المشرق العربي.. ساحة معركة إقليمية ودولية (5-5)

epa07846982 A handout picture provided by Turkish Presidential press office shows Turkish President Recep Tayyip Erdogan (back-R), Russian President Vladimir Putin (L) and Iranian President Hassan Rouhani (R) attend their summit in Ankara, Turkey, 16 September 2019. Erdogan, Putin and Rouhani are in Ankara for a trilateral meeting for Syria talks. EPA-EFE/MURAT CETINMUHURDAR/TURKISH PRESIDENTIAL PRESS OFFICE HANDOUT HANDOUT EDITORIAL USE ONLY/NO SALES

شكل الحضور الروسي والصيني والدور الذي لعبته موسكو وبكين في الإقليم -وخاصة في سوريا- مصدرَ قلق وإزعاج للوجود الأميركي في المنطقة، إن لجهة التأثير على توازن القوى أو لجهة تقييد تحركات القوات الأميركية فيها، أو لجهة تعقيد معادلات الصراعات.

صحيح أن قوّة الحضور الأميركي الصغير في سوريا والعراق تتضاعف بوجود بنية تحتية عسكرية أميركية ضخمة في المنطقة، لديها عشرات الآلاف من الجنود المنتشرين في 14 دولة بالمنطقة (تركيا والأردن والإمارات وقطر والبحرين والكويت وأفغانستان.. إلخ)، ما من منافس ولا منازع لها، وهذا واقع أدركته القوى المتحالفة مع النظام السوري بعد تجربة مريرة في فبراير/شباط 2018، عندما واجهت القدرات العسكرية الأميركية المتفوّقة والجبّارة حين حاولت القيام بهجوم عليها شرق الفرات.

لكن هذا لا يقلل من الأثر الذي شكله الحضور الروسي والصيني على التوازنات والصراعات والأدوار، خاصة بعد التوتر الذي شهدته العلاقات الأميركية التركية على خلفية تباين مواقف الطرفين من "وحدات حماية الشعب الكردية" الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، ودورها في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، والدعم العسكري الأميركي الكبير المقدم لها أو للإطار الجديد حينها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

وكذلك انخراط تركيا في مسار أستانا وتنسيق مواقفها السياسية والعسكرية في سوريا مع روسيا وإيران، علما بأن روسيا اعتبرتها إستراتيجية الدفاع القومي الأميركية للعام 2018 عدوة، واقترحت إعادة تركيز جهد القوات الأميركية لينصب على منافستها هي والصين.

قوّة الحضور الأميركي الصغير في سوريا والعراق تتضاعف بوجود بنية تحتية عسكرية أميركية ضخمة في المنطقة، لديها عشرات الآلاف من الجنود المنتشرين في 14 دولة بالمنطقة (تركيا والأردن والإمارات وقطر والبحرين والكويت وأفغانستان.. إلخ)، ما من منافس ولا منازع لها، وهذا واقع أدركته القوى المتحالفة مع النظام السوري

أما إيران فهي موجودة على جدول أعمال الإدارات الأميركية المتتالية منذ عام 1979، ودورها في حالة عدم الاستقرار التي تشهدها المنطقة يؤثر سلبيا على المصالح الأميركية؛ وتسعى إلى توظيف الخلافات الصينية/الروسية مع الولايات المتحدة من أجل تبني مواقف لصالحها؛ وبالتالي زيادة الضغوط ضد الولايات المتحدة.

يتمثل الهدف المشترك بين الدول الثلاث (روسيا الصين وإيران) في الحد من النفوذ الأميركي في المنطقة والعمل على إخراج واشنطن منها، وتهديد تركيا المتكرر ضد الوجود الأميركي على أراضيها -في قاعدة إنجرليك بشكل خاص- يشكل تحديا للوجود الأميركي في المنطقة.

إن خروج أميركا من المنطقة يعني سيطرة روسيا وإيران على المشرق العربي برمته، خاصة ان حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة (الأردن ومصر وإسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين) ليسوا أقوياء باستثناء إسرائيل، وليست لديهم طموحات إقليمية مثل تركيا وإيران، مما يجعل حرص تركيا على الموازنة بين الشرق والغرب مقلقًا أكثر فأكثر بالنسبة للولايات المتحدة.

كانت سوريا والعراق ساحتيْ مواجهة وتنافس بين تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية والإمارات وقطر، كل منها تحاول تحقيق مكاسب جيوسياسية وتسجيل نقاط على خصومها ومنافسيها، وقد استدعت تطورات الصراع السوري تحالفات متحركة ومتغيرة حيث تقاطعت تركيا والسعودية والإمارات وقطر -كل لحساباته الخاصة- في موقفها الداعم لقوى المعارضة السورية السياسية والمسلحة.

