والانتقاء، فحينما يختار الكاتب حادثة ويهمل أخرى؛ فإنه بانتقائه هذا ينحى منحى بعيدا عما نسميه فن الاعتراف، ويذهب إلى مسألة الصدق الفني، إن حادثة بعينها حين يعاد سردها، فإنها تُسجل في ذهن الكاتب أو في ذاكرته -عندما يكتب- كما هي، ولا يمكن أن يستعيد جميع الانفعالات والهوامش والتأثيرات، التي رافقت تلك الحادثة، وهنا يأتي دور المخيلة في إعادة البناء.

وهذه المخاتلة الحميدة، إن صح القول جعلت رواية السيرة الذاتية العربية المعاصرة في أغلب نماذجها وأبرزها صيغة مضادة "للواقعية"، لقد بدت نوعا من التحول الانقلابي العنيف، من السرد الواقعي الشائع في الخمسينيات إلى سرد خيالي صرف، وفي العقود الثلاثة الأخيرة من القرن 20 تسيدت رواية السيرة الذاتية الموقف، وباتت تحتل مكانة بالغة الأهمية، لقد بدت في غزارتها وخصوبتها كأنها نوع من تفحص الذات ومراجعتها ومساءلتها، ولم يكن أمام الكُتاب إلا أن يركزوا على واقعهم الداخلي.. ونجد لذلك أمثلة من قبيل "الأيام" لطه حسين أو "وقفة على المنحدر" لعلاء الدين الديب أو "يوميات مطلقة" لهيفاء البيطار وغيرها.

2. بين جحيم الرعب والمتاهة والغربة

في الجزء الثاني من هذا المقال، سنحاول تلقف أهم السمات التي تحملها "لعبة" السيرة الذاتية الروائية في كتاب "مورا في مدريد" للكاتبة الدكتورة نوال السباعي، والتي تتناول فيها، في تقاطع بين الذاتي والتخييلي، سيرة حياة حافلة على المستوى الشخصي والإبداعي النضالي. رواية يمكن أن توصف بالدائرية والاستدعائية لشذرات الماضي بتفاصيل الحاضر؛ لكنها تنتظم عموما في عالمين اثنين يمكن توصيفهما على النحو التالي: عالم دمشق المفقود وعالم مدريد الموؤود، وبينهما برزخ هو غرناطة الهدنة.

دمشق والفردوس المفقود: في بداية لعبة إعادة التأويل والتركيب المعقدة للماضي، نجد الفترة الأولى من حياة البطلة، أم ساجدة كما ستسمي نفسها فيما بعد، يتوزع بين حواري دمشق القديمة، الجامعة وبيت الجد والجدة؛ لكن الوقع الأكبر في نفس البطلة هو بيت الجد الطبيب العارف العلم والمرجع الديني البارز، والجدة الحنون ذات الحسب والنسب المتبرمة دوما من نزوعات زوجها إلى التقشف والكفاف. كان بيت الجد على سفح جبل قاسيون بيتا روائيا بكل المقاييس، بيت دمشقي عريق رفض صاحبه أن يصرف  ولو ليرة واحدة لتجديده وتأثيثه وفق ما يقتضي العصر، فغدا أشبه ببيوت "أليس في بلاد العجائب" بالكتب، التي تعج بها كل أركانه، وأشجاره المعمرة متشابكة الأغصان.. بيت تكثفت فيه كل معاني الطفولة والبراءة والصفاء والحنان، ثم بداية تفتق الذهن على المعرفة والكتابة إلى أن تصل إلى فترة الشباب والتمرد. لم يكن تمردا شخصيا؛ بل كان "بركانا" يهز البلد ويوسع الهوة بين جيل الشيوخ أو المشايخ والشباب المتحمس الذي ضاق ذرعا بالقهر والتجبر، الذي ينهجه النظام السوري الذي كان يريد أن يحسم الأمور باستخدام القوة الساحقة، ولو أدى ذلك إلى إحداث شرخ اجتماعي ونزيف بشري هائل، وهو ما انفجر بالفعل في صورة ثورة شعبية تلتها حملات ملاحقة وتصفية لكل من له علاقة من قريب أو بعيد بالتيار الإسلامي أو المعارضين عموما من قوميين وشيوعيين وأكراد وغيرهم.

