أعيدونا إلى ميدان الاعتصام

Omran Abdullah - من اعتصام الخرطوم، رويترز - أناشيد الانتفاضة السودانية.. فنانون واكبوا الثورة الشعبية بقصائدهم وألحانهم

الجمع المخاطَب هنا ليس هو فقط مَن بيدهم الأمر من حكام السودان الحاليين -وإن كانوا هم الأولى بالمخاطبة- وإنما هو أيضاً من هم خارج السلطة، من قوى السودان السياسية والاجتماعية؛ ذلك أن السودان -فعلاً لا قولاً- يحتاج إلى جهد إيجابي من جميع أبنائه، حتى يَعبُر من عنق الزجاجة الذي هو فيه الآن!

أما ميدان الاعتصام -الذي نطالب بالعودة إليه- فليس هو تلك المساحة الجغرافية المعروفة في وسط العاصمة الخرطوم، ولا هو تلك المساحة الزمنية الممتدة بين 6 أبريل/نيسان و2 يونيو/حزيران 2019؛ وإنما هو -فوق هذا كله- المعاني والقيم التي تجسدت في تلك المساحة الجغرافية والزمانية، وأعادت إلى السودانيين الأمل في إعادة بناء وطن طالما حلموا به وتفاخروا.

بدأت قصة ميدان الاعتصام تاريخياً برسم المشهد الأخير من عمر نظام جبهة الإنقاذ، الذي هو مثار الحديث والجدل في هذه الأيام التي تصادف الذكرى الأولى لذلك الحدث في تاريخ السودان. والذي يعنيني في تلك الوقائع -وأود تأكيده هنا- هو أن الغالبية العظمى من مناصري حكم الإنقاذ تعاملوا مع مشهد "انتقاله إلى الرفيق الأعلى" بقلوب راضية بقضاء الله وقدره.

وتأسيساً على هذا الزعم؛ نستطيع أن نقول إن أهل السودان كانوا في ميدان الاعتصام -وما بعده من أيام الاعتصام التي نعنيها- فسطاطين رئيسيين: غالبية كبيرة يعمها فرح غامر بزوال النظام، ويحدوها أمل كبير في انصلاح الحال والمآل؛ ومجموعة أخرى أقلّ مرتابة في المستقبل، وتقف متفرجة على تطورات الأحداث تأمل أن تكون عاقبة أمر السودان على خير.

والخلاصة هي أنه -عقب سقوط النظام- لم تكن هناك إلا مجموعة محدودة ربما حدثتها نفسها بأن تقف ضد التغيير الذي حدث، أما غالب أهل السودان -بمختلف اتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية وبمن فيهم منتمون للتيار الإسلامي- فكانوا يتطلعون إلى مستقبل مختلف ويتوقون لوطن يسوده السلام والاستقرار.

أهل السودان كانوا في ميدان الاعتصام -وما بعده من أيام الاعتصام التي نعنيها- فسطاطين رئيسيين: غالبية كبيرة يعمها فرح غامر بزوال النظام، ويحدوها أمل كبير في انصلاح الحال والمآل؛ ومجموعة أخرى أقلّ مرتابة في المستقبل، وتقف متفرجة على تطورات الأحداث تأمل أن تكون عاقبة أمر السودان على خير

على أن رمزية ميدان الاعتصام لم تكن هي هذه القراءة الإجمالية للمواقف السياسية، وإنما -وهو الأهم- أن الميدان تحوّل إلى ورشة ضخمة لإعادة بناء الشخصية السودانية، وتعزيز القيم التي طالما تغنى بها السودانيون، الذين جسدوا كرمهم ووحدتهم وتنوعهم واقعاً في تلك المساحة الجغرافية والزمانية.

ورفعوا سقف آمالهم وتصوراتهم للوطن الذي يحلمون به إلى عنان السماء؛ وبدا -في ذلك الوقت- أن كل شيء تمناه السودانيون هو قاب قوسين أو أدنى: السلام الشامل، والحرية الكاملة، والعدالة التي لا يشوبها دخن، والاستقرار والتنمية، والبناء والإعمار!!

ولست هنا في حاجة لأن أحكي للناس -من السودانيين ومن ذوي الاهتمام بالشأن السوداني- ما الذي حدث عقب ذلك، ولا أن أذكرهم بمقولة عضو المجلس العسكري وقتها الفريق شمس الدين كباشي الشهيرة: "وحدث ما حدث".

لكني أود أن أشدد على القول إن "ما حدث" -وما تلاه من أحداث حتى يومنا هذا- وإن جاء مفارقاً لما تطلع إليه شباب وشيوخ السودانيين خلال أيام الاعتصام، وداخل الميدان وخارجه؛ فإنه لا ينبغي أن يكون نهاية القول وخاتمة المطاف، أو أن يكون هو الصخرة التي تتحطم فوقها آمال وطموحات الشباب السوداني، الذي ضحى بنفسه وقدمها -في مختلف الحقب- رخيصة في سبيل أن يرى وطناً حراً يفاخر به بين الأمم!!

