مخاضات ولادة "الدولة الثقافية"

blogs ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية
blogs ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (مواقع التواصل الاجتماعي)

إذا كان تعريف ماكس فيبر للدولة "بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار جغرافي معين يمارسه على مجموعة معينة من الأفراد (المجتمع)"  فإنه أشار هنا إلى مكونات الدولة من حيث الجغرافيا والمجتمع، ويذهب فرانسيس فوكوياما إلى أنه "للدولة مكونان: الأول محسوس وهو مؤسسات الدولة، والمكون الثاني غير محسوس وهو "بناء  الأمة" (nation building)، من الانتماء للوطن والانتماء للمجتمع.. إلخ، واعتبر أن الجزء المحسوس من الدولة لا يمكنه أن يعمل بشكل صحيح ما لم يبنَ الجزء غير المحسوس"، وإذا كانت هذه قراءة عالم معاصر فهو لا يعني بها الدولة المعاصرة، بل كانت قراءة لبناء الدولة منذ اتفق الإنسان على تشكيلها لضرورتها في إدارة تعقيد علاقات الفرد مع الفرد الآخر، وعلاقة المجتمعات بعضها مع بعض، وعلاقة مجتمع ما ككل مع باقي الكون من جماد وحيوات أخرى غير الإنسان.

 

وعند الوقوف على مفهوم "الجغرافيا المحددة" في العصور القديمة المتأخرة والعصور الوسطى وصولا إلى العصر الحديث فيما قبل الحرب العالمية الأولى فإن مفهوم الحِمى للملوك والسلاطين هو الموجود، حيث ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جزء من حديث صحيح "ألا وإن لكل ملك حمى.."، غير أن مفهوم الحمى لم يصل لأن يكون حدودا تحترمها الممالك الأخرى، وبقي العرف بين الدول يسمح بانسياح الحمى لتكون حمى الملوك حيث تصل خيولهم.

سمح بذلك الانسياح محدودية آثار الحروب على المجتمعات المتحاربة من جهة، وعلى باقي الدول قريبة كانت أو بعيدة عن تلك الحروب من جهة أخرى، ذلك أن أدوات الحرب كانت محدودة القدرة على تحقيق الدمار، وتعتمد بشكل كبير على القدرات المحدودة للإنسان، والحيوان الذي يستخدمه في الحروب.

وتزامنت العقود الأولى للثورة الصناعية الثانية مع حادثة اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب في 28 يونيو/حزيران 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو، وكانت هذه الحادثة سببا في مقتل ما يقارب 16 مليون إنسان وإصابة 20 مليون آخرين، ودمار هائل امتد إلى دول عديدة، هذه المقتلة الكبرى والتي اصطلح عليها بالحرب العالمية الأولى كانت نتيجة أولى لتقدم أدوات الحرب، بمعنى آخر أن الثورة الصناعية أدهشت العالم بقدرتها على القتل والتدمير.

 

انتقلت الدولة من التوسعية بمكونها المحسوس الإمبراطوري ومكونها غير المحسوس وهو الدين إلى الدولة الحديثة بمكونها المحسوس الحدود، لكنها بقيت بين الحربين العالميتين باحثة عن الحامل الثاني غير المحسوس

دفعت الحرب العالمية الأولى الساسة إلى التفكير مليا في ضرورة إيجاد ضابط يمنع اندلاع الحروب التي باتت مدمرة بنحو غير منضبط، فكان ترسيم "الحمى" ضرورة، وكان الحل هو "الحدود"، وبالتالي ولادة الدولة الحدودية وإجبارها على احترام حدود الدول الأخرى، وذلك عبر شرعنة هذه الحدود على مستوى الكوكب (دوليا)، وحل هذه الشرعية الدولية هو إيجاد هيئة دولية يكون أعضاؤها دول الكوكب جمعاء، يقر بعضها لبعض بما رسم لها من حدود، بعيدا عن ملابسات هذه الرسوم، فكانت "عصبة الأمم" وورثيتها هيئة الأمم المتحدة.