ثم انقلب هذا التحالف إلى تنافس ومحاولات احتواء، لينقلب في النهاية إلى خصومة وعداء صارخ، وينشأ على أنقاضه تقاطع إسرائيلي سعودي إماراتي ضد إيران وتركيا في آنٍ، لإخراجهما من سوريا ومواجهة إيران في الخليج بمباركة أميركية.

انتقلت السعودية والإمارات ومصر لمواجهة النفوذ التركي في ليبيا بمباركة روسية، وكانت سوريا -حتى وقت قريب- ساحة مواجهة مسلحة بالوكالة بين تركيا وإيران، والعراق ساحة منافسة حادة بين حلفائهما من القوى السياسية المحلية السنية والشيعية، لكن المنافسة هدأت نسبيا في ضوء تقاطع المصالح حول المشروع الكردي في شرق سوريا، وحول العمل على إخراج القوات الأميركية من هناك، كل لاعتبارات خاصة بها.

فتركيا تريد إضعاف القوى الكردية وإيران تسعى لتأمين ممرّ بري إلى لبنان وشواطئ المتوسط، مع اختلافهما على مستقبل هذه المنطقة بين إقامة منطقة أمنية بإشراف تركيا، وبين إعادتها إلى سيطرة النظام الإيراني.

والولايات المتحدة تسعى لإخراج إيران من سوريا، أو إضعاف نفوذها بصورة كبيرة، وتركز مرحليا على إبعاد تركيا عن روسيا وإيران، ودفعها للانضباط بمعايير التحالف معها. أما روسيا؛ فمع أهمية إيران لمقاربتها الجيوستراتيجية في المنطقة فإنها لا تعارض إخراج إيران -وكذلك تركيا- من سوريا، لضمان مساهمة الغرب في إعادة إعمار سوريا، لكنها لا تستعجل إخراجها بانتظار تحصيل مقابل من الغرب.

والولايات المتحدة تسعى لإخراج إيران من سوريا، أو إضعاف نفوذها بصورة كبيرة، وتركز مرحليا على إبعاد تركيا عن روسيا وإيران، ودفعها للانضباط بمعايير التحالف معها. أما روسيا؛ فمع أهمية إيران لمقاربتها الجيوستراتيجية في المنطقة فإنها لا تعارض إخراج إيران -وكذلك تركيا- من سوريا، لضمان مساهمة الغرب في إعادة إعمار سوريا، لكنها لا تستعجل إخراجها بانتظار تحصيل مقابل من الغرب

وهذا مع احتدام التنافس بين تركيا وإيران على النفوذ في المنطقة، وقدرة كل منهما على أن تكون مشاركاً فاعلاً في إطلاق تنافس إقليمي خطير على النفوذ. ويمكن اعتبار احتلال تركيا لأرض سورية أول هجوم افتتاحي في هذه المنافسة، مما جعل تركيا وإيران مصدر صداع للولايات المتحدة وروسيا، في ضوء القاعدة التي تحكم سلوك القوى الكبرى والتي تقضي بانفرادها بمناطق نفوذها والعمل على إبعاد أية قوى أخرى (دولية أو إقليمية) عن هذه المناطق.

ولذا فإنهما مع إخراج إيران وتركيا من سوريا والعراق، أو على الأقل تهميش دورهما، خدمةً لمصالحهما ولهدفهما المشترك بحماية أمن إسرائيل والحفاظ على تفوقها في المنطقة. وهذا دفع الولايات المتحدة إلى تشجيع السعودية والإمارات على الانفتاح على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ودعمها سياسيا وماليا.

وكذلك غض النظر عن الضربات الإسرائيلية لنقاط التمركز والمستودعات الإيرانية في العراق، والوقوف في وجه محاولات طهران تعزيز موقفها الجيوسياسي في سوريا، الذي أخذ أشكالا متعددة من التمدد العسكري إلى الوجود الاقتصادي والثقافي والمذهبي واختراق مؤسسات الدولة السورية.

لقد جعل ذلك كله المشرق العربي منطقة "مستقطبة ومتكاملة في آنٍ"؛ وفق وصف الدبلوماسي الأميركي روبرت مالي. وجعل أزماته وملفاته الساخنة تجتذب تدخلات خارجية للاستثمار في العوامل المحلية أو لاحتوائها بسرعة قبل تطورها وتعقدها.

وقد فتح هذا -مع الانقسام السُّني/السُّني وهياكل دول المنطقة المختلة وظيفيا- للقوى الفاعلة من غير الدول ساحاتٍ للحركة، وتسجيل الحضور وتحقيق المكاسب، وتغذية الصراعات والانخراط في حروب بالوكالة، ومنح الدول الإقليمية الرئيسية فرصاً جديدة لمحاولة توسيع مجالات نفوذها، وإطلاق منافسات جديدة على تقرير مصير الخريطة السياسية -وربما الجغرافية- للمنطقة في المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.