أقول هذا، وأرجو ألا يفهم أحد أنني أدعو إلى -أو أناصر- فكرة أن نبقي على ما حدث في ذلك اليوم (3 يونيو/حزيران 2019) مستوراً وبلا مساءلة؛ لكني -وبذات الوضوح- أقول إنه لا يجوز أن نحبس قطار الوطن في تلك المحطة مهما بلغت مرارتها، ولا حتى في "المحطات" التي أقامتها السلطة الحاكمة الآن بمجلسيها وحاضنتها السياسية.

وذلك ببساطة لأن ما حدث -على أهميته- ليس من أولويات البناء والتنمية، وليس لازما من لوازم النهضة؛ فالثأر و"فشّ الغبينة" لم يكن في يوم من الأيام رافعةً من روافع بناء الأوطان!!

تاريخ السودان -الذي تشكل بحدوده الجغرافية في 1821م عقب غزو محمد علي باشا- مليء بالقتل والثأر والثأر المضاد، من لدن مذبحة المتمة في 1887م وحتى فض الاعتصام في يونيو/حزيران  2019م، مروراً بكرري وأم دبيكرات، وأحداث الجزيرة أبا، وبيت الضيافة، وضحايا الحروب الأهلية -في جنوب السودان وفي دارفور- الذين هم بمئات الآلاف.

يجب أن تشغلنا كيفية بناء المستقبل الذي نريده لوطننا وأجياله الحالية والقادمة؛ ولذلك ينبغي أن نطهر أنفسنا من مراراتها ومن أنانيتها، وأن نجتمع على صعيد واحد، لنتفق على كيفية بناء السودان الذي نحلم به جميعنا، والذي جرى التعبير عن ملامحه في ميدان الاعتصام

وما كل هذا إلا محطات بارزة من "التاريخ الدموي" في السودان، وهو -في نظري وربما نظر آخرين- ما يستدعي إقامة "محاكمة" لهذا التاريخ مجتمِعاً؛ ليس فقط لأجل إنصاف الضحايا وجبر ضررهم، ولكن أيضاً لتأسيس المستقبل السوداني على رضا الجميع، ولأخذ الدروس والعبر حتى لا تتكرر المآسي.

لست مؤرخاً، لكني أميل للاعتقاد بأنه ليس هناك من مكوناتنا السياسية أو المناطقية مَن لم يكن ضحية في يوم ما، أو مَن هو بلا خطأ أو خطيئة، وخاصة ممن تعاقبوا على حكم السودان. لكن أولويتنا في الوقت الراهن لا ينبغي أن تكون هي مطاردة أشباح الماضي، ولا الاستغراق في تفاصيل الراهن الأغبر.

بل يجب أن تشغلنا كيفية بناء المستقبل الذي نريده لوطننا وأجياله الحالية والقادمة؛ ولذلك ينبغي أن نطهر أنفسنا من مراراتها ومن أنانيتها، وأن نجتمع على صعيد واحد، لنتفق على كيفية بناء السودان الذي نحلم به جميعنا، والذي جرى التعبير عن ملامحه في ميدان الاعتصام.

أما محاسبة من قتل أو سرق أو أساء التصرف في الشأن العام؛ فهذا مسار -على أهميته- ينبغي أن يكون منفصلاً، وأرى أن يتم إقراره في أجواء مصالحة عامة، وأن ينتدِب له السودانيون مَن هم محل ثقتهم ممن تتوفر فيهم صفات الاستقامة والقدرة والعدالة، لكي ينهضوا به دون تدخل من سلطة سياسية، ودون ضغط من رأي عام.

هذه المهمة المقدسة لا تحتمل التأجيل، ولعل طبيعة الأشياء تقتضي أن تبادر بها السلطة الحاكمة الآن، فترتفع فوق الصغائر والمرارات، وتستنهض في الناس روح ميدان الاعتصام من جديد، وقيم الخير التي تجمع الناس، حتى يصوب السودانيون جهدهم نحو التلاقي والبناء لا التنازع والفشل.

وليبحث أهل السياسة -بروح ميدان الاعتصام نفسها- قضايا التحول الديمقراطي المنشود، والسبل الكفيلة بإحلال السلام والعدالة وتجسيد الحرية واقعاً بين الناس. وليتذكروا أن للشعب أيضاً "محكمته" التي سيُسقط من خلالها -عبر صناديق الاقتراع- كلَّ من أساء التصرف في الشأن العام، متى ما شاء!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.