بيت الجد في الرواية فضاء زماني ومكاني يمكن إسقاطه دون عناء على حالة الوطن: وطن حنون جامع يأوي إليه الناس ليحسوا بالانتماء والاكتمال؛ لكن هذا البيت ينتهي به المطاف بأن يباع من قبل الأبناء بعد وفاة الجد والجدة، ثم يسوى بالأرض لبناء مساكن جديدة. إنها الهوية المبتورة، المتشظية والمعذِبة التي حملتها البطلة في رحلتها عبر الحياة، تأوي إليها كلما اشتدت عليها أنواء الدهر.

بيت الجد والجدة هو المرجع والمأوى، والمنفى والفردوس المفقود.

مدريد والفردوس الموؤود

 


 قبل الوصول إلى مدريد والفردوس الموؤود، تم المرور عبر "برزخ" هو غرناطة الهدنة، التي دامت بضع سنين بعد الالتحاق بالزوج الذي كان يتابع دراسته العليا في إسبانيا للتخصص في الطب. سنوات تذكرها البطلة بكثير من الحنين، بين آثار المسلمين المبهرة، في بيت يقع في إحدى الحواري القديمة للبلدة الحمراء، التي كانت تشبه حواري دمشق؛ لكن أهم ما ميز الفترة هو تعامل الجيران مع أسرة "المورو الطبيب" أو " المورو المبارك" الطيب والودي، الذي كان سائدا بين الفئات الشعبية الإسبانية قبل تصاعد الحملات الإعلامية المسعورة من منطلق استعلائي استعماري بغيض، ضد الأجانب عموما والمورو خصوصا؛ لكن منطقها النقدي لا يحتمل بأي حال من الأحوال تأدية دور الضحية، فبعض العرب، وأغلبهم في ذلك الوقت من الطلبة، تزوجوا من إسبانيات لأغراض الحصول على الجنسية والاستقرار في البلد؛ لكنهم في الغالب لم يكونوا القدوة والمثال الحسن من وجهة النظر الدينية، التي كانوا يدعونها؛ بل حتى الإنسانية من عرفان جميل وتقدير لتضحية زوجاتهم ريثما يتمون الدراسة.

بعد محطة اضطرارية وجيزة في إحدى ضواحي العاصمة "توريخون دي أردوث"، يمكن تلخيصها باعتبار الحوار السوريالي العنصري مع مالكة البيت، الذي استأجرته العائلة مقدمة لما ينتظر الأسرة في العاصمة التي تتوسط الأراضي القشتالية.

بعد ذلك، بدأت الحياة في العاصمة، وأحد أحيائها العريقة "باريو ديل بيلار" الذي يتوسطه مركز تجاري من أعرق ما بني في العاصمة، "لا باغوادا"، وبذلك عاشت الكاتبة سنوات تحولات هائلة في العاصمة الإسبانية، التي كانت تعيش فورة ثقافية وفكرية، وتتنسم فيها أجواء الحرية والانفتاح.. إلا حينما يتعلق الأمر بالمهاجرين، والموروس على وجه الخصوص. وهذه الخلاصة المرة تفاقمت مع مرور الوقت  وتصاعدت موجات العداء للأجانب على العموم مع صعود الأفكار اليمينية ووقع العمليات الإرهابية في قطارات مدريد.

وعلى الرغم من المعارك الكلامية التي كانت البطلة تعتمد فيها غالبا أسلوب السخرية المبطنة للرد على التعليقات العنصرية المتخفية خلف عبارات بريئة، فإن نقدها للمسلمين والعرب عموما من خلال تصرفاتهم اليومية وتناقض سلوكهم بين مقتضيات دينهم وتقاليدهم وعاداتهم الاجتماعية من خلال حوارات طويلة تكشف عن  انعدام الانسجام بين القول والفعل لدى أفراد الجالية العربية والإسلامية في إسبانيا، سواء في الحياة العامة أو الخاصة.

