لماذا لم أصدم؟

معلومات يجب أن تعرفها حال فرض الحجر الصحي في ألمانيا

منذ ظهور مرض "كوفيد-19" ولا شغل للناس -وأنا منهم- سوى البحث في أصل هذا الفيروس وصفاته وسلوكه. تحول الأمر إلى رهاب؛ لكني لم أُصدَم حين عرفت ولم أخش الموت، لسبب بسيط هو أنه كان قد اختفى بكل أعراضه.

تأخرت نتيجة الفحص حتى إني قلت في نفسي: إن لم تكن هذه هي كورونا فماذا تكون؟ طبعًا "كورونا" ليست هي التشخيص الدقيق، إذ إنها فصيلة كبيرة منها الإنفلونزا نفسها.

الفيروس الذي أصابني هو "سارس كوفيد-2" المسبب لمرض "كوفيد-19" المعروف إعلاميا باسم "كورونا". وعلى ثقل الأعراض التي عانيتها في البداية؛ فإني أصنَّف في الحالات الخفيفة. كان الله إذن في عون الحالات الثقيلة والحرجة.

كوني سافرت إلى بلاد أصابها الوباء خفف من وقع الصدمة؛ فمن غير المعقول أن يكون ما ظهر علي هو بسبب دور برد عابر، بينما أنا قادم لتوي من مطارات يقصدها المسافرون من كل أصقاع الأرض، وهبطت من طائرات لو أغمضت عينيك فيها تسمع صوت أنفاس ودقات قلب الراكب المجاور لك، وأنا وهو ومئات غيري في هذه الرحلة قصدنا حمامًا لا يستطيع المرء أن يستدير فيه لفرط ضيقه. 

أين الصدمة إذن؟ لماذا أصدم؟
نعم شعرت في بعض الأحيان أني سأموت من غرابة الأعراض وثقلها، وأخذت على نفسي عهودا. قلت: أريد أن أكون لأولادي كما كان أبي لي، كان أبي هو كل حياتي.

كنا نلعب معا ونركض معا، نقرأ الشعر معا ويحكي لي قصص الأولين، وأحفظ عنه القرآن، وأحضر مجالسه مع رجالات قريتنا ومجالس التحكيم العرفي التي تفض النزاعات، بعيدًا عن الدولة وحكومتها وشرطتها ومحاكمها.

كنت أزرع معه حقولنا المتناثرة في الشمال والجنوب حول ترعتنا، التي تهدر كما لو كانت نهرا شديد الفتوة في بلاد أخرى، لكنها لم تحظ بلقب "نهر" فقط لأن حظها أنها تجاور النيل وأنها تنشأ منه. وكم غرق فيها من فتيان قريتنا بسبب تيارها الجارف، كنت فقط محظوظا لأنها لم تأخذني معهم.

كوني سافرت إلى بلاد أصابها الوباء خفف من وقع الصدمة؛ فمن غير المعقول أن يكون ما ظهر علي هو بسبب دور برد عابر، بينما أنا قادم لتوي من مطارات يقصدها المسافرون من كل أصقاع الأرض

أبي كان فلاحا ولكن ليس ككل الفلاحين، كان يخبز مع أمي وينظف البيت، كان وجيها في قومه وبلدته، متواضعا ودودا مع أهل بيته. لم يكن أبدا يناديني إلا بـ"سيدي" (بكسر السين والدال ودون تشديد)، وكأني مالكه لا ابنه.

هذا الأب كنت أتعلم منه أكثر من المدرسة، وكنت أحبه أكثر من كل ألعابي التي كنت أصنعها بنفسي. هو علمني ذلك أيضًا. هذا الأب أفتقده حتى الآن، وظللت سنين طوالا أبكيه كل ليلة.

فكرت في حالنا اليوم: هل نحن لأبنائنا كما كان أبي لي؟ هل أبناؤنا الآن يحتاجون أبًا كأبي؟ والإجابة في رأيي نعم. لكن هل هذا ممكن؟ ألم أكن متعلقًا بأبي وأمي إلى هذا الحد لأنه لم يكن هناك ما يشغلني عنهما أو يشغلهما عني؟

نعم كان هناك ما يشغلنا جميعًا، أنا والأطفال كان يمكن أن نمضي كل أيامنا لهوًا ولعبا، وما أكثر الألعاب التي كانت تستغرق يومنا كله. لا شك أن أبي كان لديه الكثير من الأعمال والمسؤوليات، لكن إذا حضر حضرت البهجة كلها، ومن هذه البهجة يدخل ما يشاء في قلبي وعقلي.

أعلم أن أبنائي يحبونني كثيرا، وأنا أحبهم أكثر؛ لكنني أخشى أننا في زمن بتنا فيه أقل تأثيرًا في أولادنا، وباتوا هم أقل تعلقا بنا.

أحسب أن هذا الإغلاق العام في العالم هو فرصة لنا لنكون آباء كما يجب، آباء كأبي الذي ترك بصمة في نفسي لم تمحها السنون، آباء نلعب ونعلم ونتعلم مع أبنائنا مرة أخرى.

للأسف؛ لم تُتَح لي هذه الفرصة لأني كنت أمارس العزل الطوعي بداية، ثم وضعت في الحجر الصحي. لكنني أنوي أن أغتنم كل لحظة لي مع أولادي، إذا خرجت سالما من هنا وعدت إلى بيتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.