حين تغوى غُزيّة: وجهة نظر مغايرة حول تغطية الإعلام لسد النهضة

الخرطوم رفضت المشاركة في اجتماع الإثنين بسبب عدم الرد على مقترح تقدمت به
أزمة سد النهضة بين التفاوض والتصعيد

يلاحظ المتتبع لقوالب التغطية الإعلامية، خاصة الإعلام العربي، في قضية سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق، وتأثيراته المحتملة على دولتي أسفل النهر، السودان ومصر، أنّ تلك التغطية الإعلامية تتأثر بتحيزات مسبقة، وتميل في غالبها إلى منطق الشاعر الجاهلي الذي يقول: "وما أنا إلاّ من غُزيّة إن غوت غويت… وإن ترشُد غُزيّة أرشدُ ". في حين كان يمكنها اتباع منهج "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، وذلك بأن تكون في عونه لنيل حقه إذا كان مظلومًا ولردّ حقوق الآخرين إذا كان نالها بغير وجه حق.

وقياسًا على ذلك فإنّ النصرة التي كان يمكن للإعلام العربي أن يقدّمها لشعب مصر الشقيق لا ينبغي لها أن تكون على حساب شعب إثيوبيا الجارة، ولا على حساب شعب السودان الشقيق والجار معاً.

هذا الدور بطبيعته يتطلب أن تأخذ وسائل الإعلام، في الفضاءين العامين العربي و الأفريقي، أمر سد النهضة بكامل الحساسية التي يمثّلها لكلّ من إثيوبيا ومصر بالدرجة الأولى وللسودان بدرجة أقل.

فسد النهضة، الذي بدأ بناؤه في عام 2011، يعني لإثيوبيا وباختصار شديد "مشروع القرن" الذي ينتظره أكثر من 100 مليون إثيوبي لينقل حياتهم من الفقر المدقع والبطالة إلى مدارج الضياء والرخاء، بما يوفره من طاقة كهربائية تضيء البيوت وتحرك الصناعة والإنتاج ويُصدّر فائضها لتدر مداخيل بالعملة الحرة على خزينة الدولة.

وهو -أي السد- يعني لمصر، وباختصار أيضاً، مصدر تهديد جدي لحصتها التاريخية في مياه النيل، البالغة أكثر من 55 مليار متر مكعب.

كما يعني للسودان تمكينه من الاستفادة الكاملة من حصته التاريخية في مياه النيل البالغة ما يزيد عن 18 مليار متر مكعب، فضلاً عن تزويده ببعض إنتاج السد من الطاقة الكهربائية الرخيصة.

 

هل بناء الثقة هو شأن أهل الإعلام أم أهل السياسة ؟ ومرة أخرى نجيب إنه شأن الإعلام بالدرجة الأولى

هكذا تبدو المعادلة، للوهلة الأولى، معادلة أمل في الحالة الإثيوبية، ومعادلة قلق وخوف في الحالة المصرية، ومعادلة مكاسب منتظرة في الحالة السودانية، فكيف يمكن أن يتعزز الأمل الإثيوبي ويتبدد القلق والمخاوف المصرية وتتأمن المكاسب السودانية؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في ذلك؟ الإجابة بالنسبة لي، تكمن في كلمتين هما "بناء الثقة"؛ إذ إن التشكيك في نوايا أيٍّ من الأطراف الثلاث المعنية من شأنه أن يُضعف عامل الثقة، ويدفع كل طرف للبحث عن مناصرين والتمسك بأقصى أنواع الضمانات، الواقعي منها والافتراضي.

والسؤال الذي ينشأ هنا هو: هل بناء الثقة هو شأن أهل الإعلام أم أهل السياسة ؟ ومرة أخرى نجيب إنه شأن الإعلام بالدرجة الأولى، فقد شكل الإعلام ضغطًا هائلًا على المفاوضين في كل من مصر وإثيوبيا، وأصبح هو من يشكل الأجندة وتوقعات نتائجها قبل أن يبدأ المتفاوضون في التفاوض، وتحوَّل هذا الضغط إلى ما يشبه الاصطفاف الشعبي والاحتقان الداخلي في البلدان. فقضية السد تحولت منذ فترة -بسبب طريقة التناول الإعلامي- من قضية هندسية وفنية لمشروع تنموي إلى قضية سياسية من الدرجة الأولى، تتعبأ لها الشعوب والجيوش في كل من مصر وإثيوبيا ويحاول كل طرف أن يحشد خلفه مناصريه من العرب أو الأفارقة، ويجتمع لبحثها مجلس الأمن الدولي.