انتقلت الدولة من التوسعية بمكونها المحسوس الإمبراطوري ومكونها غير المحسوس وهو الدين إلى الدولة الحديثة بمكونها المحسوس الحدود، لكنها بقيت بين الحربين العالميتين باحثة عن الحامل الثاني غير المحسوس، إذ لم يعد الدين صالحا لأن يكون حاملا مرافقا لحامل الحدود، فجاءت القومية نازية وفاشية وانساقت وراءهما قوميات أخرى عربية وكردية وغيرهما لتفشل جميعها، وانتهت الدولتان النازية والفاشية بنهاية مفجعة فاقت كل تصور، حيث بلغت خسائر الإنسانية في فاجعة الحرب العالمية الثانية أكثر من 80 مليون قتيل، وكانت الخسائر ناتجا حقيقيا للتقدم الصناعي من طائرات ودبابات وقنابل وألغام.

كانت الحرب العالمية الثانية صدمة للإنسانية جمعاء أسقطت عصبة الأمم، لكن العالم كان بحاجة إلى هيئة دولية تمنع نشوب حروب غير منضبطة فولدت هيئة الأمم المتحدة، واستمرت الحاجة إلى وجود حامل ثانٍ للدولة الحدودية الحديثة فكانت "الوطنية" هي الحل، فالوطنية ليست عابرة للحدود وتستطيع أن تكون ضمن إطار جغرافي محدد، وهي سقف لأديان وقوميات وثقافات متعددة.

ولقي طرح المرجعية الوطنية والحامل الوطني دعما دوليا وشرعية واحتراما للهويات الوطنية، ودُعم بنوع واسع من تبادل العلاقات الدولية وتبادل السفراء، مما جعلها تترسخ من الناحية الدولية، غير أنها في داخل كل حدود كانت بحاجة إلى دواعم كبرى كي تجمع أديانا وأقواما وثقافات متعددة تحت سقف واحد، فكانت هذه الدواعم علما واحدا ونشيدا وطنيا "محط هيبة واحترام" ولغة رسمية واحدة على الأغلب ومنهجا دراسيا موحدا ونوعا من إعلاء زي وطني للرجل وآخر للمرأة، أو على الأقل طبيعة ليس يكاد المرء يميز بها مواطن بلد عن مواطن بلد آخر، وعلى أقل تقدير أن يكون هناك لباس مدرسي موحد، بل وحتى صياغة تاريخ موحد، سواء كان حقيقيا أم احتوى على مبالغات فرضتها الحاجة لإيجاد مرجعية تاريخية لوطنية ناشئة.

 

حاولت الوطنية إذابة مجتمعات متعددة في مجتمع واحد حفاظا على الوطنية، وما كادت الدولة الوطنية تترسخ في بلدان وتعاني من الولادة في بلدان أخرى كالدول العربية مثلا حتى فاجأتها ثورة جديدة هي الثورة التقنية باتصالاتها وبرمجياتها.

هذا عدا عن إبراز الرموز الوطنية والفريق الرياضي الوطني، وقد يكون الفريق الوطني لكرة القدم هو الأكثر قدرة على التعبير عن الولاء للوطن، وبقيت الرموز الرياضية الوطنية مصدر فخر لأبناء الوطن الواحد، وقد بقيت الدولة الوطنية بقناة تلفزيونية رسمية وقناة راديو رسمية وحتى صحيفة أو اثنتين هما الرسميتان، بمعنى الوطنيتين، بل عملت الدول على نشر موسيقى تكون بمثابة موسيقى وطنية، وعم الوطن قانون واجب التطبيق على سائر أبنائه.

لم تحترم الوطنية تنوع البلد الواحد، ففي كثير من الأحيان اضطهدت الأديان وحتى الرموز الدينية (معركة البكيني – البوركيني)، وأعلت لغة على كل لغات الأقوام الموجودين في البلد الواحد، ودعمت موسيقى على باقي الموسيقات، وجعلت زيا يميز الدولة دون باقي الأزياء، وبطبيعة الحال الصحيفة الرسمية والإذاعة والتلفزيون جميعها أبرزت ثقافة اعتبرتها مشتركة في عمل ممنهج لغمر باقي الثقافات، كل ذلك للضرورة الوطنية.

