لماذا انتصر منطق الشوكة والغلبة على رشد الخلفاء الراشدين؟

تطور تنظيم الدولة في المنطقة

الخلافات الذي وقعت مبكرا بين المسلمين -وكانت لها تداعيات ونتائج مأساوية- يمكن تفسيرها بأمرين أساسين: غياب آليات سياسية متعارف عليها اجتماعيا يرجع إليها في تقويم سلوك الحاكم ومحاسبته، بل وربما عزله إن اقتضى الحال؛ واستمرار سيادة منطق الشوكة والغلبة باعتبارها ثقافة متجذرة قبل الإسلام، ولم يكن قد تسنى له بعدُ الوقت الكافي لاجتثاها.

لقد كان هذا المنطق من الآفات التي بقيت ملازمة للمجتمع الإسلامي، رغم الثورة الثقافية والنقلة النوعية التي أحدثها الدين الجديد لدى عرب الجزيرة. والواقع أن ما رُوِّج عن سيدنا عثمان من "تساهلات" لا يصل إلى ذلك الحد الذي يبرر الخروج عليه، واستباحة دمه و"تقويمه بحد السيف".

وهو ما ترتب عنه سلوك فوضوي في ممارسة المعارضة تجاوز الحد المشروع في الاستدراك على الحاكم، وتنبيهه على جوانب القصور في سياسته، وأنتج -من ثمة- ثورة دموية انتهت بمقتل عثمان وإراقة دمه على المصحف.

من جهة ثانية؛ فتح الفقر في التقنين الدستوري، والضعف في السلوك السلمي المدني، وسيادة ثقافة الشوكة والغلبة و"التقويم بحد السيف"؛ البابَ أمام ظهور انزلاق فكري وتصوري ما زالت الأمة تعاني من مخلفاته وآثاره، ألا وهو قراءة السياسة بمصطلحات العقيدة، ونقل قضايا الاختلاف السياسي من مجال الاختلاف الفقهي المشروع إلى مجال الاختلاف العقدي، ولغة التكفير والولاء والبراء.

إذا كان القهر والتغلب السياسيان -في عصرنا هذا- هما المسؤولان في المقام الأول عن الفكر التكفيري والانقلابي؛ فإنه جدير بالملاحظة أن غياب الحصانة ضد السلوك الانقلابي، وضعف الثقافة السياسية المبنية على تقنين الخلاف السياسي وتصريفه داخل المؤسسات؛ هو الذي جعل ذلك "ممكنا"

فبدل أن يتجه التفكير الإسلامي في هذه الحالة إلى البحث عن سبل للإصلاح السلمي، وتطوير آليات الرقابة على الحاكمين؛ فإن منطق القلب للعلاقة بين العقيدة والسياسة قاد الأمة -أو بعض فرقها- إلى مسالك التكفير والانقلاب.

وإذا كان القهر والتغلب السياسيان -في عصرنا هذا- هما المسؤولان في المقام الأول عن الفكر التكفيري والانقلابي؛ فإنه جدير بالملاحظة أن غياب الحصانة ضد السلوك الانقلابي، وضعف الثقافة السياسية المبنية على تقنين الخلاف السياسي وتصريفه داخل المؤسسات؛ هو الذي جعل ذلك "ممكنا".

لقد ظهر منطق الغلبة والشوكة في سلوك المحكومين (سلوك الثوار ضد عثمان) قبل أن يظهر في سلوك الحاكمين (الدولة الأموية)، بل إن الأول قد أسس للثاني.

ومن الروايات التي تعلمناها وحفظناها -ونحن تلاميذ- في درس التاريخ، وخاصة تاريخ الخلفاء الراشدين؛ الخطبةُ المعروفة التي ألقاها أبو بكر الصديق بعد بيعته خليفة للمسلمين في اجتماع سقيفة بني ساعدة. فمما نحفظه وظللنا نعتز به قول أبي بكر: "أما بعد؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أصبت فأعينوني، وإن صدفت (= انحرفت) فقوموني، فقام رجل فقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بحد السيف".

والغريب أنه لم يرد في الروايات التاريخية ما يبين أنه وقع اعتراض على هذا المنطق الذي استدعى السيف ولغته في لحظة تولي أول خليفة للمسلمين: وفيه دلالة على أن ثقافة الشوكة والغلبة كانت متأصلة في الثقافة العربية آنذاك، وأنها هي التي انتصرت في نهاية المطاف على رشد الراشدين من الخلفاء.

وكان من نتائج انتصارها أن ثلاثة من هؤلاء الخلفاء قُتلوا غيلة: سيدنا عمر وما أدراك ما عدل عمر؛ وسيدنا عثمان الذي أخبر النبي أنه يستحيي منه لأن الملائكة تستحي منه، وما أكثر ما أنفق على الإسلام والمسلمين من ماله الخاص؛ وسيدنا علي ابن عم رسول الله الذي ضحى بنفسه ليلة خروج النبي صلى الله عليه وسلم لإفشال مؤامرة قريش لقتله.

التاريخ المعاصر يبين أن الأمة الإسلامية في العصر الحاضر عانت من جديد من انبعاث ثقافة الشوكة والغلبة، وفكر التكفير والخروج، واختزال الإسلام في تصور مشوه لمفهوم الدولة الإسلامية؛ فكم ارتُكب من الجرائم والإساءات للإسلام والاعتداء على المسلمين -وغير المسلمين الآمنين- باسم "الدولة الإسلامية"

فالمجتمع كانت فيه قابلية ذاتية للانتقال إلى حكم الغلبة والشوكة، بدليل أن المجتمع المدني (نسبة إلى المدينة المنورة) آنذاك وقف موقفا سلبيا من سلوك الثوار في المدينة، ولم يكن قويا في المطالبة بحماية عثمان وفي تطبيق حكم الشريعة فيهم (تساهل علي رضي الله عنه في قبول وجود بعض الثوار على عثمان في صفه).

صحيح أن الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه- رفض توفير حماية له، ولكن القضية لم تكن قضية عثمان الشخص، بل كانت قضية مؤسسة الخلافة، التي وضع منطق الغلبة والشوكة عند الثوار بداية نهايتها قبل أن يضعه الأمويون.

إن العناية بإعادة بناء الثقافة الإسلامية، وتدريب الناشئة على ثقافة الحوار والعيش المشترك مع المخالفين، والتمييز الواضح بين مجال العقيدة ومجال السياسة، ونقل قضايا الاختلاف السياسي من مجال العقيدة إلى مجال المصالح المرسلة؛ من أهم الأعمال التي من شأنها إعادة توجيه جهود المسلمين وشبابهم إلى مجالات الإصلاح الشامل، وإرجاع دور الدولة والسلطة السياسية إلى حجمهما الطبيعي.

إن التاريخ المعاصر يبين أن الأمة الإسلامية في العصر الحاضر عانت من جديد من انبعاث ثقافة الشوكة والغلبة، وفكر التكفير والخروج، واختزال الإسلام في تصور مشوه لمفهوم الدولة الإسلامية؛ فكم ارتُكب من الجرائم والإساءات للإسلام والاعتداء على المسلمين -وغير المسلمين الآمنين- باسم "الدولة الإسلامية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.