إن ما يفعله الإعلام هنا بوجه عام يمكن أن نعدّه ، بلغة الإعلام نفسه "النظر إلى النصف الفارغ من الكوب"، فهو يركز على المخاوف المصرية حتى إن كان بعضها يقوم على أمور افتراضية، ويتجاهل تعطُّل المكاسب الإثيوبية والسودانية المحققة.

فقد رسمت عدد من وسائل الإعلام صورة قاتمة للأوضاع المائية في مصر إن اكتمل بناء السد، ولم تُكمل هذه الوسائل الجملة؛ فبقيّةُ الجملة التي لا يجوز ترتيب الفهم بدونها هي: "بدون ضمان عدم المساس بحصة مصر التاريخية من مياه النيل".

من الواضح أن الإعلام هنا لم ينشغل بالبحث عن الضمانات التي وفرتها الاتفاقات السابقة، وعلى رأسها اتفاق إعلان المبادئ الموّقع في الخرطوم عام 2015، ونتائج المباحثات في جولات التفاوض المختلفة وأبرزها جولات واشنطن التي انتهت في فبراير/شباط الماضي، وإنما طفق يلاحق سلسلة المخاوف التي روّج لها بعضهم في سياق التماهي مع وجهة النظر المصرية متجاهلًا الردود الإثيوبية والسودانية على تلك المخاوف، ولم يبذل جهدًا استقصائيًا يُذكر لفحص تلك المخاوف بمنظار خبراء السدود والمياه سواء على المستوى الدولي أم الإقليمي.

في المقابل وجد الإعلام الإثيوبي نفسه محشورًا في خانة الدفاع، فطفق يعبِّئ شعبه لمواجهة "خطر وجودي" من دولة تريد أن تسرق حلمه ومستقبله.

 

حوّل الإعلام قضية الخلاف حول سد النهضة من قضية قابلة للقياس والتعاطي العلمي إلى قضية هلامية، لا توجد وسائل لقياس نجاح وفشل المفاوضين فيها إلا بمعيار الوطنية أو الخيانة

إن الأمر الذي أثبتته جميع الدراسات الموثوقة أنّ سد النهضة عند اكتماله سيُحقِّق فوائد جمّة لإثيوبيا وفوائد كبيرة للسودان، فهل يجوز تعطيل الفوائد المتوقعة للبلدين لمجرد وجود مخاوف مصرية من تأثُّر حصتها التاريخية، أم أنَّ الطبيعي هو مخاطبة المخاوف أينما كانت، وتبديد غير الموضوعي منها، وتقديم إجابات وحلول مقنعة ومستدامة؟ فقد كانت المخاوف المصرية مع بدء التفاوض حول موضوع السد، قبل عدة سنوات، معنيّة بالدرجة الأساسية بضمان ألا يؤثر السد، خلال سنوات ملئه وبعد تشغيله، على حصة مصر التاريخية من مياه النيل، وزادت مصر فأضافت موضوع "معدل أمان السد" الذي يخص إثيوبيا والسودان بالدرجة الأولى، وانخرطت إثيوبيا في خطوات عملية لطمأنة السودان ومصر، وشكلت البلدان الثلاث لجنة دولية لمراجعة التصميم والتنفيذ، حيث أوصت هذه اللجنة بتنفيذ عدة توصيات استجابت لها إثيوبيا، الأمر الذي زاد التكلفة الكلية بنحو 3 مليارات دولار.

لقد حوّل الإعلام قضية الخلاف حول سد النهضة من قضية قابلة للقياس والتعاطي العلمي إلى قضية هلامية، لا توجد وسائل لقياس نجاح وفشل المفاوضين فيها إلا بمعيار الوطنية أو الخيانة، ومن شأن ذلك أن يسهم في زعزعة الثقة بين شركاء سد النهضة الثلاثة، ويفتح المستقبل على سيناريوهات يمكن أن يكون لها أثر سلبي عميق على مصر وعلى التضامن العربي الأفريقي.

أعتقد أنّ بوسع الإعلام أن يلعب دورًا إيجابيًّا، ويدفع الجانب المصري باتجاه عدم التصعيد مع إثيوبيا على الصعيدين الثنائي والدولي؛ ذلك أن أي تحكيم دولي من شأنه أن يلغي فكرة الحق التاريخي في مياه النيل، ويضع معايير جديدة لحصص الدول الثلاث، وحينها ستطالب إثيوبيا بنصيبها هي الأخرى، وسيكون ذلك خصمًا من حصتي مصر والسودان.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.