وحاولت الوطنية إذابة مجتمعات متعددة في مجتمع واحد حفاظا على الوطنية، وما كادت الدولة الوطنية تترسخ في بلدان وتعاني من الولادة في بلدان أخرى كالدول العربية مثلا حتى فاجأتها ثورة جديدة هي الثورة التقنية باتصالاتها وبرمجياتها.

كانت للثورة التقنية مقدرة عجيبة على عبور الحدود وهز دعائم الدولة الوطنية، فلم تبق زيا محددا، حيث عبرت دور الأزياء من الشركات الكبرى عبر الحدود وألبست الناس أزياء تكاد تكون موحدة، وهو زي بحسب الموسم لا بحسب المرجعية الوطنية، وتعددت المناهج الدراسية في البلد الواحد، فمنها العالمي، ومنها الأميركي، ومنها البريطاني، ومنها المحلي، ومنها.. ومنها، وجميعها يوازي المنهج الوطني من الناحية الأهم وهو الشرعية القانونية.

عبرت التقنية الحدود فأخفت القناة التلفزيونية الرسمية، وسمحت لكل إنسان أن يتابع ما يناسبه من قنوات حتى لا يكاد المرء يمر على القناة الرسمية للبلد الذي يقطن فيه إلا قليلا، بل استطاعت الثورة التقنية إبراز أبطال رياضيين موحدين، وبات المشجعون منقسمين ما بين فريق دولي وفريق دولي آخر، بل كاد محبو كرة القدم في العالم أن ينقسموا بين برشلونة وريال مدريد، لا بين فرقهم الوطنية.

قد تكون للدولة الوطنية لغة رسمية، لكن الهاتف الجوال وتطبيقاته سمحا للإنسان أن يعيش بلغته التي يريد وحيثما يكون، قد يكون في بلد ينطق بالإنجليزية، لكنه يتواصل طوال الوقت بلغته المفضلة عبر تطبيقات الهواتف غير عابئ بلغة البلد، يقرأ الصحف ويسمع الإذاعة ويتابع التلفاز بلغته التي يريد مهما كانت اللغة الرسمية للبلد الذي يعيش فيه.

وقد يكون أكثر ما عانته الدولة الوطنية من الثورة التقنية أن الأخيرة نقلت قضايا بلد ما إلى باقي البلدان غير عابئة بالحدود، فما تكاد حركة "السترات الصفراء" تظهر في فرنسا حتى تنتقل هنا وهناك، ويقتل جورج فلويد في أميركا بشكل عنصري، فتقوم بلدان العالم منادية "لا أستطيع التنفس"، مسقطة تماثيل كانت تمثل رموزا وطنية لم يكن لأحد أن يتجرأ على انتقادها لا من داخل الحدود ولا حتى من خارجها.

وفي الوقت الذي سمحت فيه الثورة التقنية لمزيد من تقدم الأسلحة وجعلها أكثر فتكا فقد دفعت السياسين إلى مزيد من التمسك بالحدود خشية انفلات حرب تأكل الأخضر واليابس ولا يكون فيها رابح أبدا، لكن في الوقت ذاته لم تعد دعائم الوطنية قادرة على تشكيل حامل "غير ملموس" للدولة الحدودية، بل لم تعد الدولة الوطنية قادرة على الصمود للقرن الـ21، فقد باتت الشعوب تتطلع لعيش ثقافتها بشكل مشترك مع الثقافات الأخرى لا بشكل تنازلات لصالح ثقافة أعم.