 

تعيش البطلة هذه المآسي بحساسية بالغة؛ لكونها امرأة مسلمة متدينة مناضلة، سواء في فترة الشباب في سوريا أو في إسبانيا. وقد كان مظهرها الخارجي المتمثل في ارتداء الحجاب محط الأنظار والملاحظات الدائمة من قبل المحيط الاجتماعي، التي كانت تنجح في تخفيف حدتها عبر الحوارات الطويلة التي لا تخلو من طرافة وروح دعابة مبطنة

وضمن هذا الواقع المتناقض، بين الرعب والغربة، تستحضر البطلة باستمرار الظلم المضاعف، الذي تتعرض له النساء شرقا وغربا في صراعات ومطامع عائلية أو سياسية تجعل منهن كبش فداء سهلا وضحية مجبرة على أداء الثمن الفادح لهذه الأوضاع: بين جرائم الشرف في المجتمع الشامي، أو شهادة صديقتها الطبيبة الفلسطينية، أو سياسة الاغتصاب التي استخدمها النظام لترويع المعارضين، ومرورا بالفتاة المغربية المتزوجة من رجل يدعي حقا إلهيا في "تأديبها" بالضرب والتهديد بالقتل، وصولا إلى محن الزوجات الإسبانيات للطلبة العرب في غرناطة. مظالم شتى تختلف في السياق، وتلتقي في امتهان كرامة المرأة بدعاوى الوازع الديني والمسؤولية الأسرية، بينما لا تعدو كونها تجسيدا لتربية ذكورية تتلبس بلبوس التقاليد والدفاع عن مصالح شخصية أو عشائرية أو سياسية.

وتعيش البطلة هذه المآسي بحساسية بالغة؛ لكونها امرأة مسلمة متدينة مناضلة، سواء في فترة الشباب في سوريا أو في إسبانيا. وقد كان مظهرها الخارجي المتمثل في ارتداء الحجاب محط الأنظار والملاحظات الدائمة من قبل المحيط الاجتماعي، التي كانت تنجح في تخفيف حدتها عبر الحوارات الطويلة التي لا تخلو من طرافة وروح دعابة مبطنة.

وهو ما أدى إلى ترسيخ شعور مؤلم لدى البطلة، لخصته في كلمة "الغربة" التي تجمع كل معاني الضياع وفقدان الهوية والهوان في الديار الإسبانية؛ غير أن ما خفف من لأواء هذا الشعور القاتم هو التعايش مع مسلمين ينحدرون من بلدان أخرى: مغاربة وجزائريون ومصريون وفلسطينيون وبوسنيون بعد مذابح الحرب الأهلية، ومن أبناء البلد أيضا.

هذا الشعور بعالمية القضية، قضية الأمة الإسلامية، كان على الدوام البلسم، الذي يدفع إلى النضال بكل الوسائل المتاحة، وأفردت للعدوان على العراق والحرب الأهلية في البلقان فصولا من الكتاب، في حالتها إلى جانب السهر على نقل هذه المبادئ للجيل اللاحق وعلى رأسه أبناؤها.

لا ننسى في ختام هذه الأسطر أن نعلق على أهم المناحي اللغوية والبلاغية التي استخدامت لمنح النص القوة التعبيرية والبيانية: فنجد في النص وفرة وغنى كبيرا في النعوت، واستطرادات طويلة في التحليل تحاول أن تطرق جوانب المواضيع تعقيبا على الأحداث.

وعلى شاكلة الدمى الروسية، تنفتح الأحداث عن ذكريات وأحداث في الماضي والمستقبل، تنفتح وتغلق للعودة للزمن الحاضر في توارد يكون رابطه في أغلب الأحيان شعور أو موقف مشابه. وكما قلنا سابقا، فإن الحوارات الطويلة والكثيرة تمنح الكتاب قدرة توثيقية أكيدة، وعلاوة على ذلك، تخفف من دسامة النص عبر روح الدعابة باللجوء إلى التعابير العامية والسخرية اللاذعة.

وبطريقة دائرية كما أوردنا سالفا، يدور الكتاب ليعود في النهاية إلى نقطة البداية، في كابوس يكاد يعجز المرء عن الاستيقاظ منه، وموقف أليم ندع القارئ يكتشفه بنفسه؛ لكنه في المحصلة نتيجة للوحدة المعنوية الكبرى المؤطرة للرواية وأحداثها، وأفضل تجسيد لها حكمة الكاتب والمفكر الأرجنتيني إرنستو ساباتو "الوطن هو الطفولة".

 

 

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.