 

تُعرف أميركا بأنها "بوتقة تذوب فيها كل الثقافات"، وتُعرف كندا بأنها "بوتقة تعيش فيها كل الثقافات"، لكن أميركا تعاني من أزمة اجتماعية

باتت الشعوب تتطلع إلى سقف يحترم تعددية ثقافاتها ولغاتها وأديانها ويحافظ على هوياتها، وأصبحت الشعوب تهتم بجودة اللعب لا بمرجعية اللاعبين، جودة المنهج التعليمي هي الأهم لا مرجعيته، وترغب الشعوب بسماع كثير من الموسيقى، فذلك يغنيها ويجعلها أكثر اطلاعا ومعرفة، فلم تعد تعتقد بتفوق موسيقى وطنية على باقي الموسيقات، بل أصبحت رمزا لمن يساعد على إنهاء أزماتها لا من ينتمي الى جغرافيتها.

قد لا تمانع الشعوب في ترسيم الحدود، لكن لتحد من طموحات السياسيين في إشعال الحروب وليس لتحد من طموحاتهم في عيش ثقافاتهم واحترام هوياتهم، قد تدافع الشعوب عن حدودها، لكن ليس لأجل أن تكون تلك الحدود قيودا عليها، فتفرض عليها قوالب وبديهيات (وطنية) هي ليست بالبديهيات.

تُعرف أميركا بأنها "بوتقة تذوب فيها كل الثقافات"، وتُعرف كندا بأنها "بوتقة تعيش فيها كل الثقافات"، لكن أميركا تعاني من أزمة اجتماعية تلو أخرى، لم يكن آخرها أزمة قتل فلويد، فيما تشكل كندا نموذجا مهما -وإن كان يحتاج إلى تطوير- لدولة فيها سقف تستظل به أديان وأعراق وثقافات متعددة، يحق لأهل منطقة كيبيك الكندية أن يطلبوا الانفصال، ويحق لسائر الكنديين أن يعلنوا معارضتهم هذا الانفصال، دون أن تحصل أزمة اجتماعية أو حرب أهلية.

ولم تكن اللغة حاجزا  في كندا، فكل ورقة رسمية مطبوعة بلغتين، فليس الهدف بأي لغة تتكلم، بل الهدف المعلومة التي يجب أن تصلك أو أن توصلها.

وشكلت المدينة المنورة نموذجا مهما "للدولة الثقافية"، دولة تحترم الهويات الصغرى وتبني سقفا تتعايش تحته جميع الثقافات بأديانها وأعراقها ولغاتها، تصوغ أهدافا مشتركة، وتعمل بجد للوصول إلى أهدافها، جاعلة من التنوع غنى لا عيبا يجب إنهاؤه.

وفي القرن الـ21 حيث الثورة التقنية تتألق وتزداد تألقا ستساعد الشعوب على عيش هوياتها ناظرة إلى باقي الهويات بتفهم لا باستنكار، في هذا القرن من يريد أن يعود للدولة القومية فهو يخاطر بجميع البشرية ويتاجر بدماء قومه أكرادا كانوا أم عربا أم غيرهم من شعوب، ومن يريد أن يتمسك بصناعة دولة وطنية فهو يصنع الفوضى والاضطرابات والحروب الأهلية داخل حدود وطنه.

لكن من يريد أن يبلور دولة تحترم ثقافات شعوبها وهويات مكوناتها، دولة قادرة على إشراك الجميع في صناعة القرارات التي تخص الجميع فذلك يدعو إلى استقرار يسمح بتنمية بآفاق لا حدود لها، ما أدعوه "الدولة الثقافية"، دولة تحقق طموحات شعوب الربيع العربي وطموح أصحاب "السترات الصفراء" وطموحات شعوب "لا أستطيع التنفس".

لن تكون "الدولة الثقافية" قادرة على الصمود إلا بتحالفات إقليمية، مرجعياتها دائرة ثقافية أكبر لكنها دائرة مشتركة، ثقافات مشتركة بين إقليم كبير فيه دول متعددة، هذه التحالفات يمكن أن تكون بديلا لنظام دولي بات عاجزا، ورمز عجزه "مجلس الأمن" بـ"الفيتو" غير المبرر في قرن التقنيات.

مصادر:

[i] الحكومات العالمية وتطورات المجتمع الدولي ص 34 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.